د. أمل هندي الخزعلي
قدر تعلق الامر بعلاقة السياسة بالاقتصاد، يطرح السؤال التالي: هل الديمقراطية شرط لقيام اقتصاد السوق؟، اذ يرى البعض أن افضل صور اقتصاد السوق قد تحققت في الدول الديمقراطية مثل انجلترا، فرنسا، المانيا وغيرها، وهناك انسجام بين اقتصاد السوق وبين النظام الديمقراطي لاسيما وأن النموذج الرأسمالي لم يقتصر على الدول الغربية وامريكا الشمالية، بل امتد الى دول اخرى مثل الهند، إندونيسيا، اليابان، حيث هيمن شكل من اشكال الرأسمالية على النظام الاقتصادي للدولة وهو رأسمالية الجدارة الليبرالية والذي يشير الى نظام يرتكز على نمو القطاع الخاص ويحاول ان يضمن تكافؤ الفرص للجميع.
تتبع هذه الدول سياسات اقتصادية اكثر انفتاحاً بالاعتماد على عراقة الانظمة السياسية الديمقراطية، أما الانظمة التسلطية فقد فرضت السلطة وحدانية اقتصادية بنيت على اساس القطاع العام والانغلاق على الاستثمارات الاجنبية، حيث عملت النخب السياسية في هذا النظم على تكييف مؤسسات النظام وحددت آليات عملها بالطريقة التي تخدم هيمنتها واستمراريتها في السلطة، وامتازت بالثبات على نماذج اقتصادية تتسم بالجمود وعدم التجديد, وقد بررت تلك النظم عدم اعتمادها المثل الديمقراطية، برغبتها بإنجاز التنمية الاقتصادية والوحدة الوطنية كأولوية نظراَ لطبيعة الظروف التي تمر بها شعوبها والتي تستدعي اتباع سياسات اقتصادية تشرف عليها الدولة وتديرها.
بعد تهاوي العديد من الانظمة التسلطية، وفشلها في التغلب على المشكلات الاقتصادية فضلاً عن المشكلات السياسية، حلت محلها انظمة ديمقراطية حديثة، حيث واجه القادة الديمقراطيون الجدد مطالب عديدة وتوقعات اقتصادية مرتفعة وضغوط قوية مما جعلهم يتجهون الى اتباع برامج توسعية اكثر انفتاحاً على الخارج في محاولة لمواجهة التوقعات وتقليص الصراع الاجتماعي عبر احتوائه بإنفتاح اقتصادي يوظف الموارد الوطنية ويستثمر الفرص الدولية لبناء قدرة اقتصادية وخلق حالة من الاستقرار السياسي.
فالانفتاح الاقتصادي جاء معبراً عن تعدد المراكز الاقتصادية لتعدد المشاركة السياسية في اطار سعي الانظمة الديمقراطية لإحتواء التناقضات وايجاد حالة من الاستقرار السياسي، لاسيما وانها ورثت تركة ثقيلة من المشاكل الاقتصادية والسياسية نتيجة التسلط والفساد وسوء استخدام الثروات, الامر الذي اضطرها الى تطبيق برامج اصلاح اقتصادية وسياسية.
غير ان النمط الرأسمالي الذي اتبعته هذه الدول لاسيما دول جنوب شرق آسيا، كان يختلف عن النمط الرأسمالي الغربي، من حيث كونه يعطي الدور الاكبر للدولة في توجيه الاقتصاد، كما يختلف عن النمط الغربي من حيث اعطائه الاولوية لمصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، وشهدت هذه الدول عملية نمو اقتصادي جعلها من اكثر دول العالم في مجال تحقيق التنمية وتزامن ذلك مع تحقيق الديمقراطية والحرية السياسية بعد الحكم الاستبدادي الذي الفته لفترات طويلة من الزمن.
إن مايميز النموذج الاسيوي تركيزه على الديمقراطية الاقتصادية قبل الديمقراطية السياسية، والتركيز على الاستقرار السياسي وليس التغيير السياسي (كوريا، تايوان) وتمثل دولاً عديدة نموذج (الرأسمالية السياسية) مثل الصين وسنغافورة، فيتنام، اذربيجان، روسيا، الجزائر، اثيوبيا، رواندا. وتشهد هذه الدول نمواً اقتصادياً مرتفعاً، مقابل حقوق سياسية ومدنية وفردية أقل.
إن المصطلحات والمفاهيم الشائعة في وصف النظام السياسي الصيني، لاسيما في الغرب، مثل الشيوعية والسلطوية، لا تقدم فهماً عميقاً لطبيعة هذا النظام وآلية عمله، فالنظام الصيني يقدم مثالاً على فكرة الجدارة السياسية، والتي تقوم على وجود نظام سياسي يجري تصميمه بهدف اختيار قادة سياسيين بقدرات تتجاوز القدرات العادية، من أجل اطلاق احكام سياسية مستنيرة بالأخلاق، اي ان الجدارة السياسية تمتاز بعنصرين هما اولاً: القادة الذين يمتلكون مقدرة وفضيلة فوق معدل الوسط، وثانياً: ان تكون آلية الاختيار مصممة لاختيار مثل هؤلاء القادة.
ويعد هذا النموذج نواة لتيار فكري معين يمكن ان يؤدي في مرحلة لاحقة الى بروز نماذج سياسية هجينة تقوم على القاعدة الشهيرة (صوت واحد لشخص واحد) والنظام القائم على الجدارة والكفاءة في اختيار القيادة العليا للبلاد.
إن النجاح الاقتصادي للصين يقوض ادعاء الغرب بوجود رابط ضروري بين الرأسمالية والليبرالية التي تتمتع بالعديد من المميزات اهمها الديمقراطية وسيادة القانون، الا انها تواجه تحديات هائلة تمثلت في عدم المساواة واتساع الفجوة بين الطبقات مما يمثل أخطر تهديد لاستمرار الرأسمالية الليبرالية على المدى البعيد.
بهذا الاطار يمكن استدعاء مقولة فيلسوف الليبرالية الحديثة جون رولز: “ان المجتمع الصالح يجب ان يعطي أولوية مطلقة للحريات السياسية على الثروة والدخل”، رغم تأكيده على ان التجربة تظهر ان الكثير من الناس مستعدون لمقايضة الحقوق الديمقراطية مقابل الحصول على دخل اكبر، ففي عالم اليوم نادراً ما يتمتع المواطنون بالوقت أو المعرفة أو الرغبة في المشاركة بالقضايا المدنية العامة ما لم تكن تمسهم مباشرة.
على ذلك فأن مدرسة (الاقتصاد الديمقراطي) تعد طريق تجريبي ثالث ضمن ظروف الدول النامية يقع بين الاقتصاد المركزي الذي تهيمن عليه الدولة والاقتصاد المخطط, وبين التجربة الرأسمالية في نموذجها الليبرالي والتي تكرس منطق خدمة الدولة للأثرياء بينما تترك الغالبية تحت رحمة قوانين السوق.
واذا كان المستقبل سيحدد صحة أحد الطريقين أو كلاهما فمن المؤكد ان القدرة الاقتصادية صرح وطني لا ينهض الا بالاعتماد على الامكانات الذاتية بالدرجة الاساس ويستخدم كمقومات للقدرة تنطوي على جانبين أحدهما مادي والآخر معنوي، وهنا يبرز أثر الارادة السياسية، لأنها تشكل الركن المعنوي للقدرة الاقتصادية وهي التي تحفز الدولة على بناء قدراتها في اطار تطمين واحترام الحقوق السياسية واحترام الارادة الشعبية.
ويبقى الاقتصاد الديمقراطي مشروط بدمقرطة الدولة لتحرير الاقتصاد من هيمنة شبكة المصالح وتحرير الدولة الامر الذي يسمح بحوكمة جديدة وشفافة وجدوى استثمارية للمؤسسات العمومية التي يمثل نجاحها ضمان لرعاية الدولة للشأن العام.
.
رابط المصدر: