مايكل آيزنشتات, كوري شيك, و ديفيد ديبتولا
“في 7 شباط/فبراير، خاطب مايكل آيزنشتات، كوري شيك، واللفتنانت جنرال (متقاعد، سلاح الجو الأمريكي) ديفيد ديبتولا منتدى سياسي في معهد واشنطن. وآيزنشتات هو زميل “كاهن” ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في المعهد. وشيك هي مديرة دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في “معهد أمريكان إنتربرايز”. وديبتولا هو عميد “معهد ميتشل لدراسات الفضاء الجوي”. وفيما يلي ملخص المقررة لملاحظاتهم”.
مايكل آيزنشتات
في أيّار/ مايو 2019، أطلقت إيران حملة ضغط مضادة ردّاً على سياسة الضغط القصوى التي تمارسها الولايات المتحدة، بهدف حثّ واشنطن على تخفيف العقوبات أو رفعها. وقد استخدمت هذه الحملة على نطاق واسع الأعمال التي تصبّ في “المنطقة الرمادية” بين الحرب والسلام. وتقوم الجهّات الفاعلة في هذه المنطقة الرمادية بالتدقيق والاختبار لتحديد ما يمكنها القيام به من دون عواقب. فهي تخلق الغموض من خلال أنشطة سرية أو بالوكالة، وإجراءات تدريجية لجعل الأعداء مرتبكين حول كيفية الردّ. كما تقوم هذه الجهّات بتفادي الاشتباك العسكري الحاسم. وتقوم بكل ذلك من أجل النهوض بجدول أعمالها الرافض للوضع الراهن وإدارة المخاطر في الوقت نفسه، والتخفيف من التصعيد المحتمل وتجنب الحرب. وتمت مناقشة إستراتيجية المنطقة الرمادية لإيران، والاستراتيجية الأمريكية المضادة المقترحة للمنطقة الرمادية الموضحة أدناه بمزيد من التفصيل في تقرير معهد واشنطن الصادر حديثاً بعنوان: “العمل في المنطقة الرمادية: مواجهة طريقة الحرب الإيرانية غير المتكافئة“.
وفي حين أن هناك احتمال للتصعيد ونشوب صراع أوسع مع إيران، إلّا أنّه من غير المرجح نشوب “حرب شاملة”- ما لم تلجأ الولايات المتحدة إلى ذلك – لأنّ الهدف الكامل من طريقة عمل إيران في المنطقة الرمادية هو تجنب مثل هذه النتيجة. ومن جانبه، صرح الرئيس ترامب مرات عديدة بأنه لا يريد حرباً مع إيران.
ولطالما كافحت الولايات المتحدة للردّ بشكل فعّال على استراتيجية المنطقة الرمادية الإيرانية، ولم تشكّل الإدارة الأمريكية الحالية استثناءً على ذلك. فمنذ أيّار/ مايو الماضي، تأرجحت بين ضبط النفس المفرط والردود التصعيدية المحتملة مثل القتل المستهدف لقائد «قوة القدس» قاسم سليماني. وقد أضاف مقتله طبقة أخرى من التعقيد على لعبة متعددة المستويات ومعقدة بالفعل. أوّلاً، هناك رغبة في الانتقام لمقتل كلّ من سليماني وزعيم ميليشيا «كتائب حزب الله» أبو مهدي المهندس. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا، هل أغلقت ضربة إيران الانتقامية بالصاروخ الباليستي على قاعدة “عين الأسد” الجوية في العراق ملف سليماني، أم هل ستحاول طهران أيضاً قتل مسؤول عسكري أمريكي كبير رداً على ذلك؟ أمّا بالنسبة لوكلاء إيران العراقيين، فمن المنطقي الافتراض بأنّهم لم ينتقموا بعد لمقتل المهندس.
وهناك عامل آخر يجب أخذه بعين الاعتبار وهو تأثير السياسات المحلية. فقد دأب المتشددون الإيرانيون على تهميش خصومهم المحافظين العمليين. كما تشهد البلاد اضطربات شعبية متواصلة، مَثَلها مَثَل العراق ولبنان، وكل ذلك قد يؤثّر على قرارات إيران المستقبلية. وبالفعل، قد تكون السياسات المحلية قد صاغت ردّ إيران السريع غير الاعتيادي على مقتل سليماني في محاولة لإظهار العزم خشية أن تلاحظ المعارضة الضعف وتقوم باستغلاله. وتمرّ إيران والولايات المتحدة أيضاً في عام انتخابات، وبالتالي فقد تفجّر طهران مفاجأةً من نوع ما في تشرين الأوّل/ أكتوبر قد تكلّف الرئيس ترامب إعادة انتخابه.
كما تُطرح مسألة أخرى وهي ما إذا كان مقتل سليماني قد أعاد إحلال الردع الأمريكي. فللردع حياة قصيرة ويجب رعايته بشكل دائم. لذا ستسعى إيران إلى اختبار عزم الولايات المتحدة، وعلى واشنطن الردّ بحزم على مثل هذه الاختبارات، وإلّا فقد تشتد عزيمة طهران.
ويواجه القادة الإيرانيون عدداً من المعضلات ما بعد مقتل سليماني، إذ أنّ حملتهم المعارِضة لم تكسبهم تخفيفاً للعقوبات وكلّفتهم القائد العسكري الذي يتفاخرون به أكثر من غيره. وقد يترتّب عن المزيد من التصعيد مع الولايات المتحدة التي لا يمكن التنبؤ بأفعالها مخاطر كبرى. لذلك، عليهم أن يسألوا أنفسهم اليوم ما إذا كان اغتيال سليماني يمثّل مقاربة أمريكية جديدة أو حدثاً واحداً منفصلاً.
بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لدفع القوّات الأمريكية خارج العراق عدة عواقب سلبية على إيران، التي قد تخسر مصدراً قوياً للضغط على واشنطن، كما أن العقوبات الأمريكية التي تم التلويح بها على العراق قد تؤذي إيران؛ بالإضافة إلى ذلك، قد تُضطّر طهران إلى القيام بنفسها بالجهد الكبير في العمليات المستقبلية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» المنبعث من جديد. فهل تفوق فوائد طرد الأمريكيين هذه العوائق المحتملة؟
وتؤكّد جميع هذه التداعيات المرتبطة بسليماني على الحاجة إلى استراتيجية منطقة رمادية أمريكية تجاه إيران. فمن المرجح أن تؤدي أنشطة المنطقة الرمادية السرية أو غير المعترف بها إلى عرقلة الجهود الأمريكية للتفاوض على اتفاق نووي جديد مع طهران بشكل أقل. كما قد يكون لها تأثير مخلّ بشكل أقل على السياسة الداخلية للولايات المتحدة، مما سيجعل من سياسة الإدارة الأمريكية أكثر استدامةً في الداخل. بالإضافة إلى ذلك، ستكون أكثر توافقاً مع البيئة التشغيلية – أي أنها أقل عرضة لإثارة رد فعل سياسي في أماكن مثل العراق، وستكون أكثر تناغماً مع متطلبات المنافسة الاستراتيجية الطويلة الأجل، والتي تميل إلى الانتصارات الصغيرة بدلاً من الضربات القاضية. وأخيراً، ستكون أكثر توافقاً مع استراتيجية الدفاع الوطني التي تسعى إلى تحويل تركيز الولايات المتحدة والقوّات العسكرية إلى المنطقة المشتركة بين المحيطين الهادئ والهندي.
وتشمل العناصر الرئيسية لمثل هذه المنطقة الرمادية ما يلي: الردّ بحزم على الاختبارات الإيرانية من أجل تعزيز الردع، واستخدام الردع بالعقاب وكذلك بالنفي، واستخدام الإجراءات السرية كلما كان ذلك ممكناً، والقيام بالأعمال بصورة علنية عند الضرورة، واعتماد مقاربة متوازنة تقوم على تفادي كل من الكبح المفرط والتصعيد غير الضروري، والتصرّف بشكل غير متوقّع وغير متوازن من أجل استغلال انشغال إيران بإدارة المخاطر، وتغيير إطار إيران التحفيزي من خلال عدم وضعها في موقف حرج، والمماطلة بدل الإفراط من خلال البحث عن ميزة عن طريق مكاسب تدريجية بدلاً من الإجراءات السريعة والحاسمة، وتوسيع خيارات المنطقة بحيث لا يكون التصعيد العمودي هو الخيار الوحيد المتوفّر لدى المسؤولين الأمريكيين.
