روبرت سكيدلسكي
لندن ــ ظللت لفترة طويلة أنتقد علم الاقتصاد لافتقاره إلى الواقعية، ولأنه ينتج “نماذج” للسلوك البشري أشبه بالرسوم الكاريكاتورية في أفضل تقدير أو محاكاة ساخرة للشيء الحقيقي في أسوأ تقدير. في كتابي الأخير بعنوان “ما هي مشكلة الاقتصاد؟”، أزعم أن أهل الاقتصاد، في محاولتهم وضع قوانين عالمية، تجاهلوا عمدا خصوصيات التاريخ والثقافة.
يعبر رجل الاقتصاد وعالم الاجتماع ثورستين فيبلين ببراعة عن هذا التعامي الأحمق. في مقال نُـشِـر في عام 1908، تخيل فيبلين أهل الاقتصاد وهم يشرحون سلوك “عصابة من سكان جزر ألوتيان يتعثرون عبر الحطام ويقلبون الأمواج بجرافاتهم ملقين تعويذاتهم السحرية لالتقاط المحار” من أجل تعظيم المنفعة.
في القرن الثامن عشر، قرر ممارسو علم الاقتصاد ــ الفرع الذي يدرس الكيفية التي يزاول بها الناس الأعمال الاعتيادية لكسب معايشهم ــ المواءمة بين تساؤلاتهم وبين ما يسمى العلوم “الجامدة”، وخاصة الفيزياء، على عكس العلوم “البشرية” مثل التاريخ. كان طموحهم يتلخص في بناء “فيزياء” المجتمع حيث تكون الهياكل الاجتماعية خاضعة لقوانين ثابتة مثل الهياكل الطبيعية. وعلى هذا فقد وجد قانون الجاذبية، الذي يشرح دوران الكواكب حول الشمس، نظيره الاقتصادي في قانون المصلحة الذاتية، الذي يضمن توازن الأسواق.
تعتمد سلطة الاقتصاد على دقة منطقه وتركيزه على القياس. فكل ما يمكن إحصاؤه يجب أن يُـحصى، في حين يكون كل ما لا يمكن إحصاؤه مسألة رأي، وليس معرفة. (تستند محاولات العلماء الجارية للكشف عن أسباب وتقدم مرض فيروس كورونا 2019 إلى هذه الطريقة على وجه التحديد).
ما زلت أعتبر انفصال الاقتصاد عن الثقافة قصورا خطيرا في فهم السلوك البشري. لكني أرى الآن ميزة كبرى في هذا الحياد الثقافي، لأنه يوفر “حيزا آمنا” للتفكير وسط الحروب الثقافية التي تزلزل الآن النخب غير العلمية، وتحديد أي الصحافيين يعشقون التكلم على طريقة الأساقفة.
يعكس خبث الفاشية الحالية للحرب الثقافية جزئيا الافتقار إلى أخبار بديلة: فلا تستطيع وسائل الإعلام أن تعيش على الجائحة وحدها، وقد أصبحت الأعمال المعتادة في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية في حالة من الجمود. ومن المؤكد أن “إلغاء الثقافة” لن يحظى بهذا القدر الذي يناله حاليا من الاهتمام لو كان هناك المزيد من الأخبار (الأكثر أهمية).
في عموم الأمر، كانت عملية إعادة هندسة الثقافة الغربية لجعلها أكثر قبولا لدى الثقافات الأخرى وتقبلا لها تكتسب المزيد من الزخم منذ ستينيات القرن العشرين. وفي مرحلة ما في المستقبل، ربما يظل المؤرخون أحرارا في مناقشة ما إذا كان التفكيك الطوعي لرموز ولغة وفِـكر الإمبريالية الغربية، والعنصرية، والسلطة الأبوية، والتمييز على أساس الجنس أو النوع الاجتماعي، وما إلى ذلك، يمثل تقدما حضاريا أو تراجعا، وبأي مقدار.
بطبيعة الحال، ستعتمد الإجابات على الكيفية التي قد تتكشف بها أحداث المستقبل. ولكن في الوقت الحالي، نجد أن قِـلة من المتعلمين تحت سن الثلاثين، على سبيل المثال، لديهم القدر الكافي من الذاكرة التاريخية لتحدي المعايير الحالية لإصدار الأحكام.
من المؤكد أن الاقتصاد لا يخلو من الخلافات مقارنة بالمجالات الأخرى. وأنا الآن منخرط في التعامل مع أحد هذه الخلافات في ما يتعلق بالدور الذي تضطلع به الدولة في الحياة الاقتصادية ــ هذا سؤال مشوش ملتبس يرجع إلى بداية علم الاقتصاد، وهو يؤلب أولئك الذين يعتقدون أن تدخل الدولية يؤدي إلى زيادة الأداء الاقتصادي سوءا على سوء ضد الذين يعتقدون العكس (مع كل المؤهلات اللازمة على أي من الجانبين). تتلخص مسألة أخرى مزعجة بارزة بشكل خاص اليوم في تحديد الأسباب وراء تنامي الفجوة بين الأثرياء والفقراء داخل كل البلدان. أهي مواهب متفوقة يتمتع بها الأثرياء، أو بالأحرى مزايا اجتماعية اقتصادية تراكمية يحظون بها؟
الواقع أن هذه المناقشات شرسة؛ وهي تثير تحركات سياسية من ردود الفعل، والإصلاح، والثورة. ولكن على المستوى الفِكري يحكم هذه المناقشات بروتوكول يعتبره المشاركون ملزما: فمن حيث المبدأ، يمكن للمنطق الأفضل والأدلة الأفضل ــ بعبارة أخرى، العلم الأفضل ــ حل هذه المجادلات. والتحيزات الثقافية التي تحملها الأطراف الرئيسية ليست أسلحة يمكن نشرها في معركة الأفكار الاقتصادية، لأن الحجج التي تستند إلى مغالطات شكلية أو تحيزات جنسية لا تساعد في تقدم هذه المناقشة.
تتمثل نقطة أخرى لصالح الاقتصاد في ادعائه الصحيح بأنه لا يلتفت إلى اللون أو الجنس. يتعامل أهل الاقتصاد مع الفرد باعتباره مجرد مستهلك، مع التسليم بصحة تفضيلاته وموازناته كما هي، وتجاهل الأسباب التي تدفع هذه التفضيلات والموازنات.
في الإجمال، ينطبق هذا التعامي أيضا على الأعمال. فالشركات لا تهتم بلون أو جنس عملائها أو معتقداتهم السياسية؛ بل تستجيب لطلب المستهلك عند نقطة البيع الفعلي أو المتوقع (وإن كانت تساعد أيضا في خلق الطلب). وعلى هذا، ففي غياب نقطة عمياء ثقافية ضخمة، يصبح من المستحيل إجراء أي حساب دقيق للنتائج الاقتصادية أو التجارية.
ولكن رغم إقراري بكل هذا فأنا ما زلت لا أشعر بارتياح إزاء فكرة مفادها أن الفرع من المعرفة الذي أزاوله يحميني من الحروب الثقافية. ولأنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الشعور بأن ما يدور في “عالم الثقافة” هو في حقيقة الأمر أكثر أهمية ــ في السراء والضراء ــ مما يحدث في الاقتصاد.
هذا لأن البشر لا يعيشون للخبر وحده. كما لاحظ كبير أساقفة كانتربري السابق روان ويليامز في عبارة حكيمة، فإن التبادل النقدي هو ببساطة أحد الأمور التي يقوم بها البشر. وهم يريدون أيضا أن يشعروا “وكأن العالم بيتهم المريح”. و”الاقتصاد الجيد”، إذا كان يعني في هذا السياق الاستهلاك المتزايد، ليس بالضرورة أفضل وسيلة لتحقيق هذه الغاية.
ربما يفضل بعض أهل الاقتصاد التركيز على الوضع الاقتصادي الحالي مع الابتعاد عن المسائل الثقافية، أو التصريح بأن الحرب الثقافية ستنحسر بمجرد تحسن الاقتصاد. لكن هذا ينطوي على التنازل عن المسؤولية، واختيار الطريق السهل تحت غطاء حيادية علمهم. الواقع أن جان بول سارتر كان ليعتبر هذا “سوء نوايا”، في حين يعتبره المراقبون الأكثر غلظه “جُـبـنا”.
* روبرت سكيدلسكي، أستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك، وعضو في مجلس اللوردات البريطاني ومؤلف سيرة حياة ثلاثة مجلدات من جون ماينارد كينز
https://www.project-syndicate.org
رابط المصدر: