دينا حلمي
هكذا جاءتنا إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2016 لتحذر من ارتفاع معدلات الانتحار بشكل كبير التفتت له العديد من الدول بالبحث وحاولت التعامل معه جديًا، فيما تجاهلته دول أخرى وبالأحرى لم تقف أمامه طويلاً.
كانت مصر إحدى دول الفئة الثانية، فرغم أن إحصائيات المنظمة أظهرت تصدرها المركز الأول عربيًا ذلك العام بـ3799 حالة انتحار متفوقة بهذا العديد من مناطق الحروب، إلا أن حالات الانتحار ما زالت تتوالى يومًا تلو الآخر.
يدل هذا الوضع على خطأ ما في النظام الاجتماعي، وهو الخطأ الذي أشار إليه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، حينما أكد أن ارتفاع معدلات الانتحار هو إشارة دالة على التفسخ الاجتماعي، وأن القوى الاجتماعية هي الفاعل الرئيس لإقدام الفرد على الانتحار.
حقائق الانتحار في مصر
لمعرفة حقيقة الانتحار في مصر، وما إذا كانت هذه المعدلات تدق ناقوس الخطر أم لا، يمكننا إلقاء نظرة على واقع هذه المعدلات عالميًا وعربيًا، وهو الواقع الذي يشير إلى أنها وإن سجلت مستويات متوسطة أو منخفضة عالميًا، إلا أنه عربيًا لم يكن الوضع كذلك.
فأعلى معدلات الانتحار عالميًا – طبقًا لما أعلنت عنه الصحة العالمية عام 2016- كانت في أوروبا الشرقية، حيث تصدرت ليتوانيا قائمة الدول الأوروبية بمعدل 30 حالة بين كل 100 ألف نسمة، وتبعتها في ذلك روسيا بمعدل 31 حالة بين كل 100 ألف نسمة، أما أوروبا الغربية فكانت بلجيكا وفرنسا وإيرلندا الدول الأعلى في معدلات الانتحار.
وفي الولايات المتحدة، لم يكن الوضع أفضل حالاً، إذ ارتفعت معدلات الانتحار في الفترة من 1999 إلى عام 2016 وبلغ عدد المنتحرين ذلك العام نحو 45 ألف شخص، حتى أصبح الانتحار واحدًا من بين الأسباب الثلاثة الرئيسية للوفاة الآخذة في الصعود بها بجانب ألزهايمر وجرعات المخدرات الزائدة.
وإن كانت مصر تسجل مستوى منخفضًا عالميًا، حيث بلغت حالات الانتحار بها العام ذاته (2016) نحو 3799 حالة كما سبق الإشارة، إلا أنها عربيًا جاءت في الصدارة متقدمة بذلك على العديد من مناطق الصراعات مثل السودان التي حلت بالمركز الثاني بـ3205 حالة انتحار، واليمن التي جاءت ثالثًا بـ2335 حالة، والجزائر التي احتلت المرتبة الرابعة بـ1299 حالة، تليها العراق (1128 حالة) والسعودية (1035 حالة).
وبالرجوع لمعدلات الانتحار على مدار السنوات الماضة، نجد أن معدلاته المرتفعة عام 2016، لم تكن استثناءً. فطبقا لما أظهرته بعض الإحصائيات المصرية، شهد عام 2007 وقوع نحو 3708 حالات انتحار، وارتفع العدد إلى نحو 5 آلاف حالة عام 2009، فيما شهد عام 2011 نحو 18 ألف حالة محاولة انتحار (طبقًا لإحصاءات مركز السموم التابع لجامعة القاهرة)، واستمر المعدل في الارتفاع إلى أن احتلت مصر المركز 96 عالميًا من حيث حالات الانتحار بين صفوف الشباب، حيث تجاوز عدد المنتحرين سنويًا 4250 منتحرًا، وفق دراسة أجرتها الصحة العالمية عام 2017.
بين النفي والتكتم: ماذا فعلت الدولة؟
أمام هذه الأرقام وغيرها الكثير، نجد أن الحكومة المصرية لا تتعامل بشفافية مع هذه الظاهرة، فلا تصدر وزارة الصحة أو الداخلية (الجهتان المنوطتان بتسجيل حالات الوفاة) إحصاءات واضحة بعدد حالات الانتحار، كل ما تفعله الخروج بتصريحات عدة تنفي صحة الأرقام المتداولة عن معدلات الانتحار أو مقارنتها بمعدلات الانتحار عالميًا، لتؤكد انخفاض تلك المعدلات في مصر في تسطيح للأمر يدل على عدم الجدية في معالجة الظاهرة من ناحية، ويفتح الباب من ناحية أخرى أمام اجتهادات المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني في تقدير حالات الانتحار.
لعل أبرز الأمثلة على طريقة تعامل الدولة المصرية مع هذه الظاهرة، اكتفاء المركز الإعلامي لمجلس الوزراء بالرد على تقرير منظمة الصحة العالمية عن الانتحار عام 2016، وتأكيده أن معدل الانتحار في مصر من المعدلات المنخفضة جدًا على مستوى العالم، وأن مصر تحتل المركز 150 من أصل 183 دولة، دون اتخاذ أي محاولة جادة للتعامل مع الظاهرة.
أيضًا كشفت طريقة التعامل المصري مع الظاهرة عن تضارب كبير في الأرقام التي تصدرها الجهات الرسمية عن الانتحار. فنجد مثلاً الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الذي يعتبر الجهة الرسمية المخولة بجمع البيانات ونشرها، أشار في نشرته التي حملت عنوان «مصر في أرقام» إلى ارتفاع عدد المنتحرين في مصر من 1160 شخصًا عام 2005 إلى 3700 في 2007، ليصل إلى 4200 في عام 2008، ثم يرتفع إلى 5 آلاف حالة عام 2009.
ورغم ما قدمه من إحصائيات، نجد وزارة الداخلية المصرية لا تلتفت إلى هذه الأرقام وتشير في تقاريرها الأمنية أن معدلات الانتحار الموثقة رسميًا في مصر لم تتجاوز حاجز الـ 310 حالة سنويًا، وأن ما تم ذكره ليس لديها معلومات بشأنه.
السبب وراء هذا التكتم والتضارب، يرجع لتحفظ الجهات الرسمية عن نشر مثل تلك البيانات لأسباب مختلفة قد تكون عدم إثارة الفزع في المجتمع أو منع تصدير صورة سلبية، وهو أمر لا ينطبق على مصر فقط، لكنه حال العديد من الدول. فلا يوجد سوى عدد قليل من الدول التـي لـديها بيانـات جيــدة عــن تســجيل الأحــوال المدنيــة يمكــن اســتخدامها مباشــرة لتقــدير معــدلات لانتحــار.
ولا يتوقف التكتم عند حد الدولة فقط، ولكن المجتمع أيضًا، ففي كثير من الحالات تعمد الأسر إلى إخفاء حالات الانتحار وتسجيلها على أنها حالة وفاة طبيعية، خشية الوصم الاجتماعي باعتبار الانتحار أمر مشين للأسرة، ما يزيد الأمر غموضًا.
فتش عن الأسباب
رغم التحفظ، فالأمر يستدعي نظرة حقيقية لأسباب الانتحار في ظل ارتفاع معدلاته بين الشباب بشكل كبير. فحادث انتحار طالب بكلية الهندسة نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2019 من أعلى برج القاهرة، لم يكن الأول، كذلك الشائع في مصر عمليات الانتحار تحت عجلات المترو، ففي اليوم التالي انتحر شاب عشريني أمام المترو بمحطة أرض المعارض، وبين هذا وذاك تتوالى الأخبار بشكل شبه يومي عن حالات انتحار جديدة بين الشباب. وهي الحالات التي وثقها كتاب «شهقة اليائسين» الذي رصد حالات الانتحار في مصر والوطن العربي.
فطبقًا له، فإن الفئة العمرية الأكثر إقبالاً على الانتحار في مصر هي ما بين 15 و25 عامًا، حيث تبلغ نسبتهم 66.6 % من إجمالي عدد المنتحرين في كل الفئات. تأتي بعد ذلك نسبة المنتحرين من المرحلة العمرية ما بين 25 و40 عامًا، حيث تمثل النسبة الأكبر لانتحار الرجال. وفي المرتبة الثالثة تأتي الفئة العمرية من 7 إلى 15 عامًا، إذ بلغت 5.21 % من إجمالي المنتحرين في مصر.
وفي محاولة تفسير ارتفاع معدلات الانتحار، نجد النظريات المفسرة والمتنوعة بين النفسية والاجتماعية والاقتصادية. فالنظريات النفسية ترى أن الانتحار هو نتيجة إخفاق دوافع الفرد العدائية نحو التعبير عن نفسها، فيتم توجيهها نحو الذات حيث يتم تدميرها بالقتل. وأبرز الأسباب المسببة للانتحار هنا الاكتئاب، فالمكتئب يشعر باليأس ما يدفعه للتخلص من حياته بالانتحار ويزيد هذا الدافع لديه أنه يركز تركيزًا انتقائيًا على المعلومات والخبرات التي تتطابق مع ما لديه من صيغ معرفية سلبية عن نفسه وعن العالم والمستقبل.
أما النظريات الاجتماعية، وفي مقدمتها نظرية إميل دور كايم، فترى أن حالات الانتحار التي تحدث داخل مجتمع محدد في زمن محدد، لا يجب النظر إليها كحوادث فردية معزولة بل ظاهرة تشير لخطأ مجتمعي. وقسمت النظرية الانتحار إلى 4 أنواع (الأناني، الإيثاري، اللا معياري والقدري). الأول غالبًا ما يوجد في المجتمعات التي تعاني حالة تفكك، بحيث لا يكون الفرد مندمجًا في الوحدة الاجتماعية الكبرى ويعاني تفككًا أسريًا، الأمر الذي يعرضه لحالة من الكآبة تدفعه إلى الانتحار. والثاني يحدث عندما يكون الاندماج الاجتماعي قويًا جدًا، فالفرد هنا يجبر على الانتحار، فهو مثل الفداء ويحدث تحت القهر الاجتماعي.
أما الثالث يحدث عندما تضطرب ضوابط المجتمع، أثناء فترات الاضطرابات أو اختلال التنظيم الاجتماعي والتغيرات الاجتماعية الحادة والأزمات الاقتصادية الشديدة. والرابع (القدري أو الجبري)، فيحدث عند فرض نظام اجتماعي صارم على فئة من الأفراد كعمال السخرة أو العبيد، حيث لا أمل في الحرية ولا خلاص في المستقبل.
وأخيرًا، النظريات الاقتصادية، فترى بصفة عامة أن الظروف الاقتصادية والمالية والمعيشية للفرد من أهم دوافع الانتحار، إذ تزداد حالات الانتحار مع صعوبة الحالة الاقتصادية للمجتمع.
هل تنطبق على مصر؟
بتطبيق تلك النظريات على المجتمع المصري، نجد أن أغلب الأسباب التي ذكرتها تنطبق عليه، إذ تعددت أسباب الانتحار بين النفسية والاجتماعية والاقتصادية. فنجد مثلاً الأسباب النفسية من اكتئاب وضغط وقلق مزمن لعبت دورًا كبيرًا في تزايد حالات الانتحار، إذ يعاني24.7% من المصريين من مشاكل نفسية.
وأكثر الفئات التي تعرضت لهذا كانت فئة الشباب والطلاب، الأمر الذي أشارت إليه حوادث انتحار الطلاب المتكررة وأكدته أيضًا دراسة لوزارة الصحة والسكان في أبريل/نيسان 2018، أشارت إلى أن 21.5% من طلبة الثانوية العامة يفكرون في الانتحار. فالطلاب يشعرون أن مستقبلهم بالكامل يعتمد على الدرجة التي يحصلون عليها، ويواصل الآباء ممارسة الضغط عليهم للحصول على أعلى الدرجات، حتى يصل الأمر إلى الانتحار.
كذلك لعبت العوامل الاجتماعية من العنف المنزلي والتفكك الأسري والعنوسة والبطالة وصعوبة الزواج دورها في إقدام البعض على الانتحار، حتى أن مركز السموم أشار إلى أن نحو 2700 فتاة أقدمت على الانتحار سنويًا بسبب العنوسة، هذا بالطبع إلى جانب العديد من الحالات التي أقدمت على الانتحار نتيجة مرورها بأزمات عاطفية، كما هو الحال في واقعة إلقاء شاب عشريني بنفسه في نهر النيل بالقاهرة، لفشله في إتمام الخطوبة من فتاة كان يرغب في الزواج منها.
وأخيرًا، فالعوامل اقتصادية كان لها دور بارز في ظل ارتفاع معدلات الفقر بين المصريين ووصولها 32.5% عام (2017/2018). ولعل أبرز المؤشرات على هذا، الأنباء المتجددة عن حالات انتحار آباء لعدم قدرتهم على توفير احتياجات المعيشة لأبنائهم، وحالات قتل فيها الآباء أبناءهم للسبب ذاته.
بالنهاية، يجب الإشارة إلى أن عدم توافر إحصاءات رسمية من قبل الدولة عن حالات الانتحار ودوافعها، كان سببًا رئيسيًا في عدم القدرة على تحديد نسبة كل عامل من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية، والدور الذي لعبه في ارتفاع المعدلات بهذا الشكل.
رابط المصدر:
https://www.ida2at.com/suicide-egypt-why-we-escape-the-problem/