الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا: ما الذي تعنيه في السياق الدولي الراهن؟

أصدرت الإدارة الأمريكية في 8 أغسطس 2022 رؤيتها الاستراتيجية الجديدة لأفريقيا جنوب الصحراء، وحرص على شرحها والدفاع عنها وزير الخارجية أنتوني بلينكن خلال زيارته عدداً من بلدان القارة. ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية تندرج في إطار صراع النفوذ الدولي المتجدد في أفريقيا، وعلى الأخص تداعيات الحرب الأوكرانية الراهنة.

 

تهدف الورقة إلى تحليل أبعاد وخلفيات الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وإبراز نقاطها ومحدداتها الأساسية وتقويمها من المنظور الاستشرافي المستقبلي.

 

مرتكزات ومحاور الاستراتيجية الأمريكية الجديدة

صدرت الاستراتيجية الجديدة في وثيقة حكومية رسمية تحمل عنوان: “استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء” U.S. STRATEGY TOWARD SUB-SAHARAN AFRICA. حددت الوثيقة أربعة أهداف أساسية تسعى لها الولايات المتحدة في أفريقيا جنوب الصحراء من خلال خطة خماسية من البرامج والمشاريع:

 

  1. دعم وتشجيع قيام مجتمعات مفتوحة ومتسامحة ومتصالحة داخلياً في القارة.
  2. ربط السياسات المتبعة في الإصلاح الديمقراطي بمقتضيات السلم الأهلي والاجتماعي بمعانيه المختلفة.
  3. دعم جهود الدول الأفريقية في إعادة بناء اقتصاداتها المنهارة إثر أزمة كوفيد-19 الصحية.
  4. العمل على حماية البيئة ودعم جهود الدول الأفريقية في الحصول على الطاقة النظيفة بأبسط التكاليف.

 

وشرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن هذه الأهداف في محاضرته بجامعة بريتوريا في 8 أغسطس الجاري، مُستعرِضاً الخطوات العملية التي قامت بها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في إطار هذه التوجهات. ومن هذه الخطوات الاستثمار في أنظمة الاتصال الإلكترونية لتمكين الأفارقة من بناء قنوات فنية ناجعة للنقاش العمومي الحر والانفتاح الإيجابي على العالم. في هذا السياق، استثمرت الولايات المتحدة 300 مليون دولار في أفريقيا عام 2021 لتطوير الربط الإلكتروني، كما تعتزم صرف 600 مليون دولار في السنة الجارية لشق كابل بحري تستفيد منه الدول الأفريقية في أنظمتها الإلكترونية.

 

هذا التوجه يندرج بالنسبة للإدارة الأمريكية في سياق مواجهة الإعلام التضليلي الزائف، وكسْر احتكار الحكومات للمعلومات الحساسة، ضمن الهدف الثابت الساعي إلى تدعيم وتطوير التجارب الديمقراطية الأفريقية، التي تعاني حسب التقديرات الأمريكية من ثلاث شوائب هي: الانقلابات العسكرية المتكررة وما يصحبها من مسارات انتقالية هشة وتلاعُب بإجراءات التناوب السلمي على السلطة؛ والفساد الإداري والمالي الذي يقوض السياسات العمومية للدولة؛ وانفلات الأوضاع الأمنية بما له من تأثير بالغ على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي.

 

ومن الواضح أن الاستراتيجية الأمريكية قد انتقلت من التصور الميكانيكي للديمقراطية بصفتها مشروعاً جاهزاً للتصدير، الى إدراك عوائق ومصاعب التحول الديمقراطي في أفريقيا التي لها علاقة مباشرة بالأزمات الاجتماعية والأمنية [في القارة]. كما أن هذه الاستراتيجية تنطلق من عاملين محددين في السياسات الاقتصادية والتنموية لبلدان القارة، هما:

 

  1. معالجة آثار جائحة كوفيد-19 التي كان لها أسوأ الأثر على الأوضاع المعيشة للسكان في القارة. وبهذا الخصوص نبَّهت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة إلى دور الولايات المتحدة وشركائها في مساعدة الدول الأفريقية في مواجهة الوباء الصحي العالمي، بتوفير 174 مليون جرعة تطعيم ضد كوفيد-19 لـ 44 دولة أفريقية، مع مواصلة هذا الدعم مستقبلاً.
  2. معالجة الاختلالات المناخية في ارتباطها الوثيق بتحديات الطاقة في المنطقة. وبهذا الخصوص، أبرزت الاستراتيجية المشاريع التي تنفذها الولايات المتحدة في بعض الدول الأفريقية لتسهيل انتقالها إلى المصادر الجديدة للطاقة المتجددة، كما هو الشأن حالياً في غانا التي تمول فيها الولايات المتحدة أول محطة مزدوجة تعمل بالطاقة الشمسية مع الطاقة الهيروكهربائية.

 

ولمواجهة آثار الأزمة الغذائية العالمية في أفريقيا، أكدت الاستراتيجية على مبادرة الولايات المتحدة لمد الدول الأفريقية بالمساعدات العاجلة واستفادتها من الميزانية التي رصدتها للأمن الغذائي العالمي (11 مليار دولار تصرف على خمس سنوات، وتستفيد منها 16 دولة أفريقية).

 

وباستثناء الإعلان عن تمويل قدره ملياري دولار يصرف على دعم الديمقراطية والحكم الرشيد في افريقيا جنوب الصحراء (وفق خطة عشرية)، لا يبدو أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تتجاوز المشاريع الصغيرة المستمرة في القارة، مع بعض التعهدات العامة غير المحددة في توجهات ملموسة.

 

مع أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا حددت أهدافاً وتوجهات كبرى للولايات المتحدة تستجيب لمنطق تدعيم الممارسات الديمقراطية والإصلاح السياسي ومواجهة التطرف الراديكالي، إلا أنه لن يكون لها أثر عميق في ترتيب وضبط الأوضاع السياسية الأفريقية

 

السياق الاستراتيجي للخطة الأمريكية الجديدة

لا يمكن فصل هذه الاستراتيجية عن صراع النفوذ المتجدد في القارة الذي يرمز له الحضور الصيني الروسي المتزايد في السنوات الأخيرة. ومن الجلي أن هذه المقاربة الأمريكية تشكل ردة فعل محسوبة على الجهود الديبلوماسية التي قامت بها روسيا في أفريقيا بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، وكان من بين تجلياتها جولات القادة الروس المتكررة للدول الإفريقية (كان آخرها جولة وزير الخارجية لافروف في يوليو 2022)، ضمن توجهات بارزة من مؤشراتها الاختراق العسكري والأمني المتزايد للدول الإفريقية الحليفة للغرب، ونجاح الدبلوماسية الروسية في تحييد موقف أغلب الدول الإفريقية في الصراع الدائر في أوكرانيا.

 

وحسب العبارات الواردة في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، تعتزم الولايات المتحدة مواجهة النفوذ الروسي في أفريقيا الذي تعتبره خطيراً على أمن واستقرار القارة، نتيجة للعقود المشبوهة مع الشركات الأمنية الخاصة، ودعم الأنظمة الاستبدادية العسكرية، والتضليل الإعلامي المتعمد.

 

أما الصين فيُنظَر إليها في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بأنها تنتهك قواعد النظام الدولي، وتسعى إلى طرد أوروبا من الساحة الأفريقية التي تُتهم باستغلال مواردها وثرواتها الاقتصادية، وإخضاعها لقيود المديونية القاهِرةَ والمهينَة.

 

وهكذا يبدو واضحاً أن الاستراتيجية الأمريكية لا يمكن النظر إليها إلا في سياق لعبة العلاقات الدولية الجديدة التي تُشكِّل أفريقيا مسرحاً أساسياً من مسارحها.

 

ملاحظات تقويمية واستشرافية

لا يُتوقع أن تشكل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في أفريقيا جنوب الصحراء خطوة حاسمة في الصراع الدولي الدائر في القارة الأفريقية. ومع أن هذه الاستراتيجية حددت أهدافاً وتوجهات كبرى للولايات المتحدة تستجيب لمنطق تدعيم الممارسات الديمقراطية والإصلاح السياسي ومواجهة التطرف الراديكالي، إلا أنه لن يكون لها أثر عميق في ترتيب وضبط الأوضاع السياسية الأفريقية.

 

وباستثناء بلدان قليلة في غرب وجنوب أفريقيا تتمتع بعلاقات ثابتة ومستقرة بالولايات المتحدة (غانا، وساحل العاج، وجنوب أفريقيا، …)، فإن الاتجاه إلى تزايد النفوذ الروسي والصيني واستفادة البلدين من ثغرات وأخطاء السياسات الغربية يبدو هو الأقوى والأظهر في الآونة الأخيرة.

 

ومع أن روسيا لا يمكنها في المدى المنظور أن تكون لاعباً منافساً للغرب (الولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية) في أفريقيا، إلا أن عودتها للقارة بعد طول انقطاع أصبحت حقيقة موضوعية.

 

وتبدو الصين في موقع أقوى من روسيا في استراتيجية النفوذ في أفريقيا، وهي تتقدم حالياً على الولايات المتحدة من حيث مؤشرات التجارة الخارجية مع أفريقيا، كما أن استثمارها في البنيات التحتية الأفريقية وتعاونها الاقتصادي المتزايد مع الدول الأفريقية من شأنهما أن يعززا موقعها الجيوسياسي في أفريقيا جنوب الصحراء.

 

أما الولايات المتحدة فلا تبدو اليوم مؤهلة لفرض شروطها السياسية والاقتصادية على أفريقيا جنوب الصحراء، ومن هنا فإن استراتيجيتها الجديدة للقارة لن تكون لها على الأرجح آثار مصيرية أو فاعلة.

 

لا يُتوقَّع أن تشكل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء خطوة حاسمة في الصراع الدولي الدائر في القارة (لاسيما بين الولايات المتحدة وروسيا والصين)، فواشنطن لا تبدو اليوم مؤهلة لفرض شروطها السياسية والاقتصادية على أفريقيا جنوب الصحراء

 

خلاصة واستنتاجات

أصدرت الإدارة الأمريكية وثيقتها الاستراتيجية الجديدة لأفريقيا جنوب الصحراء، التي تحمل بصمات النظام الدولي المتفجر بآثاره الملموسة في القارة التي هي اليوم مجال استقطاب حاد من القوى الدولية الكبرى. وتمحورت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة حول دعم الإصلاحات السياسية، ومواجهة التطرف الراديكالي، وبناء مجتمعات حرة ومفتوحة ومتضامنة في بلدان القارة، ضمن مقاربة تنموية شاملة تركز على التحديات القائمة في مجالات الغذاء والطاقة والمناخ.

ولكن لا يبدو في ضوء المعطيات الراهنة أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ستُحقِّق نتائج مُعتبرَة، أو تؤدي إلى تغييرات حاسمة في تركيبة النظام الدولي وتوازناته، لكنها بالرغم من ذلك تُشكِّل خطوة مهمة في مسار السياسة الأمريكية في أفريقيا.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/alaistiratijia-al-amrikia-aljadida-fi-afriqia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M