كوري شيك
تمثلت نظرية إدارة ترامب بأنّ سليماني كان قادراً بشكل فريد على وضع استراتيجيات وبناء تحالفات وتنفيذ حروب غير متماثلة. ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية، بنى سليماني عمقاً استراتيجياً لإيران بشكل فعّال. ورغم أن هذا التقييم كان صحيحاً إلى حدّ كبير، إلّا أنّ استراتيجية سليماني تجاوزت على ما يبدو ذروة نجاحها قبل مقتله. فبانشغاله في الحصول على التقدير [لما كان يقوم به]، فقد كان يخسر من السكّان الشيعة الساخطين الذين كان يمكنه استغلالهم، كما أظهرت الاحتجاجات في لبنان والعراق. ومن هذا المنطلق، كان من الممكن الإبقاء عليه ومشاهدته وهو يفشل، وفي الوقت نفسه اتباع استراتيجية مشابهة لتلك التي استُخدمت ضد تنظيم «القاعدة» – أي استهداف القادة من الصف الثاني. غير أنّ واشنطن لم تقم بالرد علناً على الهجمات الإيرانية على السفن المحايدة ومنشآت النفط السعودية قبل استهداف سليماني، الأمر الذي جعل حلفاء الولايات المتحدة قلقين جداً بشأن أمنهم.
لقد قادت الإدارة الأمريكية الأمور في أعقاب موته بشكل جيّد للغاية، حيث أرسلت إشارات عبر السويسريين واتخذت خطوات لإدارة التصعيد. وقد ساهمت تصريحات إيران المضطربة بأنّ الضربة الصاروخية الباليستية ستكون ردّها الوحيد في المساعدة على استقرار الوضع – وكانت هذه نتيجة يَسَّرتها الإدارة الأمريكية. لكن في النهاية، من غير المرجح أن تتمسّك إيران برأيها حول هذا الانتقام فقط، إذ أنّ قيامها بذلك سيثبّت صحة ما تقوله الإدارة الأمريكية بأنّ سليماني كان قادراً بشكل فريد على تعبئة ردود غير متماثلة. وفي الواقع، يبدو أنّ النظام الإيراني يعود بالفعل إلى الوضع السابق، مع قيام وكلائه بإطلاق صواريخ على أهداف أمريكية في العراق.
ولإعادة إحلال الردع، على المسؤولين الأمريكيين العمل مع حلفائهم. إلّا أنّ دول الخليج تدرك أنّ واشنطن تميل إلى أن تكون غير جديرة بالثقة ما لم تحمل قِيَماً مشتركة بعمق مع شريك معيّن – وحتّى في ذلك الحين لا يمكن الاعتماد عليها تماماً. ويُعتبر الوضع في العراق حتّى أكثر تعقيداً، لأنّ بغداد بحاجة إلى المساعدة الأمريكية لكنّها تريد أيضاً تقييد الأنشطة التي تقوم بها الولايات المتحدة. وعند تناول هذه المعضلات، على جميع الأطراف الأخذ بعين الاعتبار أنّ المعلومات الاستخباراتية التي تحصل عليها واشنطن من خلال العمل في بلدان أخرى والتعاون معها لا تُقدّر بثمن.
أمّا بالنسبة للتعاون البحري في الخليج العربي، فيتردد الحلفاء في الانضمام إلى القوة التي تقودها الولايات المتحدة. إذ هناك عدد أكبر من الدول في القوّة البحرية للاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا من نظيرتها الأمريكية. فاستراتيجية إعادة التطمين التي اعتمدتها إدارة ترامب لنشر 1400 جندي إضافي في المنطقة، وتنفيذها عمليات قتل مستهدفة غير كافيَين. إذ ليس غياب القدرة العسكرية هو ما يجعل الشركاء الأمريكيين يشعرون بالقلق، بل الافتقار إلى المصداقية السياسية هو الذي يؤدي إلى ذلك.
إن أفضل رهان لواشنطن هو القيادة من الخلف [من المؤخرة]. فقد أساءت إدارة أوباما استخدام “القيادة من الخلف”، لكن عندما يتمّ تطبيقها بشكل صحيح، تُعتبر سياسة جيّدة جدّاً. واليوم هو الوقت المناسب لتطبيقها في الشرق الأوسط، من خلال دعم الأصدقاء بصمت وتزويدهم في الوقت نفسه بالقوّة الأمريكية.
ديفيد ديبتولا
ليست هناك احتمالات عالية لنشوب حرب شاملة مع إيران. فالهدف الرئيسي لطهران هو الحفاظ على بقاء النظام، وليس لدى إدارة ترامب رغبة في شن حرب أخرى في الشرق الأوسط. إنّ التصعيد غير المنضبط أمر مُمكن لكن غير محتمل. فالرئيس ترامب حدد خطّاً أحمر يتمثّل بـ “لا إصابات [في صفوف القوات] الأمريكية ” وحذّر طهران من تجاوزه. وعندما قتل وكلاء إيرانيون متعهّداً أمريكياً في العراق، تصرّف كما وعد لحماية الأفراد الأمريكيين والمصالح الأمريكية.
وتتوافق تصفية سليماني مع استراتيجية واشنطن المؤلفة من ثلاثة أجزاء: (1) تقييد أنشطة إيران الخبيثة، و(2) دحر تأثيرها في المنطقة، و(3) ردع أي أعمال عدائية إضافية. ويُعتبر العنصر الرادع مهمّاً بشكل خاص؛ ولتحقيق نجاحه، يجب على القادة الإيرانيين أن يفهموا أنّ الولايات المتحدة ستستخدم قوّتها.
ويبعث مقتل سليماني رسالة قوية بشكل خاص لأنّه لا يمكن استبداله على المدى القصير. فقد كان إرهابي إيران البارز، وقائداً لإيديولوجيتها الثورية، ومفكّراً استراتيجياً مهمّاً. وفي الوقت الحالي، على الأقلّ، سيكون «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني أقل قدرة على التكيف، وسيعاني أتباعه السابقون كثيراً لملء مكانه.
وللمضي قدماً، لا يجب أن يحول الخوف من العواقب دون اتخاذ إجراء قوي من جانب الولايات المتحدة، فهو أمر ضروري في بعض الأحيان لأن التقاعس عن اتخاذ خطوات يميل إلى زيادة احتمالات حدوث المزيد من العنف. إنّ الطريقة الأكثر فعالية لتجنب الحرب مع إيران هي إقناع قادتها بأنّ العنف المستمرّ سيؤدي إلى دفع ثمن باهظ. فباستطاعة الولايات المتحدة فرض تكاليف مدمّرة على إيران، بينما تفتقر إيران إلى الوسائل اللازمة للرد بالمثل، ولهذا السبب تعتمد على الوكلاء والإرهاب بدلاً من ذلك.
على واشنطن التصرّف أيضاً بعيداً عن مقاربة المفارقة التاريخية الحالية التي تعتمدها، والتي تفترض أنّ المناورة الأرضية الواسعة النطاق هي العنصر المهيمن في الحرب. فالاشتراك الفعّال يعني استخدام القوّة المناسبة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، وعدم استخدام كل قوّة في كل مكان وكل زمان. وإذا أصبحت الأفعال الأمريكية القوية الإضافية ضرورية، فقد تؤدي القوة الفضائية الجوية المطبقة بشكل ملائم، والمكتملة بعمليات سيبرانية هجومية، إلى انهيار اقتصاد إيران وإبطال فعل جيشها والقضاء على برنامجها النووي ووضع حد لنفوذها الإقليمي. كما أن قدرة إيران الحاسمة على تكرير النفط، وشبكتها لتوزيع النفط، وشبكة كهربائها يمكن أن تصبح جميعها غير فعّالة بهذه الوسائل، دون حاجة إلى نشر قوّات أمريكية على الأرض.
ووفقاً لذلك، إذا ارتكبت إيران المزيد من الأعمال العدائية ضد أفراد أمريكيين ومصالح أمريكية، فلا ينبغي لواشنطن أن تتّبع الاستراتيجيات التي طبقتها على مدار السنوات التسعة عشر الماضية في أفغانستان والعراق. فقد تضمنت تلك الاستراتيجيات نشر مئات الآلاف من قوات المشاة لتنفيذ احتلال لفترة طويلة، وعمليات بناء الدولة ومكافحة التمرّد. وليس أيّ من هذه الخيارات محبّذاً داخلياً، كما أنها ليست قابلة للتطبيق في إيران. ولتحقيق التأثيرات المرجوة بسرعة، يجب أن يأخذ أي إجراء مطبّق في إيران شكل العملية الحاسمة التي نُفذت عام 1991، خلال عملية “عاصفة الصحراء” في العراق.
باختصار، إن الطريقة الأمثل لردع إيران هي زيادة القدرة على إبراز القوة الجوّية الأمريكية في المنطقة من أجل إظهار قدرة الفتك لديها من دون الكشف عن الضعف. هذا ما فعله الجيش الأمريكي بصمت منذ أحداث أوائل كانون الثاني/ يناير، وأخيراً فهمت إيران الرسالة.
رابط المصدر: