مرتضى معاش
(كتب بهذه الرسالة الى اصحابه، وامرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها)
في ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، سوف نتطرق لمنهجية الإمام الصادق (عليه السلام) في العلم والتعلم، وقد عُرفت فترة حياته بالفترة الذهبية، نتيجة انشغال الحكومات عن الترصد وممارسة الضغوط على أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، والانتقال من حكومة إلى حكومة.
هذه الفترة عرفت بأنها أكثر انفتاحا وكان للإمام (عليه السلام) منهجه الخاص، فكيف نستقرئ منهج الإمام الصادق (عليه السلام) على المستوى الشيعي، والإسلامي، والإنساني؟
حياة وسيرة الإمام الصادق (عليه السلام) تعطينا درسا مهما في حياتنا، وهذا الدرس يعلمنا كيف ننظر إلى معنى الإنجاز في حياتنا، فكثير من الناس عندما يقيّمون المجتمعات والدول، والحضارات والقراءات التاريخية، يقيّمونها بالإنجازات المادية، مثلا بالقصور والابراج والعمارات الشاهقة والتقدم التكنولوجي.
الصناعة المعنوية للإنسان
لا بأس بالتقدم العلمي المادي، ولكن الإنجاز الذي صنعه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) هو الإنجاز المعنوي لبناء الإنسان، لأن كل إنجاز ما لم يكن حقيقيا وجوهريا في داخل الإنسان، يبقى إنجازا شكليا، ولا يمتلك تلك القيمة الإنسانية العظيمة، بينما نحن بحاجة إلى صناعة الإنسان وصناعة المجتمعات صناعة معنوية.
تتم صناعة الإنجاز عند الإمام الصادق (عليه السلام) في أمرين:
الأمر الأول: البناء المعرفي والعلمي.
الأمر الثاني: صناعة النموذج.
والتركيز على البناء المعرفي والعلمي، لأن كل شيء، يقوم على معرفة الإنسان العلمية الواقعية، وليست الشكلية التي تعتمد على جمع المعلومات فحسب، فالمعلومات وحدها لا تكفي وإنما المعرفة بـ(الدراية) كما جاء في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وليس الرواية فقط.
الدراية تعني المعرفة العميقة التي يكون فيها تأمّل وتفكّر وتدبّر، فالمعرفة العلمية تعطي للإنسان بعدا معرفيا للمستقبل، لتشكيل ذاته ومجتمعه، والخروج من حالة الأزمات والمشكلات، والإنسان الذي يمتلك علما ومعرفة يمتلك الحلول دائما، لاسيما إذا كان هناك عمق وحكمة في معرفته وعلمه.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (من حفظ من شيعتنا أربعين حديثا بعثه الله عز وجل يوم القيامة عالما فقيها ولم يعذبه)، ولم يعذبه ليس لأنه حفظ الحديث وإنما لأنه تعلَّم الحديث، فأصبح راسخا في ذهنه وقلبه وفكره وسلوكه. إن تحول المعرفة إلى عملية بناء تعد قضية مهمة جدا، لنمو الإنسان ونضجه وتطوره وتقدمه.
كيفية صناعة النموذج
الأمر الثاني: صناعة النموذج، إن الأداء الفاشل يؤثر على رؤية الناس، مثال عن ذلك إذا كان الإنسان يقيم في مجتمع معين، يكون الحكّام والمدراء فيه فاشلين، فإن هذا يؤثر على المبادئ، حيث ينظر الناس إلى فشل الحاكم أو المسؤول باعتباره فشلا للمبادئ، فيشكل الإنسان صورة نمطية للمبادئ التي انتهجها المدير أو الوزير أو الحاكم.
لذلك فإن الأداء الفاشل يؤدي إلى تضرّر البنية الفكرية، والمعرفية لهذا المبدأ أو لهذه المدرسة، وفشل أو ضعف البنية الفكرية أدى إلى فشل الأداء، وهناك أسباب كثيرة لفشل الأداء منها الأخلاق، النزاهة والتقوى والورع عن محارم الله، ولكن للبنية الفكرية دور كبير في عملية إنتاج الأداء الإداري السياسي والاقتصادي.
من هنا لابد أن نركّز على التربية الاستراتيجية، في بناء الأداء للمدير أو الحاكم، وصناعة النموذج تعني بناء الأداء النموذجي، لأنه يشكل صورة نمطية أو صورة حقيقية للمبادئ، بحيث أن الناس يتبعون ويتشبّهون بالإنسان أو المسؤول الناجح، أو الأسوة والقدوة الناجحة، لأنه كان ناجحا في تطبيقاته (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب21، فقد اتّبع الناس الرسول (ص) لأنه الصادق الأمين والناجح في مدارته للناس وأخلاقه (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم 4)، كل هذا يؤثر في عملية اتباع النموذج والتصديق به.
لذلك فإن الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكد في أحاديثه وفي رسالته الى شيعته على بناء النموذج، (كونوا لنا دعاة صامتين. قالوا: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ قال: تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله وتنتهون عما نهيناكم عنه ومعاصيه، فإذا رأى الناس ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فسارعوا إليه)، (كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زينا ولا تكونوا شينا)، (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية).
وهذه الروايات دعوة لبناء النموذج الناجح، لذلك فإن الموالي الحقيقي لأهل البيت (عليهم السلام)، لا يفرط بالنموذج، وإذا تصدّى للمسؤولية أو لقيادة معينة أو حكم او إدارة او مسؤولية، فلابد أن يكون نموذجا صحيحا يمثل أهل البيت (عليهم السلام)، وإلا فسوف يضر مدرسة أهل البيت بسبب سلوكياته السيئة وفشله وسوء ادائه، وهذا ما يؤكد عليه أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فقد كان للإمام الصادق (عليه السلام) دور كبير في بناء النموذج، لاسيما في حكم الأمويين الذين كان هدفهم تهديم الإنسان، وتشويه الرسالة المحمدية الأصيلة، فاستثمر الإمام (عليه السلام) الفترة الذهبية بين سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، في بناء الإنسان.
العلم مُنقِذ للإنسان
عُرف عن الإمام (عليه السلام) أنه صاحب رسائل وكلمات، وأمر أتباعه بأن يتدارسوا هذه الرسائل، فلماذا التركيز على تدارس هذه الرسالة رسالته الى شيعته؟
الجواب: لأن العلم منقذ للإنسان، فالإمام (عليه السلام) أراد أن يضع خريطة علمية، سلوكية نفسية قلبية جامعة لبناء المجتمع بناءً صالحا، لذلك أكد على هذه الرسالة التي جاء في مقدمتها،
في الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) (أَنَّهُ كتب بهذه الرسالة الى اصحابه، وامرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها، وكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فاذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها).
هذا يعني اقتران العبادة بالمعرفة والعلم، فقد كان في كل بيت مصلّى، وكذلك أئمة أهل البيت كان في بيوتهم مصلى، فيصلي فيه الإنسان ويتعبّد ويتعلم العلم فيه أيضا، فكثير من الدروس الحوزوية تُدرَّس في المساجد، لأن العلم نوع من أنواع العبادة، لذلك فإنهم يحتفظون بهذه الرسالة في المصلى، ويدرسونها ويستذكرونها يوميا ويتأمّلون فيها حتى يتعلموا معنى الحياة الجيدة، وكيفية نشر مذهب أهل البيت نشرا صحيحا وتمييز الإسلام الحقيقي عن الإسلام المزيف.
التطبّع على التعلّم والتعلّم بالتطبّع
لو لم تكن لدينا هذه الرسالة وأمثالها من تراث أهل البيت (عليهم السلام)، لتغيّرت الكثير من الأمور، ولأصبحت الأفكار غير ما هي عليه الآن، كأن تكون أفكار أموية أو عباسية أو عثمانية، فهذه الرسالة عبارة عن أسس وقواعد مرتبطة بالله تعالى، وأهل البيت عليهم (السلام).
وحول مفردة (أمرَ)، يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، عن معنى أمر، بأنها جاءت بمعنى (الاستحباب) وليس الأمر بالوجوب، وإلا لكان ذلك صعب جدا على الشيعة، لكن يمكن أن نتأمل معنى (امر) بأنه حكم العقل، بوجوب التعلّم، حتى في الأمور الفقهية والعقلية واجب على الإنسان أن يتعلمها ويتفقّه فيها بمقدار ما يُنجي نفسه وحياته وعدم الوقوع في الحرام والشبهات.
فعندما يتعلم الإنسان باستمرار وتصبح حياته مطبَّعة مع العلم، يصبح إنسانا ناجيا متعلّما على سبيل النجاة، فيستنقذ نفسه بالعلم.
هنالك اليوم الكثير من السلوكيات التي نلاحظها في مجتمعات كثيرة، شاذة وغريبة يقوم بها بعض الناس، لكنها قد تصبح في بعض الأحيان حالة عامة، والسبب في ذلك عدم التعلم الصحيح، وعدم تعلم الأخلاق الصحيحة السليمة، لأن الإنسان إذا لم يتعلّم الجيد سوف يتعلم السيّئ.
فالتأكيد على المدارسة هي تأكيد على التطبّع على التعلّم، أو التعلّم بالتطبّع، وقد قال الإمام (عليه السلام): (هذا أدبنا أدب الله، فخذوا به وتفهموه واعقلوه ولا تنبذوه وراء ظهوركم)، بمعنى تصبح حالة مستمرة عند الإنسان وتتكون ملَكة عنده، فالإنسان الذي يصلي ويصوم يوميا، لا يترك الصلاة والصيام، فبالإضافة إلى التزامه بأحكام الله تعالى، أصبحت العبادة حالة طبيعية في حياته.
ماذا يعني التأدّب؟
التأدّب سلوك ممنهج، يعتمد على استمرارية من صغر الإنسان حتى يصبح كبيرا، يصبح التأدّب عنده ملَكة، وحالة ثابتة في نفسه، فإذا تعلّم الكرم تبقى هذه الحالة عنده، وإذا تعلم البخل تبقى هذه الحالة عنده أيضا، فالتطبّع بالأشياء الجيدة يجعل الإنسان مستمرا على هذه الحالة الجيدة، لذلك نحتاج في كل صلاة نؤديها، أن نتدارس ونتأمل في تراث أهل البيت (عليهم السلام)، حتى تصبح حالة طبيعية في حياتنا أي نتطبع بها.
وعندما يتطبّع الناس بالعلم والمعرفة، تصبح الأمة متقدمة، فتكرس الجهل والأمية والتخلف اليوم، لعدم وجود تطبع بالتعلّم والدراسة، بغض النظر عن مناهج الدراسة الرسمية، فهذه الدراسة تعلّم الإنسان الأمور العلمية، مثل الرياضيات والجغرافيا وهكذا.. وهي جيدة، ولكن نحتاج إلى تعلّم أعمق يعلمنا الحلال والحرام، ويعلمنا العقائد، والأخلاق الجيدة، فهذه أسس معرفية مهمة لتشكيل شخصية الإنسان وبنائه.
المفاعلة بالمدارسة
لذلك يركّز الإمام (عليه السلام) على قضية بعد الصلاة (يضعونها – الرسالة- في غرفهم ويعلقونها)، ليس من أجل مشاهدتها فقط أو التبرّك بها، وإنما من أجل المدارسة والمذاكرة والتأمّل، المدارسة بمعنى المشاركة في دراستها وفهمها، مع التصاعد والتوسع والشمول فيها، المدارسة لا تعني أن يكون الإنسان وحده، بل بمشاركة الآخرين كإقامة حلقات دراسية، وهذا أفضل وأعم وأشمل طريقة للتعلّم.
يوجد لدينا في الحوزة مفردة (مباحثة)، بمعنى يحضر الإنسان الدرس، ثم يبدأ المباحثة مع مجموعة من الحاضرين كالتلاميذ الذي يستذكرون الدرس معا، فالمباحثة تعطي تنوعا في الأفكار، وتعددية في الاستنباط والاجتهاد العلمي، لذلك تعد المدارسة أساسية، على وزن (مفاعلة) وتدور بين أطراف متعددة.
مشاركة العقول مكسب للإنسان
المباحثة تعطي قوة للتعلّم والمعرفة، لذلك يؤدي إلى التصاعد والتوسع والشمول، ربما يوجد عند الإنسان رأي واحد، لكن حين تصبح الآراء عشرة تصبح لدينا عشرة آراء، وهذا كسب أكبر للإنسان والمجتمع، يحصل النمو العلمي عند الإنسان عندما يكون قادرا على استكشاف أفكار الآخرين، والاطلاع عليها، فيصبح لديه نوع من التوسع والشمول وعدم النظر للأمور من زاوية واحدة.
لذلك لا يمكن للإنسان أن يدرس وحده، أما إذا كان أسلوب التدريس تلقينيا، فمن الممكن للإنسان أن يدرس وحده ويحفظ مادة الدرس، فالحفظ شيء جيد لكن الأساس هو جوهر الحفظ، ونعني به التأمل في المعنى، والأهم من ذلك هو العمل بما يتعلّمه.
الوصول إلى روح العلم
يريد منا الإمام الصادق (عليه السلام) أن نصل إلى روح العلم، وليس للعلم فقط، فالغاية والمقصد من العلم هو الذي يؤدي إلى صلاح حياتنا واستقرارها واستدامتها.
ومما كتبه الإمام علي (عليه السلام) للأشتر حين ولّاه مصر: (وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك)، فمفهوم المدارسة يعني كثرة المباحثة والتباحث العلمي، مع العلماء والحكماء والمفكرين والخبراء، فهذا يؤدي إلى صلاح البلاد، لأنه (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)، فالمستبد جاهل، والمشاور عاقل عالم.
فمعنى المدارسة أنه لابد للإنسان أن يدرس ويتدارس الأمور مع الآخرين، بانفتاح ومشاركة، وعقلية مرنة، بحيث يتعلم ما يصلح له نفسه وإصلاح مجتمعه، لأن البلاد عندما تفتقد إلى رؤية العلماء والحكماء والخبراء ومباحثاتهم، تصبح متهالكة وهشة، لأنها ستكون بيد الجهلاء.
فالإصلاح الحقيقي يبدأ من خلال المدارسة، والمباحثة، والتفكير المشترك فيما بين العلماء والحكماء والخبراء، لذلك فإن الإمام الصادق (عليه السلام) يركز على هذه النقطة المهمة في قضية المدارسة لبناء الإصلاح والوصول إلى روح العلم، وغاية ومقصد روح العلم الإصلاح، إصلاح الإنسان والمجتمعات.
استكشاف ما وراء السطور
(والنظر فيها..)، ليس المقصود بمفردة النظر هو رؤية أو مشاهدة الرسالة، وإنما الـتأمل فيها، فعندما يأتي النظر والبصر في الحديث، فإنه يأتي بمعنى البصيرة، حيث يتأمل الإنسان ويتعمّق حتى يفهم ويتدبّر ويتعقل.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، ولا يزيده سرعة السير من الطريق إلا بعدا).
لا يمكن للإنسان أن يعمل بظاهر العلم، وظاهر الحديث، فلابد أن يستكشف الأمور حتى يصل إلى الحلول، وتنفتح الأبواب أمامه، فأهل البيت (عليهم السلام) توجد في كلامهم وأحاديثهم أضواء كثيرة عندما يتأملها الإنسان ويتدبّرها، ومن ثم يستدل على الطرق الصحيحة في الحياة من خلال الاستكشاف والاجتهاد الفكري والعلمي.
فالمطلوب هو الاجتهاد العلمي والفكري، لأن الإنسان كلما يسعى ويتأمل ويتعمّق ويتدبر من خلال الأسس الفطرية والعقائدية الصحيحة فإنه ينجح، لكن هناك بعض الناس يذهب ويتأمل في قضايا كثيرة فيخرج عن الطريق، لأنه لا يمتلك الأسس الصحيحة، فينحرف عن الطريق المستقيم، الذي قد يقوده إلى الواقع.
فالنظر، بعبارة أخرى هو الاستبصار، أي استكشاف معاني ما خلف السطور، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجها لنا من جميعها المخرج) يعني البطون، فالمهم هو العلم والمعرفة الحقيقية، لأن الحفظ وحده لا يكفي.
السلطة الحقيقية بالمعرفة
في هذا الزمن أصبحنا نحفظ ولا نعمل، ولا نفهم، لكن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث سابق له أكد على فهم الأشياء وتعقّل الأشياء، لا يكفي للإنسان أن يتعلّم، فلابد أن يتعقّل، ويفهّم الأشياء حتى يصل إلى جوهر الأمور، وهذا هو التقدم، يقول القرآن الكريم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الزمر 9.
أمر طبيعي أن الإنسان الذي يتعلم يتقدم على الجاهل، في أي شيء كان بسبب العلم الذي يمثل ميزة للإنسان، يُقال اليوم أن رأس المال الحقيقي ليس الأموال، وإنما المعرفة، فمن عرف وعلم تقدّم وامتلك السلطة، فالسلطة الحقيقية بالمعرفة، كما في الاقتصاد، فالاقتصاد الحقيقي هو الاقتصاد المعرفي. المعرفة تجعل الإنسان متقدم على الآخرين.
ماذا تعني كلمة تدريه؟
دراية: مَعرِفة دَقيقة، وقيل خِبْرة، والمعرفة ببواطن الأمور، وتدريه أي تعرفه معرفة حقيقية تدرك فيها كنهه.
فعلم الحديث قسمان وهما الرواية: حيث يعنى بمصدر الحديث ونوعه وموثوقيته ورواته، والدراية: ويعني بدراسة متنه ودلالاته، وهذا هو معنى (ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا) حيث يحتاج الإنسان أن يتعلم علوما أخرى مثل علوم اللغة والنحو والبلاغة واصول الفقه، مما يؤدي الى معرفة جوهر الكلمات ودلالتها، وغايات المعاني.
وعن الامام الصادق (عليه السلام): (رواة الكتاب كثير ورعاته قليل فكم مستنسخ للحديث مستغش للكتاب والعلماء تجزيهم الدراية والجهال تجزيهم الرواية).
فمدارسة العلماء والحكماء والخبراء تعني (اعقلوه)، ولا يعني ذلك أن يدرس فقط، كلا بل يريد أن يصل إلى غاية معينة، وهي الإصلاح وبناء وتنمية وتطوير البلاد، أما الدراية فتعني التأثير الذي يحصل عند الإنسان في حياته وسلوكه، فالإنسان عندما يفهم معنى الكلام سوف يحدث التغيير في حياته ويستكشف عالما آخر أو طريقا معينا، أو حلا جديدا يصل له.
الاستدلال والاستكشاف والاستنباط
الدراسة العلمية المثمرة تكون عبر الاستدلال وهو الاستكشاف للمعرفة والاستنباط للأحكام الشرعية وحتى غير الأحكام الشرعية من المفاهيم المتنوعة، من خلال الروايات والآيات القرآنية، والمدارسة تعني تدبّر استخراج المعاني، فهناك بطون للكلام، وكلما تزداد معرفة الإنسان تزداد قدرته على استكشاف البطون، وكلما يتقدم الزمن يصبح عند الإنسان قدرة على اكتشاف أكبر وأوسع.
هؤلاء المبتكرين والمستكشفين، كثير من الأمور التي اكتشفوها كانت موجودة أمامنا ولكننا لم نكن نعرفها، لكن التأمل أوصلهم لما وصلوا اليه، مثلما حصل مع مكتشف الجاذبية كما يُقال، بسبب سقوط تفاحة، فقد كان متأملا متفكّرا فعرف أن هناك شيئا اسمه الجاذبية، فالتأمل يعطي الإنسان قدرة على استكشاف كثير من الحلول في حياته.
هناك كثير من الحلول غائبة في حياتنا، لكن يمكن في المستقبل يأتي أناس قادرون على استكشاف تراث أهل البيت (عليهم السلام) فيصنعون عالما آخر، ربما بطريقة أكثر تجددا تكون أسهل فهما للناس، وفي الرواية عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: (إذا قام قائمنا عليه السلام وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم)، هذا يعني أن المعرفة سوف تتغير، والقدرة على الاستكشاف تصبح أعمق، والتدبّر يكون أكبر وأوسع، فكل هذا يؤدي إلى معرفة أخرى أكبر وأنضج واكثر إدراكا للواقع.
لذلك ذكرنا في بداية الحديث أن رسالة الإمام (عليه السلام) لشيعته، هدفها بناء النضج الإنساني، والاجتماعي، والنهضوي للأمة، فهذه الرسالة جاءت لإنضاج الأفكار والعقول للمستقبل، فكلما يتعمق الإنسان بهذه الرسالة ويتأمل فيها ويتدبّر، يستطيع أن يصل إلى معرفة جيدة في حياته، فجملة (حديث تدريه) يعني حديث فيه تأمّل وتدبّر ونظرة عميقة.
الاستدامة على العلم والتعلم
(والتعاهد عليه) بمعنى التصميم على الالتزام والانضباط والاستدامة في الدراسة والعلم، فالتعاهد يعني الالتزام، التعهد من العهد، فيتعهدون بعملية تحقيق هذا الشيء، لأن العلم من الممكن أن يفر من الإنسان ما لم يستمر عليه، لأن طبيعة الإنسان إنه يحب الراحة والاسترخاء، وفي كثير من الأحيان يملّ العلم، وعن الامام علي (عليه السلام): (العالم الذي لا يمل من تعلم العلم)، فإذا لم تكن عنده استدامة على العلم يصبح جاهلا، ويصبح الجهل منتشرا، لأن الفراغ للعلم كبير فيحتاج الأمر إلى الاستدامة والاستمرار والانضباط.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (لا فقه لمن لا يديم الدرس) لا يديم بمعنى عدم وجود استدامة، فينقطع الفقه، مثلا يدرس يوما واحدا في الأسبوع والأيام الأخرى تمضي دونما درس وتعلّم، في هذه الحالة لا يصبح الإنسان فقيها، ولا عالِما، لأن الفقيه الحقيقي والعالِم الحقيقي هو الذي يستديم في دراسته.
التعاهد بالكتابة
ومن مصاديق التعاهد عليه هو الكتابة والكتب، فقوة الأمم تقاس بمنتوجها العلمي والثقافي في العرض والطلب، فعن المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: (اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم).
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا).
العلم العملي
(والعمل به) بمعنى تطبيق مضامينها والعمل وفقها. وهو معنى العلم العملي وتطبيقاته الواقعية. فالعمل بالعلم هو الذي يؤدي الى تطور العلم وثمره، وعدمه يؤدي الى العقم الحضاري، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه).
.
رابط المصدر: