الاقتصاد في زمن الحروب: البنادق بدلًا من الزبدة “إسرائيل نموذجًا”

لم يشهد العالم على مدار السنوات الماضية حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي مثلما شهده مع اقتراب نهاية عام 2023 وبداية عام 2024. فقد كانت المؤشرات تدل بشكل واضح على أن دوائر وأطراف الصراع قد بدأت تتوسع بشكل ملحوظ، حيث لم يعد الصراع مقتصرًا على قطاع غزة فحسب، بل شمل أطرافًا جديدة ومتعددة، مما زاد من تعقيد المشهد. فقد تأثرت مناطق مثل إيران ولبنان والعراق وسوريا ولبنان والبحر الأحمر وأوكرانيا بشدة بهذه التطورات، مما أدى إلى تفاقم الوضع الأمني والاقتصادي في هذه الدول.

كان من المتوقع أن يشكل عام 2024 مرحلة محورية وهامة نحو التوصل إلى ترتيبات أمنية جديدة قد تحدد ملامح المشهد الإقليمي لسنوات قادمة. ورؤية جميع الأطراف المعنية سعيًا وراء إرساء أسس السلام والاستقرار لتكون ضرورة ملحة للتخفيف من آثار هذا النزاع المتزايد ولكن العام على وشك الانتهاء، ومازالت الأحداث والتحولات الجارية قد تزداد قوى جديدة وتعيد تشكيل التحالفات، مما يزيد من الإنفاق العسكري العالمي بسبب التنافس المتزايد بين القوى الكبرى والدول الصاعدة، مما أدى إلى صعوبة في عمليات التفاوض من أجل تحقيق السلام. فقد انخرطت بعض الدول في صراعات وحروب خارج حدودها، حيث بلغ عدد الصراعات النشطة 56 صراعًا، وهو أكبر عدد صراعات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

لجأت العديد من دول العالم إلى زيادة نفقاتها على التسلح. وقد يرجع زيادة هذا الإنفاق إلى عودة التنافس بين الدول والتسابق على التسلح، هذا بالإضافة إلى أهداف توسعية أو مخاطر أمنية قومية واستنادًا إلى التقرير السنوي لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ارتفع حجم الإنفاق العسكري للسنة التاسعة على التوالي إلى مستوى قياسي بلغ 2.4 تريليون دولار. وذلك للمرة الأولى منذ عام 2009.

هذا الارتفاع غير المسبوق في الإنفاق العسكري يأتي استجابة مباشرة لتدهور السلام والأمن على المستوى العالمي، حيث تعطي الدول الأولوية للقوة العسكرية، مما قد يؤدي إلى دوامة من ردود الفعل في سياق جيوسياسي وأمني متقلب بشكل متزايد.

في أفريقيا، بلغ الإنفاق العسكري 51.6 مليار دولار في عام 2023، بزيادة 22% مقارنة بعام 2022، وارتفاع بنسبة 1.5% عن عام 2014. أما في روسيا، فقد ارتفع الإنفاق العسكري بنسبة 24% ليصل إلى حوالي 109 مليارات دولار في عام 2023، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 57% منذ عام 2014، وهو العام الذي ضمت فيه روسيا شبه جزيرة القرم. وفي عام 2023، شكل الإنفاق العسكري الروسي 16% من إجمالي الإنفاق الحكومي. كما كانت أوكرانيا ثامن أكبر منفق عسكري في عام 2023، حيث زادت نفقاتها بنسبة 51% لتصل إلى 64.8 مليار دولار، مما يعكس عبئًا عسكريًا بنسبة 37%، ويشكل 58% من إجمالي الإنفاق الحكومي.

أما الصين، فهي ثاني أكبر دولة من حيث الإنفاق العسكري في العالم، حيث خصصت ما يقدر بنحو 296 مليار دولار للجيش في عام 2023، بزيادة قدرها 6% عن العام السابق. ويعتبر هذا الارتفاع هو التاسع والعشرون على التوالي في الإنفاق العسكري للصين. وتساهم الصين بنصف إجمالي الإنفاق العسكري في منطقة آسيا وأوقيانوسيا، كما زاد الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط بنسبة 9% ليصل إلى 200 مليار دولار، وهو أعلى مستوى له.

ونتيجة لتلك الصراعات وتزايد مستويات الإنفاق العسكري على مستوى العالم أدى ذلك إلى زيادة الأعباء الاقتصادية التي تتكبدها الدول بمختلف درجاتها حيث بلغ الأثر الاقتصادي العالمي للعنف 19.1 تريليون دولار، خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة التي تتميز بمعدلات تضخم مرتفعة، بالإضافة إلى الركود الاقتصادي الذي يهدد الاستقرار المالي. كما أن تعطل سلاسل الإمداد العالمية، وتداعيات ذلك على أمن الطاقة في العالم، يزيدان من التعقيدات التي تواجهها الحكومات والمؤسسات الاقتصادية.

علاوة على ذلك، فإن هذه النفقات العسكرية المتزايدة تُؤخذ مباشرة من الناتج المحلي للدول، مما يؤثر بشكل سلبي على الجوانب التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني بالفعل من تعثرٍ كبير. بالإضافة إلى بلوغ الإنفاق العالمي لإعادة البناء وحفظ السلام 50 مليار دولار وفي هذا الإطار، يُعتبر هذا الاتجاه الأمني البحت الذي تسلكه الدول بمثابة ارتداد عكسي لمجمل الجهود التنموية التي بذلها المجتمع الدولي على مدار العقود الماضية. بدلاً من التركيز على تعزيز التنمية المستدامة وتحقيق تحسينات ملموسة في مستويات المعيشة، يبدو أن الدول تتجه نحو زيادة الإنفاق العسكري، مما يؤدي إلى المزيد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ويُعقد فرص التنمية المستدامة التي تسعى إليها الشعوب حول العالم.
C:\Users\aya.hamdy\Downloads\انفوجراف (4).png

تأثر الاقتصاد الإسرائيلي بسب الحرب على غزة بشكل كبير وتوجيه جزء كبير على الإنفاق العسكري في مقابل الإنفاق العام حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.1% و1.4% في الربع الأول والثاني لعام 2024 كما خفض بنك إسرائيل توقعاته للنمو إلى 1.5% في عام 2024 بعدما كان 2.8% كما تم تقدير تكلفة الحرب بأنها ستصل إلى 67 مليار دولار بحلول عام 2025 بالإضافة إلى ارتفاع معدل التضخم إلى 3.6%، كما انفقت الحكومة الإسرائيلية نحو 100 مليار دولار على الحرب، بالإضافة إلى توسيع موازنة الدولة لعام 2024 بمقدار 3.4 مليار شيكل (923 مليون دولار) حتى نهاية العام. بينما ستمول 200 مليون شيكل لجنود الاحتياط في الجيش وبسبب ارتفاع الإنفاق العسكري، وصل عجز الموازنة إلى 8.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في يوليو 2024.

وخلال عام 2023، سجلت الميزانية العسكرية للجيش الإسرائيلي زيادة ملحوظة، حيث بلغت نحو 31 مليار دولار، وذلك لتغطية التكاليف المرتبطة بالحرب الجارية. وتُعتبر هذه الزيادة تغييرًا جذريًا مقارنةً بالميزانية الرسمية لعام 2022، التي بلغت حوالي 23 مليار دولار، مما يعني أن الميزانية الحالية قد تجاوزت الأرقام السابقة لتصل إلى مستويات قياسية جديدة.

كان الإنفاق الدفاعي لإسرائيل قبل الحرب عند أدنى مستوياته على الإطلاق، إذ بلغ 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي ووصل 5.32% عام 2023 كما تشير التوقعات إلى أنه سيرتفع ليبلغ 9%، وبالمقارنة، تبلغ نسبة الإنفاق الدفاعي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة 3.4%، وفي ألمانيا 1.5%، وهنا يكون الاختبار الحاسم لقدرة الحكومة على خفض نسبة الإنفاق الدفاعي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات اعتيادية. كما يجدر الإشارة إلى الضغوط على الميزانية بسبب الحرب تبرز انقسامات المجتمع الإسرائيلي، حيث تساهم الشريحة العليا، التي تمثل خُمس السكان، بنسبة 60% من إجمالي الإيرادات من الضرائب المباشرة. كما أن تلك الشريحة تمثل أساس قوات الاحتياط في الجيش.

في الختام، تحمل النزاعات الدولية تكاليف اقتصادية عالية على الدول، وقد ظهر ذلك بوضوح بعد الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، حيث اتجهت جميع الدول لزيادة خطط إنفاقها الدفاعي لمواجهة المخاطر المستقبلية المحتملة. كما قامت العديد من الدول برفع ميزانياتها العسكرية لتقديم الدعم للدول المتضررة من الحروب، بالإضافة إلى سعيها لتعزيز تسليح قواتها المسلحة بأحدث الأنظمة. وقد نتج عن ذلك ردود فعل مختلفة من شعوب هذه الدول تجاه هذا الإنفاق، مع وجود العديد من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد. وبعد التوغل العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان وتوجيه قوتها العسكرية لبعض المناطق وضربات جوية بسوريا واليمن فمن الممكن وصف الإنفاق العسكري الإسرائيلي بأنه ذات طبيعة خاصة، فهو متعدد الوظائف، فمن جهة، يتم استخدامه كأداة للتوسع وإعداد جيش من طبيعة هجومية وليس دفاعية، ومن جهة ثانية، يتم استخدامه كمنظم مالي وأداة لضمان طلب كافٍ لإدامة التصنيع العسكري وتحقيق آثار إيجابية للاقتصاد القومي. 

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M