محمود قاسم
دخل الصراع بين روسيا والغرب مرحلة جديدة من التصعيد وذلك في أعقاب إعلان روسيا الاعتراف الرسمي بالجمهوريتين الانفصاليتين “لوهانسك” و”دونيتسك”، كما أعلنت موسكو نشر قوات حفظ سلام في الإقليم على خلفية القرارات الأخيرة. فعلى الرغم من إجراء إقليم دونباس استفتاء للاستقلال عن أوكرانيا مايو 2014، إلا أن روسيا لم تعترف رسميًا بهذا الاستقلال، وكانت تنظر إليهما كجزء من السيادة الأوكرانية. وقد قوبل تحرك موسكو بموجة من الانتقادات والرفض من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، مع التلويح بفرض عقوبات، والعمل على بحث أدوات وطرق للرد الجماعي على تحرك روسيا.
وقد جاء الاعتراف الروسي في وقت تصاعدت فيه الجهود الدبلوماسية لاحتواء الصراع ومنع وصوله إلى نقطة اللا عودة، لدرجة اقتناع المراقبين بأن الاتجاه نحو التهدئة بات أقرب بفعل جهود الوساطة والمساعي الحميدة التي تقودها عدد من القوى. ولعل الاتصالات المكثفة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي “ماكرون” مؤخرًا بين أطراف الأزمة كانت تُشير لإمكانية حدوث انفراجة، أو على أقل تقدير الابتعاد عن مسار التصعيد، حيث أجرى خلال 20 فبراير اتصالًا هاتفيًا مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أعقبه اتصال آخر بالرئيس الأمريكي “جو بايدن”، قبل أن يُعاود الاتصال للمرة الثانية بالرئيس الروسي، وقد نجم عن تلك المحاولات الاتفاق من حيث المبدأ على عقد قمة لبحث سبل الخروج من الأزمة الراهنة.
تجدد دورات الصراع
يعد الصراع بين روسيا وأوكرانيا من جهة وروسيا والغرب من أنماط الصراعات المتجددة التي تخفت لأوقات وتتصاعد حدتها في مراحل أخرى، لكن القاسم المشترك في تلك الموجات والمراحل أنه في نهاية كل موجة صدامية تظهر على الساحة جملة من الترتيبات التي تتحكم في شكل التفاعلات فيما بعد، فقبل نحو تسعة أعوام وتحديدًا في نوفمبر 2013 اجتاحت العاصمة الأوكرانية “كييف” تظاهرات ضد الرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش بعدما رفض التوقيع على اتفاقية لتعزيز الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والتي كانت تستهدف وضع ترتيبات من شأنها أن تعمق العلاقات بين الطرفين، وقد كانت ميول الرئيس لموسكو سببًا مباشرًا وراء رفض الاتفاقية. وعلى خلفية تلك الاحتجاجات تمت إقالة الرئيس الأوكراني، وخسرت موسكو حليفًا مقربًا، مما مثّل خسارة كبيرة لبوتين في تلك المرحلة.
لم تتوقف التطورات عند هذا الحد، إذ شهدت نهاية فبراير 2014 قيام مسلحين موالين لروسيا بالسيطرة على عدد من المباني والمواقع الحيوية في شبة جزيرة القرم، وقد كان هذا التحرك مقدمة لضم القرم لروسيا في أعقاب استفتاء أفضى لانفصالها عن أوكرانيا في مارس 2014. ووفقًا لمراقبين فقد شكل هذا الأمر تحولًا لافتًا، كونه التحرك الأول من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية الذي قاد إلى تغيير حدود دولة أوروبية عبر تفعيل الأداة العسكرية، الأمر الذي تسبب في فرض عقوبات اقتصادية على موسكو.
وقد دخل الصراع مرحلة مختلفة عندما بدأت العناصر الانفصالية في إقليم دونباس شرق أوكرانيا في التصعيد والنزاع المسلح مع الحكومة الأوكرانية، وكانت تستهدف تلك العناصر تأمين الحكم الذاتي للمناطق التي تخضع لسيطرتها، والتي تزيد على 6 آلاف ميل، أو الانضمام للاتحاد الروسي.
وكمحاولة لتهدئة الصراع، وقّعت أوكرانيا وروسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بجانب ممثلين عن العناصر الانفصالية اتفاق مينسك الأول في سبتمبر 2014، والذي دارت أهم بنوده حول تأمين وقف إطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة من الطرفين، وفتح المجال أمام تبادل الأسرى، كمقدمة لبحث لتسوية النزاع، ووضع خارطة طريق لإنهاء التصعيد، لكن هذا الاتفاق لم يصمد طويلًا بفعل عودة التصعيد بين الجانبين مرة أخرى، وعدم الالتزام بتطبيق بنود الاتفاق.
من هنا بدأ البحث عن صيغة جديدة لاحتواء الصراع، حيث توسطت فرنسا وألمانيا بين الأطراف المنغمسة في الصراع، وقد انتهت تلك الوساطة بإقرار اتفاق مينسك الثاني في فبراير 2015 والذي تضمن 13 بندًا يتعلق بعضها بالترتيبات العسكرية، كالمطالبة بوقف شامل وفوري لإطلاق النار، وانسحاب التشكيلات المسلحة والمعدات العسكرية والمرتزقة من أوكرانيا. بجانب جملة من البنود السياسية وفي مقدمتها الدعوة لإجراء حوار حول الترتيبات المستقبلية لإقليم دونباس، وإجراء انتخابات محلية، والعمل على ادخال إصلاحات دستورية، واعتماد تشريع دائم بشأن الوضع الخاص لجمهوريتي “لوهانسك” و”دونيتسك”.
ويمكن ملاحظة أن مينسك بنسختيها لم تنجح في احتواء الصراع، كما لم يتم تنفيذ أي من بنودها بسبب الخلافات حول تفسيرها وما تحمله الاتفاقيات من تناقضات؛ إذ أوضحت تقديرات منظمة الأمن والتعاون الأوروبي المعنية بمراقبة وقف إطلاق النار وقوع ما يقرب من 200 انتهاك أسبوعي خلال الفترة من 2016 وحتى 2020، علاوة على أكثر من 1000 انتهاك طيلة العام المنصرم.
وعليه، بات تجدد دورات الصراع وإنتاج العنف بمثابة سمة غالبة على التفاعلات منذ عام 2014، إذ لم يتوقف الصراع بين الانفصاليين والحكومة الأوكرانية خلال السنوات الثماني الماضية، وإن تراجع لفترات، مما يمكن الوقوف عليه عبر رصد المحصلة النهائية والتداعيات التي أفضت إلى وقوع نحو 14 ألف قتيل، ونزوح ما يقرب من مليون ونصف المليون.
بين العسكرة والدبلوماسية
ثمّة مراوحة بين العسكرة التي يمكن أن تصل إلى حد المواجهة المباشرة بين أطراف الأزمة، أو الوقوف عند مستوى استعراض القوة والتلويح بها دون الذهاب إلى نقطة الاشتباك، وبين مساعي الاحتواء عبر الأدوات الدبلوماسية وتكثيف جهود الوساطة بهدف وضع حد لعمليات الحشد والتعبئة بين الجانبين، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:
أولًا- المواجهة العسكرية: يفترض هذا الاتجاه وصول الطرفين إلى طريق مسدود، وفشل الجهود الدبلوماسية في تقريب وجهات النظر، خاصة في ظل التقارير والتصريحات التي لا تزال تُصرّ على أن هناك عملًا عسكريًا وشيكًا خلال الأيام القادمة، وذلك على خلفية تصعيد روسيا واعترافها باستقلال “لوهانسك” و”دونيتسك”. ووفقًا لهذا المسار يوجد مستويان يمكن أن تدور المواجهة في فلكهما وذلك على النحو التالي:
- مستوى الحرب الخاطفة: وفقًا لهذا المستوى، يمكن أن يصبح “إقليم دونباس” مسرحًا لمواجهة محدودة، ويرتكز هذا الافتراض على عدد من المؤشرات، من بينها التصعيد الدائر بين الانفصاليين والحكومة الأوكرانية، والذي لم يشهده الإقليم منذ فترة طويلة، علاوة على إعلان “جمهورية دونيتسك” عن مساعيها لإجلاء نحو 700 ألف من السكان ونقلهم إلى روسيا، وذلك في ظل اتهامات روسيا لأوكرانيا بارتكاب إبادة جماعية في الإقليم.
ووفقًا لهذا، يتوقع البعض أن نقطة الاشتعال قد تكون من خلال شرق أوكرانيا، خاصة أن هناك ما يشبه تهيئة المسرح لمثل هذا التحرك، كما أن ردة فعل الحكومة الأوكرانية على قرار موسكو قد تدفع بالجيش الأوكراني نحو مزيد من العسكرة داخل الإقليم، كما يعزز هذا الافتراض التجربة التاريخية لروسيا خلال الحرب التي شهدتها جورجيا عام 2008 بين الجيش الجورجي وقوات انفصالية موالية لموسكو في إقليم أبخازيا وأوسيتيا، إذ تمكنت موسكو من خلال تدخلها العسكري من قلب موازين القوى لصالح العناصر الانفصالية، قبل أن تتوقف على بعد نحو 30 ميلًا من “تبليسي” عاصمة جورجيا.
- مستوى الحرب المفتوحة: يفترض هذا المسار أن تتحقق التوقعات الغربية التي تؤكد أن فكرة غزو أوكرانيا مجرد وقت، وأن روسيا قد اتخذت هذا القرار؛ إلا أنها تنتظر الفرصة المناسبة، وذلك بعدما قامت بنشر قواتها في شرق أوكرانيا على خلفية اعترافها باستقلال “لوهانسك” و”دونيتسك”، ويعزز هذا الاتجاه استمرار الحشود العسكرية، وقيام موسكو بتطويق أوكرانيا من كافة الاتجاهات عبر تعبئة وحشد ما يقرب من 190 ألف جندي، علاوة على انخراطها في سلسلة من التدريبات العسكرية فيما يشبه بروفة حرب، فضلًا عن نشرها أسلحة وأنظمة هجومية ودبابات قتال رئيسية وأنظمة صواريخ في نطاقات جغرافية قريبة من أوكرانيا.
ورغم بلوغ الأزمة هذا الحد من التصعيد فلا يُرجح اللجوء لمستوى الحرب المباشرة والاشتباك العسكري، وذلك لأن كافة الأطراف تدرك حدود التكلفة والانعكاسات السلبية لنشوب الحرب، فلا ترغب روسيا في الوقوع تحت طائلة العقوبات الاقتصادية والعزلة التي تنتظرها حال حدوث الغزو، رغم أنها تمتلك مقومات الهروب من تلك العقوبات نظرًا لقدرتها على التعايش مع تلك العقوبات، علاوةً على استنادها للتقارب مع بكين كورقة يمكن أن تقاوم من خلالها تلك العقوبات. من ناحية أخرى، لا تفضل واشنطن ولا حلف الناتو الانخراط في مواجهة مباشرة في ظل الأوضاع الداخلية المعقدة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن مثل هذه الحرب لا تقع ضمن دائرة حسابات البيت الأبيض وسياسته الرامية لمواجهة واحتواء النفوذ الصيني المتصاعد في آسيا. كما لا ترغب الأطراف الأوروبية في الدخول في مثل هذه المواجهة. ناهيك عن أن حيازة أطراف الصراع للأسلحة النووية قد يضع مزيدًا من القيود على الدخول في أية مواجهة تقليدية قد تتسبب في توظيف السلاح في المعركة.
ثانيًا- الاحتواء عبر الدبلوماسية: ينطلق هذا الاتجاه من قناعة كافة الأطراف بصعوبة تحمل ضريبة المواجهة المسلحة، ومن هنا تبقى مؤشرات العسكرة والتعبئة الراهنة في دائرة استعراض القوة ومساعي كافة الأطراف لرسم خطوط حمراء للطرف الآخر، بحيث لا يُقدم أحدهما على تجاوز تلك الخطوط. ومن هنا يمكن أن تصبح الدبلوماسية المخرج الأنسب والخيار المقبول من كافة الأطراف، وقد يتم ذلك من خلال مستويات عدة.
- مستوى القبول بالضمانات الأمنية: يفترض هذا المستوى قبول واشنطن والناتو بالمطالب والضمانات الأمنية التي قدمتها موسكو، والممثلة بشكل رئيسي في التعهد بعدم التوسع في أي دولة سوفيتية أخرى، وسحب جميع القوات من البلاد التي كانت تخضع للاتحاد السوفيتي، وتجنب نشر الصواريخ والأسلحة النووية الأمريكية في أوروبا. وفي هذا الصدد، لا يُرجح أن تتراجع واشنطن والناتو عن موقفهما الرافض لتلك المطالب، وذلك لعدد من الأسباب، إذ إن الرضوخ لمطالب روسيا يمثل انتصارًا لبوتين، ويضع الولايات المتحدة وحلف الناتو في موقف المستسلم والمهزوم.
من ناحية أخرى، يرى البعض أن موقف روسيا من سياسة الباب المفتوح التي يتبعها الحلف غير واقعية. فعلى الرغم من أن مناقشة انضمام جورجيا وأوكرانيا للناتو كانت على أجندة الحلف خلال قمة بوخارست عام 2008؛ إلا أن ذلك لم يحدث بعد مرور نحو أربعة عشر عامًا، مما يعتبره البعض وافيًا بمطالب موسكو بعدم التوسع وضم البلدين للحلف، علاوة على ذلك يصعب على الناتو القبول بفكرة العودة لما قبل عام 1997 عندما تعهد أعضاء الحلف بعدم التمدد في الجمهوريات السوفيتية السابقة، إذ إن خشية الدول السوفيتية السابقة المنضوية تحت مظلة الحلف من قيام روسيا بغزوها تجعلها تتمسك بوجود وانتشار الحلف فيها حتى ولو كان ذلك بعناصر وقوى محدودة.
- مستوى إحياء اتفاق مينسك: أطاح إعلان قرار بوتين بالاعتراف بالمناطق الانفصالية شرق أوكرانيا باتفاق مينسك الذي تصدر في الفترة الأخيرة المشهد كمخرج للأزمة الحالية، وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي، حيث يرى أن اتفاقيات مينسك تعتبر أكثر الطرق الواعدة لتجنب الصراع. ومن هنا يرى مراقبون أن الجهود قد تنصب خلال الفترات القادمة على إحياء هذه الاتفاقيات، إلا أن الأمر قد لا يتم بالسهولة المتوقعة، نظرًا لتباين التفسيرات بين روسيا وأوكرانيا بشأن آليات تنفيذ الاتفاق، خاصة فيما يرتبط بالأولويات وأيهما يسبق الآخر، حيث ترى كييف أن الترتيبات الأمنية يجب أن تسبق السياسية، بمعنى أن إجراء الانتخابات المنصوص عليها في الاتفاق يجب أن يأتي في مرتبة ثانية بعد نزع السلاح من الانفصاليين، واستعادة أوكرانيا سيطرتها على حدودها.
في الوقت ذاته، ترى موسكو أن إجراء الانتخابات في إقليم دونباس، ومنحه وضعًا خاصًا عبر التمثيل في الحكومة الفيدرالية، يجب أن يكون سابقًا لأية ترتيبات، إذ إن ذلك يمنح روسيا حضورًا وتأثيرًا في صناعة القرار وتوجهات السياسة الخارجية لأوكرانيا عبر توظيف تلك المكتسبات في عرقلة أية تقارب مستقبلي مع الناتو أو الغرب.
وعليه، يظل إحياء اتفاقيات مينسك في ظل التطورات الأخيرة مرهونًا بحدود التوافق ومساحة التنازل الذي يمكن أن يقدمها كل طرف، إذا ما أراد الوسطاء في الأزمة تفعيله للحيلولة دون الوصول لحافة الهاوية. ويبدو أن موسكو لن تقدم أية تنازلات، خاصة أنها أصبحت صاحبة اليد العليا، مما يعني أن الضغط سيكون على الحكومة الأوكرانية بشكل رئيسي، وقد يكون إحياء الاتفاق عبر مقايضة يتراجع خلالها بوتين عن قرار الاعتراف بالاستقلال مقابل العودة لتطبيق الاتفاق.
- مستوى دبلوماسية القمم: من خلال متابعة ورصد الجهود المكثفة التي يقوم بها عدد من الأطراف، وعلى رأسها فرنسا، يبدو أن هناك قناعة لدى موسكو وواشنطن باللجوء لطاولة المفاوضات وبحث سبل بناء الثقة وتقريب وجهات النظر. ولعل القبول بمبدأ عقد قمة بين الطرفين ينضم إليها باقي أطراف النزاع دليل على ذلك، ويمكن أن تسهم تلك القمة في تحقيق جزء من التوافقات الغائبة، وكان من المتوقع أن يمهد لقاء وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة لتلك القمة عبر وضع الخطوط العريضة والأجندة التي يمكن أن تنطلق منها، ومن المحتمل أن تضع القمة حدًا للصراع، أو على الأقل تقليل الفجوة بين الأطراف المتنازعة كمقدمة يمكن البناء عليها؛ إلا أن انعقاد تلك القمة أصبح مشكوكًا فيه على الأقل في الوقت الراهن، خاصة وأن اللقاء كان مشروطًا بعد قيام روسيا بغزو أوكرانيا، وعليه فقد يؤجل قرار الاعتراف انعقادها إلى أجل غير مسمى.
وفي الأخير، يُمكن القول إن دبلوماسية “خطوط الاشتباك المتقدم” بين موسكو والغرب في الأزمة الأوكرانية سترسم مستقبل العلاقة بين القوة الراغبة في استعادة نفوذها وتأثيرها على المسرح الدولي وجيرانها المتحسبين لذلك الصعود الروسي المُرتقب، وستحسم التطورات المُقبلة طبيعة التفاعلات التي ستشكل منهجيةً للتعاطي بين تلك القوى وبعضها بعضًا.
.
رابط المصدر: