باسم حسين الزيدي
تعرض الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) الى ظلم كبير من قبل السلطة العباسية التي كانت ترى فيه تهديدا حقيقيا لأركان نظامها القائم على الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات والحقوق واستخدام العنف المفرط تجاه المعارضة، ومع هذا الظلم والقسوة التي اعتمدت شتى أساليب التعذيب والسجن وملاحقة الأنصار والاعتقالات والاغتيال، لم يتخذ الامام الكاظم (ع) في افعاله واقواله أي موقف عنيف كرد فعل مقابل افعال السلطة الغاشمة التي ارادت جر الامام الكاظم (ع) الى الصدام العنيف لتبرير افعالها الاجرامية والانتقامية.
وبالرغم من ان الامام الكاظم (ع) كان يمتلك الوسائل المادية والمعنوية التي تمكنه من مجابهة السلطة بطريقة المثل (العنف)، الا انه اعتمد اسلوب اللاعنف كمنهاج وسلوك لمواجهة العنف المفرط لا لضعف او انهزام او تراجع، لكن القدرة على مواجهة العنف باسلوب اللاعنف والتغلب على الطرف العنيف له أثر قوى ومعنى كبير لا ينحصر في زمن ومكان المواجهة بل يتعداه الى مديات أوسع ونتائج ابلغ وأسمى.
يقول المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي ان: “الإمام موسى الكاظم عليه السلام، هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد، الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود له بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائما، ويقطع النهار متصدقا وصائما، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي كاظما، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف بالعراق باب الحوائج إلى الله”.
لقد كانت المكانة الكبيرة التي يحظى بها الامام الكاظم في زمنه، والثقل المعرفي والأخلاقي والديني والسياسي الذي يتمتع به مثار قلق جميع خصومه واعداءه، لذلك لم تفلح جميع محاولاتهم لجر الامام الكاظم (ع) الى المواجهة العنيفة بكل اشكالها وصورها، حتى دعاهم الامر، بعد ان عجزت جميع محاولاتهم المادية والمعنوية، الى سجن الامام حتى تاريخ استشهاده داخل سجنه، في محاولة للتخلص من الهالة الأخلاقية الكبيرة التي زرعها الامام الكاظم (ع) في نفوس الناس (الأعداء والمحبين)، واعتمدت اسلوب اللاعنف وكظم الغيظ والإحسان والعفو والتسامح، مع الإحاطة بأن محاولات الترهيب والترغيب لم تنتهي حتى وهو مقيد بسلاسل الحديد في طاموره لا يرى فيها ضوء النهار.
ويشير السيد الشيرازي (رحمه الله) الى هذه المسألة المهمة بقوله: “وإن من أظهر مصاديق اللاعنف في الحوار والتعامل مع المخالف في الرأي هو ما يتبين ويظهر جلياً في سيرة أئمة أهل البيت (ع) مع معارضيهم والمخالفين لهم بالرأي بل حتى مع أشد المحاربين، حتى أن المخالف لا يقوم عن مجلسهم إلا معترفا بفضلهم وعلمهم مقراً بأن الله جعلهم مستودع علمه وحكمته، فيقوم القائم منهم وهو يردد: الله أعلم حيث يضع رسالة”.
ويمكن توضيح هذا المقصد من خلال قصة نقلت عن رجل مؤذ للإمام الكاظم (ع)، وكان يمارس السب والشتم لأهل البيت (ع)، وهنا قال للإمام الكاظم بعض انصاره: دعنا نقتل هذا الفاجر، ولكن الامام الكاظم (ع) نهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم، ثم ان الامام الكاظم (ع) سأل عن الرجل فقيل له: انه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب اليه فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره واتجه الى الرجل حتى وصل اليه، ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وسأل عن مقدار ما أنفق على زرعه؟
قال الرجل: مائة دينار.
فسأله الامام: كم يأمل أن يربح من زرعه؟
قال: لست اعلم الغيب !!
قال له الامام (ع): انما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟
قال: أرجو ان يجيء مائتا دينار.
فأخرج له الامام الكاظم (ع) صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال: هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو.
فقام الرجل وقبل رأس الامام، وسأله أنْ يصفح عنه، فتبسم الامام وانصرف.
وحين ذهب الامام الكاظم (ع) الى المسجد النبوي الشريف وجد الرجل جالسا، فما كان من الرجل حين رآه الا أن قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وحين سئل الرجل: كيف تحول من خندق العداء الى خندق الولاء؟
قال: لقد سمعتهم قولي فيه الآن.
ثم ان الامام الكاظم (ع): سأل اولئك الذين كانوا يريدون قتل الرجل المسيء اليه: ايما كان خيراً ما أردتم؟ أم ما أردت؟
وقد يتساءل البعض عن سبب امتناع الامام الكاظم (ع) في مواجهة العنف بالعنف مع القدرة على المواجهة بالمثل؟
يجيب اية الله السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه الله) عن هذا التساؤل بقوله: “أن الرجل الذي يشن الهجوم ويشتم ويقوم بموقف انفعالي، إنما يفعل ذلك انطلاقاً من ضغوط وقناعات معينة، فإذا لم نرد عليه بالمثل، سنعطيه وقتا ليعيد التفكير فيما اتخذه من موقف، كما يحصل بين الزوج وزوجته، فإذا تجاوز أحدهما على الآخر ولم يرد أحدهما على الآخر بانفعال، فان ثورة الغضب ستنتهي ويعود الطرف الغاضب ليفكر من جديد في صحة الموقف أو الكلمة التي قالها، ويندم، تقول الآية المباركة: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة)، فبعد لحظات الانفعال بقليل يعيد الإنسان تفكيره من جديد ويتساءل عن سبب قيامه بذلك العمل، ولكن إذا كان الرد بالمثل، الشتم بالشتم، فانه يفرز العناد ليس عند الكبار فقط، بل حتى عند الأطفال، إذ نلاحظ أحياناً الطفل يكون متمرداً في البيت، فإذا تم رده بالعنف سيرد بالعنف أيضا، فبعد هذا العنف المضاد، لن يبقى مجال للتفكير عند هذا الطفل أو ذلك الكبير بالدفاع عن ذاته، فيرد عليك وتتصلب عنده قناعاته، وهكذا يدور الأمر في حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل ولا ينتهي الأمر إلى نتيجة، ولكن إذا عملنا بما أمرنا الله سبحانه وتعالى، وبما مشى عليه أولياء الله فإن هنالك احتمالاً كبيراً أن يعيد الطرف تفكيره ويرجع إلى الحق”.
علينا ان ندرك جيداً ان: “النفس الإنسانية فيها قوى خيرة تجر الإنسان إلى عمل الخير والصلاح، وفيها أيضاً قوى عدوانية شريرة تحاول جر الإنسان إلى الأعمال الشريرة، والعنف من المصاديق الظاهرية لتغلب القوى الشريرة في الإنسان على القوى الخيرة، وهو من المشاكل المهمة التي صادفت الإنسان في سالف الزمان وإلى يومنا هذا، فكثير من الحروب المدمرة وجرائم القتل الفردية والجماعية، وانتشار الحقد والعداوة بين الناس، كان بسبب العنف، أو كان العنف السبب الرئيسي فيها”، لذلك أراد الامام الكاظم (ع) وسائر اهل البيت الكرام (ع) ان يصححوا مسار الإنسانية التي يحاول المجرمون والمفسدون فيها جرها الى العنف والقتل والدمار والفوضى، وهي لم تخلق لذلك، وارجاعها الى نظامها الطبيعي القائم على اللاعنف والتسامح والعفو والسلم والسلام.
ومن اجل إعادة صياغة النفس المحرضة على العنف، وتوطين مبادئ اللاعنف لدى الفرد، حتى يصل الى حقيقة منهاج السلم وقوة العفو والتسامح في مقابل ضعف وهمجية ومحدودية العنف والقسوة وردود افعالها في مواجهة الازمات والمشاكل يمكن العمل على:
1. تهيئة النفس لمواجهة الصعوبات في طريق اللاعنف:
يقول الامام الشيرازي: “فالذي يترتب علينا هو أن نهيئ أنفسنا ونعدها إعداداً يمكننا من مجابهة الصعوبات التي تعترض طريق عملنا، لنواصل العمل بكل جد ومثابرة، أما كيف يمكن تجاوز الصعوبات حتى يستمر العمل ويعطي نتائجه؟ فإن أهم ما يتطلبه العمل الصحيح الذي يعطي ثماره ويرضاه الله سبحانه وتعالى، هو أن يكون مصحوباً باللاعنف وممتزجاً بالتقوى والورع والأخلاق”.
2. العمل بلا عنف مطلقاً:
يقول الامام الشيرازي: “يجب أن يخلو عملنا من العنف، ويمتاز بالتفاهم والخلق الرفيع واحترام الرأي الآخر، ومتى ما اقترنت هذه الصفات مع عمل أي فرد أو جماعة أو أمة فإنها سترتقي به سلم التقدم والسيادة”.
3. ترك التعصب وعدم التعقل (العنف والتهور):
يقول السيد محمد الشيرازي: “فكثير من الحروب والصراعات الدولية والقبلية وحتى الشخصية التي قامت في الزمن الماضي وفي زماننا هذا، لو بحثنا عن الأسباب التي أدت إليها لوجدنا بأن غالبيتها قامت بسبب التعصب وعدم التعقل (أي العنف والتهور)، ونحن هنا لا نريد ذكر احصائية عن الخسائر والويلات والخسائر البشرية والاقتصادية التي جرتها تلك الحروب والصراعات على البشرية.
4. اتباع أسلوب التفاهم والحوار:
“نريد أن نذكر بأن هذه الحروب والصراعات كان من الممكن تحاشيها لو أتبع أسلوب التفاهم والحوار بدلاً من أسلوب العنف، ولأصبحت هذه الخسائر البشرية والاقتصادية أداة بناء في المجتمعات، فعلينا إذن أن نعتبر من تلك الدروس والعبر التي سطرها ويسطرها لنا التاريخ في الماضي وفي وقتنا هذا”.
.
رابط المصدر: