وأَنَّ الذي لا يفرُض سُلطتهُ على النَّاسِ ويتعامَل معَ البَيعةِ [الإِنتخاباتِ] بكُلِّ صراحةٍ ووضُوحٍ وشفافيَّةٍ لا يلتافَ على نتائجِها هو الزَّاهِدُ بها ولا يكونُ كذلكَ إِلَّا الذي يتعامَل معها كأَداةٍ ووسيلةٍ لتحقيقِ هدفٍ أَسمى، أَمَّا الذي يعِدُ فيُخلِفُ ليصِلَ إِلى السُّلطةِ أَو أَنَّهُ يسلُك كُلَّ الطُّرُقِ المُلتوِيةِ…
ما هوَ نَوعُ الحكومةِ التي كان سيُقيمُها الحُسين السِّبط (ع) لَو كانَ قد سارَت الأُمور كما خطَّط لها ورسمَها ووصلَ إِلى الكوفةِ؟!.
وما هيَ هويَّة السُّلطة التي سيُؤَسِّس لها هُناكَ لَو لَم تنقلِبَ الأُمور؟!.
بالتَّأكيد فهوَ (ع) كانَ سيُقيمُ حكومةً قُوامُها العَدل والقِسط ولكانَت على النَّقيضِ تماماً من سُلطةِ الأَمويِّينَ الذين أَسَّسُوا لنظريَّةِ أَنَّ السُّلطةَ هدفٌ بحدِّ ذاتِه تستحِقُّ التَّضحيةَ بكُلِّ شيءٍ، القِيَم والمبادئ والأَخلاق واسترخاصِ الدَّم والعِرض وأَحياناً الأَرض!.
السُّلطةُ عندَ الأَموييِّنَ هدفٌ بحدِّ ذاتِها وليسَت وسيلة أَو أَداة لتحقيقِ هدَفٍ أَسمى أَلا وهوَ العدلُ والقِسطُ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} و {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
أَمَّا الحُسين السِّبط (ع) فكانَ نهجهُ يقومُ على أَساسِ أَنَّ السُّلطةَ أَداةٌ لتحقيقِ هدفٍ أَسمى حالَها حالُ أَيَّة أَداة أَو وسيلة أُخرى يوظِّفها العُقلاء لإِنجازِ أَهدافهِم السَّامية في الحياةِ، ولذلكَ فيُمكِنُ تركها والتَّنازُلِ عنها إِذا تعارضَت معَ القِيَم والثَّوابِت السَّماويَّة الرِّساليَّة.
قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسِ؛ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه فَقَالَ لِي؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟! فَقُلْتُ؛ لَا قِيمَةَ لَهَا! فَقَالَ (ع) واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا، ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ؛
إِنَّ اللَّه بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً ولَا يَدَّعِي نُبُوَّةً فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ وبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ واطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ.
أَمَا واللَّه إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا؛ مَا عَجَزْتُ ولَا جَبُنْتُ وإِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا فَلأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِه.
مَا لِي ولِقُرَيْشٍ! واللَّه لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ ولأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ وإِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ! واللَّه مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّ اللَّه اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيِّزِنَا فَكَانُوا كَمَا قَالَ الأَوَّلُ؛
أَدَمْتَ لَعَمْرِي شُرْبَكَ الْمَحْضَ صَابِحاً * وأَكْلَكَ بِالزُّبْدِ الْمُقَشَّرَةَ الْبُجْرَا
ونَحْنُ وَهَبْنَاكَ الْعَلَاءَ ولَمْ تَكُنْ * عَلِيّاً وحُطْنَا حَوْلَكَ الْجُرْدَ والسُّمْرَا
فاذا كانَ الحُسين السِّبط (ع) قد كتبَ في وصيَّتهِ التي تركَها في المدينةِ المُنوَّرةِ عند أَخيهِ محمَّد بن الحنفيَّة {وأَنِّي لم أَخرُج أَشراً ولا بطِراً ولا مُفسِداً ولا ظالِماً وإِنَّما خرجتُ لطلبِ الإِصلاحِ في أُمَّةِ جدِّي (ص) أُريدُ أَن آمُرَ بالمعرُوفِ وأَنهى عنِ المُنكرِ، وأَسيرَ بسيرةِ جدِّي وأَبي علي بن أَبي طالبٍ (ع) فمَن قبِلني بقَبُولِ الحقِّ فاللهُ أَولى بالحقِّ ومَن ردَّ عليَّ هذا أَصبرُ حتَّى يقضيَ اللهُ بيني وبينَ القَوم بالحقِّ وهوَ خيرُ الحاكمينَ}.
فحكومةُ الحُسينِ السِّبطِ (ع) المُفترضَة هي نفسها حكُومة جدِّهِ (ص) التي أَقامها في المدينةِ المُنوَّرةِ وهيَ نفسها التي أَقامها أَميرُ المُؤمنينَ (ع).
هذا يعني أَنَّ هويَّة السُّلطة التي كانَ سيُقيمَها (ع) في الكوفةِ تستنِد على الحقُوق ليسَ فيها ظلمٌ لأَحدٍ أَو جَورٌ على أَحدٍ والحاكِمُ فيها يتصرَّفُ معَ الرعيَّة كالأَب الذي يحنُّ على أَبنائهِ ويقسِمُ معهُم لُقمة العَيشِ {أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ؛ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!}.
فالحاكِمُ خادِمٌ لا يبطِشُ برعيَّتهِ أَو يفضحهُم إِذا حصلَ لهُم زللٌ ولا يستخدِم القوَّة المُفرَطة أَو يبادرهُم الحربَ إِذا خرجَ منهُم خارجٌ على قاعدةِ {وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ؛ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّه مِنْ عَفْوِه وصَفْحِه} كما كتبَ ذلكَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) في عهدهِ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر.
أَمَّا أَدواتها فقَبول الأُمَّة بها أَي أَنَّهُ لم يكُن (ع) ليستخدِمَ القَهرَ والعُنفَ والفَرضَ والإِكراهَ لإِجبارِ أَحدٍ عليها، كما فعلَ ذلكَ من قبلُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) عندما رفضَ البَيعة الخاصَّة لخلافتهِ وإِنَّما اشترطَ أَن تكونَ عامَّةً في المسجدِ قائلاً {دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَه الْقُلُوبُ ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ، وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ، واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوه أَمْرَكُمْ وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!}.
وأَنَّ الذي لا يفرُض سُلطتهُ على النَّاسِ ويتعامَل معَ البَيعةِ [الإِنتخاباتِ] بكُلِّ صراحةٍ ووضُوحٍ وشفافيَّةٍ لا يلتافَ على نتائجِها هو الزَّاهِدُ بها ولا يكونُ كذلكَ إِلَّا الذي يتعامَل معها كأَداةٍ ووسيلةٍ لتحقيقِ هدفٍ أَسمى، أَمَّا الذي يعِدُ فيُخلِفُ ليصِلَ إِلى السُّلطةِ أَو أَنَّهُ يسلُك كُلَّ الطُّرُقِ المُلتوِيةِ والأَساليبِ الشيطانيَّةِ لتضليلِ الرَّأي العام واستغفالِ الأُمَّة لينالَها فهوَ المُتهالك عليها الذي يراها هدفهُ الذي من خلالهِ يُسخِّر كُلَّ مُقدَّرات الأُمَّة وخَيرات البِلاد لخدمةِ تطلُّعاتهِ الشخصيَّة.
الحُسين السِّبط (ع) كأَبيهِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) لم يسعَ للسُّلطةِ لأَجلِها فقط ولم يفرُض إِرادتهُ على أَحدٍ ولذلكَ فعندما وصلهُ خبر إِنقلاب الكوفة على سفيرهِ الأَمينِ [مُسلم بن عقيل] وخرُوج الآلاف المُؤَلَّفة لقتالهِ في كربلاء والحيلُولةَ بينهُ وببنَ مقصدِهِ [الكُوفة] لم يشأ أَن يفرُضَ نفسهُ على أَحدٍ أَبداً فبادرَ إِلى تخييرهِم بينَ تركهِ ليعُودَ من حيثُ جاءَ [المدينةُ المُنوَّرة] أَو أَن يذهبَ حيثُ أَرض الله الواسِعة.
الحُسينيُّونَ الحقيقيُّونَ هدفهُم العدْلُ وأَداتهُم السُّلطة، أَمَّا اليزيديُّونَ فهدفهُم السُّلطة وأَداتهُم دماءُ النَّاسِ وأَعراضهُم!.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/ashuraa/39426