محمد حسن
مثّلت معركة الباغوز محطة فارقة في نظرة المحللين والدول تجاه تنظيم داعش؛ ففي هذه المعركة هُزم التنظيم الإرهابي في آخر جيوبه شمال شرقي سوريا، وفقد سيطرته الميدانية على القرى والبلدات، بعدما كان يحكم سيطرته على مساحة من الأراضي بين البادية السورية والعراقية تعادل مساحة جزيرة بريطانيا؛ وبدأت الأطروحات تتوالى حول نهاية التنظيم ووصول قدراته العملياتية إلى مستوى أقرب للشلل منه إلى الحركة النشطة.
إلا أن الثلاث سنوات الماضية أثبتت قصور تلك النظرة حيال القدرات التكتيكية للتنظيم. فهي نظرة تعاملت مع التنظيم من دون وضع اعتبارات لشبكة رعايته الإقليمية والدولية التي سلّحته ووجهت نشاطه صوب بقع جغرافية محددة حسب حاجتها، عوضًا عن كونه أخطر جسم إرهابي يظهر ضمن مسار التطرف في تاريخ الحركات المتشددة في العالم الإسلامي منذ بروز حركة الحشاشين في القرن الحادي عشر الميلادي.
وتوالت التقديرات التي تحدثت عن “عودة داعش” مع كل هجوم تنفذه خلايا التنظيم في كل من البادية العراقية والسورية والقرن الإفريقي والساحل والصحراء، وصولًا إلى غرب إفريقيا وساحل غينيا. وفي حقيقة الأمر أن التنظيم لم ينته كي يعود، ولكنه تأقلم مع واقع ميداني جديد يفتقد فيه ميزة السيطرة المكانية مقابل تحول نوعي في عقيدته العسكرية التي باتت تعتمد على نمط حروب العصابات، بما فيها من هجمات بالأسلحة الخفيفة، وعمليات اغتيال وخطف وتهريب وتفجيرات انتحارية مزدوجة.
بيد أن انتقال داعش من فِكر “بناء الدولة” والتمكين في الأرض إلى مسار حرب العصابات، لم يضعف قدراته إلى الحد الذي يُنبئ بانقضاء عهده قياسًا على انخفاض عدد عملياته إلى النصف تقريبا في 2021، بل؛ كان ذلك الانتقال “مرحلة انتقالية” في ذاتها أكسبت التنظيم فسحة من الوقت لنسج شبكة من خلاياه النائمة وتدعيم قدراته، وأخيرًا انتقاء أهدافه بما يتناسب مع الظرف الأمني وحاجات شبكة رعايته.
وهو ما يتضح جليًا في هجوم التنظيم الأخير على سجن “الصناعة” بحي غويران جنوب مدينة الحسكة السورية –ضمن مناطق قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي-، ليلة العشرين من يناير الجاري. فقد أثبت هذا الهجوم من خلال كيفيته؛ أن التحول في العقيدة العسكرية لداعش يؤتي ثماره بشكل سريع وفي نفس الرقعة التي طُرِد منها قبل ثلاثة سنوات؛ إذ يعد الهجوم الأخير الأكبر من نوعه منذ سقوط خلافة التنظيم في مارس 2019، لعدة اعتبارات، أهمها:
طبيعة الهدف (أكبر تجمع لداعش في العالم): يعد سجن “الصناعة” في حي غويران أكبر سجن لعناصر تنظيم داعش في العالم أجمع؛ إذ يضم وفق تقديرات متضاربة ما بين 3500 إلى 5000 عنصر لداعش، بينهم أمراء وقادة ميدانيين. وللمفارقة أن الولايات المتحدة أنشأت هذا السجن الذي أقيم على عدة مبانٍ ومجمعات؛ وحولته مع قوات سوريا الديمقراطية إلى أعتى سجون العالم، بما فيه من نزلاء كانوا أباطرة في القتل والإرهاب. وللمفارقة الثانية؛ تمركزت الولايات المتحدة على بعد أمتار قليلة من السجن بقاعدة عسكرية لها، تضم عناصر القوات الخاصة.
- حجم القوة (المفرزة) المهاجمة لداعش: شارك في الهجوم على سجن “الصناعة” قرابة مائة عنصر من التنظيم، قاموا بإرباك قوة حراسة السجن من قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وقلبوا ميزان بتحقيقهم عنصر المفاجأة العددية بالرغم من امتلاك “قسد” للوحدات المدرعة والدعم الجوي من التحالف الدولي.
فيما تمركزت عناصر لداعش على الطرق المؤدية للسجن لحرمان القوات الكردية من أي دعم يصلها، وهو ما تحقق بالفعل؛ إذ اشتبك عناصر التنظيم مع قوات الدعم الكردية بعد بدء الهجوم.
- كيفية تنفيذ الهجوم (عودة المفخخات والتفجيرات المتزامنة والاقتحامات الميدانية):
1 – المفخخات:
اشتهر تنظيم داعش بتوظيفه سلاح “المفخخات” بأنماط ابتكارية، فكان أول تنظيم يقوم بإضافة تدريع إضافي للسيارة المفخخة لمنحها ميزة اختراق الدفاعات ومواجهة الطلقات النارية، تمامًا كما أظهر الفيلم السينمائي (death race).
وفي الهجوم الدامي الذي نفذه التنظيم على سجن “الصناعة”، تم استخدام سيارة مفخخة انفجرت قبالة بوابة السجن، تلتها أخرى انفجرت على سور السجن، وحدث تفجير آخر لصهريج للوقود أمام محطة “سادكوب” لتفتتح المفخخات المعركة من ثلاث جبهات.
2 – الاقتحامات الميدانية والتنسيق المتزامن داخل وخارج السجن:
تسببت التفجيرات في توليد موجة انفجارية قضت على حامية السجن، وسمحت لعناصر داعش المتمركزين خارج أسوار السجن بالدخول والاقتحام لكافة منشآت السجن، تمامًا كما حدث في مطار الطبقة العسكري، ومستشفى الكندي في حلب. وفي هذه الأثناء كانت عناصر داعش داخل السجن قد بدأت –قبل الهجوم- في تنفيذ “تمرد” أو “استعصاء” كما أسمته وسائل الإعلام الكردية. سمح للعناصر المهاجمة بالتقاء مئات من السجناء، ونتج عن ذلك:
- بدء واحدة من أكبر عمليات مطاردة داعش في الجزيرة السورية. وهنا حققت القوات الكردية مدعومة بالطيران المروحي لدول التحالف نتائج متواضعة في عملية توقيف وإعادة السجناء الهاربين.
- هروب مئات العناصر الخطرة، لعدة محاور تتخطى حدود الجزيرة السورية.
- سيطرة تنظيم داعش على عدة منشآت داخل السجن وأخذها رهائن من قوة الحرس الكردية، بما جعل قوات سوريا الديمقراطية تقدم خيارات التفاوض حول تحرير الرهائن.
- التزامن مع الهجوم على قاعدة عسكرية للجيش العراقي في ديالى: بدأ هجوم تنظيم داعش على سجن “الصناعة” في الحسكة في غضون الساعة السابعة مساءً، وفي أقل من عشر ساعات، نفذ التنظيم هجومًا دمويًا على قاعدة للجيش العراقي في منطقة العظيم شمال بعقوبة. وقتلوا حامية القاعدة بالكامل والبالغة 11 عنصرًا. اللافت في هذا الهجوم هو احترافية قوة داعش المهاجمة، حيث تمكنت من تعطيل الكاميرات قبل دخولهم للقاعدة، فيما يشبه عملية لقوات الكوماندوز عالية التدريب.
مؤشرات خطرة
بالنظر إلى كيفية ومحصلة هجمات داعش المتزامنة في كل من سوريا والعراق ليل الخميس – فجر الجمعة 20-21 يناير الجاري، تظهر عدة مؤشرات خطرة ضمن البيئة الأمنية في الإقليم، يمكن عدّها كالآتي:
- اختراق داعش للأجسام العسكرية الكردية: يشير بعض شهادات محلية سورية عن وجود عدد من مقاتلي داعش السابقين ضمن قوات سوريا الديمقراطية؛ كونها تستمر في وضع كافة أفراد المكون العربي السوري في مناطقها ضمن عمليات تجنيدها لتدعيم قواتها بعناصر إضافية قادرة على القيام بالتزامات “الإدارة الذاتية”. وأعلن رامي عبد الرحمن مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان –مقره لندن– أن هناك مناطق في دير الزور نهارًا تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وليلًا تقع تحت سيطرة تنظيم داعش. بجانب أن التزامن بين عناصر داعش داخل السجن وانطلاقهم في تنفيذ التمرد قبل بداية الهجوم بلحظات، يدلل على تلك النقطة.
- عمى استخباراتي أم تواطئ امريكي: يقع سجن “الصناعة” على بُعد أمتار من نقطة عسكرية أمريكية، وعلى بُعد 5 كم من أول تمركز عسكري سوري – روسي في مركز مدينة الحسكة، علاوة على وجود قوات التحالف الدولي ضمن التشكيلات الأمريكية. ومن المعروف أن السجن بما فيه من آلاف النزلاء “الدواعش” يشكلون هدفًا عالي القيمة لكافة الأطراف المتنافسة في الميدان السوري، ما يتطلب وجودًا عسكريًا أمريكيًا مغايرًا في هذا “المربع الأمني”، وقبله قدرة استخباراتية تختلف عن تقارير وكالات الاستخبارات المركزية التي فشلت في توقع استيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان.
نقطة أخرى تضاف إلى ذلك، ألا وهي حجم استجابة الطيران المروحي الأمريكي بعد فرار عديد من العناصر الداعشية. فعلى الرغم من تسيير التحالف الدولي طلعات للطيران المروحي والاستطلاع إلا أنه لم تُسجل حالات اشتباك مع العناصر الفارة والطيران. علاوة على إلقاء طيران التحالف لرسائل بها أرقام هاتفية مخصصة لاستقبال بلاغات السكان حول الأنشطة الإرهابية.
- بدء توسع ميداني جديد لداعش في الرقة: بعد يومين من تنفيذ داعش لهجومه على سجن “الصناعة”، بدأت عناصر التنظيم الإرهابي في شن هجوم على مواقع الجيش السوري في النقطة السابعة الواقعة في بادية الرصافة جنوبي الرقة. وتستمر وقائع هذا الهجوم بالتزامن مع استمرار المعارك في سجن الصناعة بحي غويران والأحياء والمناطق المجاورة له.
ختامًا، خلفت معركة اقتحام سجن “الصناعة” بحي غويران جنوبي الحسكة، أكثر من مائة قتيل –حتى وقت كتابة هذه السطور– من بينهم 77 عنصرًا لداعش، و39 عنصرًا لقوات سوريا الديمقراطية، فيما مازالت عناصر تنظيم داعش مسيطرة على أجزاء من السجن، بعد فرار المئات من نزلائه شديدي الخطورة. ولعل أبرز تساؤل يظهر في هذه الأثناء، هو لماذا الآن؟ لماذا قرر تنظيم داعش الهجوم على أكبر سجن لعناصره بهذه الوفرة العددية (100 عنصر)؟ وهل يبدو رابط بين مزاولة التنظيم الإرهابي لنشاطه في قرى العراق “ذات الغالبية الشيعية” منذ أكتوبر 2021 والسخط الإيراني من هزيمة الكيانات الحزبية الولائية لها في الانتخابات البرلمانية؟ أم أن الهجوم الأخير يعد جزءًا من حوار أمريكي روسي وراء الكواليس ويضم في حلقاته (سوريا – أوكرانيا – كازاخستان – الناتو)؟ تتضافر التساؤلات بشكل يُوضح أن الجزيرة السورية (الحسكة – الرقة – دير الزور) هي المسرح القادم لرقصة الحرب السورية الأخيرة، وفي هذا الصدد نشر المرصد المصري ورقة تحليلية بتاريخ 23 ديسمبر 2021، عن أوضاع الجزيرة السورية كمنطقة صراع قادم، بعنوان: “الحدود الحمراء.. الجزيرة السورية دفة الحرب الجديدة”.
.
رابط المصدر: