يوفر تحليل المؤتمرات الانتخابية للمرشحة الديمقراطية “كامالا هاريس” والمرشح الجمهوري “دونالد ترامب” إلى جانب سياساتهما خلال فترة عملهما في البيت الأبيض، مؤشرًا واضحًا على الاتجاه الذي ستتخذه السياسة الخارجية لكلا الحزبين إذا تولى أي من المرشحين الرئاسة في يناير 2025. فمن المتوقع أن تواصل هاريس تعزيز التعاون مع الحلفاء الأوروبيين وشرق آسيا، واستمرار التعاون مع حلف شمال الأطلسي، كما ستظل صامدة في موقفها من فلاديمير بوتن والحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى الدعم الثابت واللامحدود لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، ولكن من المحتمل أن تسعى هاريس إلى احتواء التهديد الصيني والإيراني.
في مقابل ذلك، سيسعى ترامب إلى سياسات من شأنها إضعاف التحالفات الأمريكية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أوروبا وشرق آسيا. وهذا يعني تشكيل تغيير كبير في ديناميكيات حلفاء الولايات المتحدة وخصومها، وستكون أوروبا وحلف شمال الأطلسي أول من يشهد تلك التغييرات. وفي هذا السيناريو، ستضطر أوروبا وحلف الناتو إلى الاختيار بين مواصلة الحرب أو السعي إلى السلام مع روسيا، إما من خلال الحفاظ على الصراع مع بوتن دون دعم الولايات المتحدة أو من خلال التفاوض على السلام بشروط ترامب. وهناك ثقة ضئيلة بين الزعماء الأوروبيين في استعداد ترامب – أو قدرته – على جعل المفاوضات مع بوتن بشأن وقف إطلاق النار جزءًا من استراتيجية شاملة ذات فوائد دائمة، والتوصل إلى خطة سلام من شأنها أن تحمي سيادة أوكرانيا بالكامل.
ورغم أنه من غير المحتمل أن يحاول ترامب انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي، فإنه لن يكون داعماً مثل بايدن وهاريس في تقديم المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا. لذا من المتوقع في عام 2025، أن يتراجع ترامب عن القرارات التي اتخذتها إدارة بايدن لطمأنة أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا مثل نشر قوات أمريكية في أوروبا الشرقية، ودعم الدول الأوروبية التي تقدم مساعدات عسكرية لأوكرانيا. وبدون التزام واضح من جانب الولايات المتحدة، سوف يفتقر حلف شمال الأطلسي إلى الزعامة السياسية والقدرات التقليدية والنووية للدفاع عن أوروبا. واستنادا إلى تصريحات ترامب، يتوقع الأوروبيون أن يستخدم المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي كوسيلة ضغط لزيادة الميزانيات العسكرية أكثر مما فعلوا ردا على حرب روسيا على أوكرانيا. كما يخشون أن يستخدم تهديداته بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي لتسوية القضايا غير الدفاعية مع الاتحاد الأوروبي ــ مثل العجز التجاري ــ بشروطه.
وتدرك أوروبا أنها تفتقر إلى القدرة على مواجهة التهديدات الحالية والناشئة في غياب الدعم الأمريكي. وقد تجبر معارضة أوروبا لترامب الاتحاد الأوروبي على التنازل عن مستقبل حرب أوكرانيا لواشنطن، حتى لو كان ذلك يعني التنازل عن النصر لبوتين، وقبول روسيا كتهديد دائم على حدوده. خاصة أن فوز ترامب قد يؤدي إلى إضعاف أوروبا وتفتتها في الأمد القريب، وإن كان هذا الضعف قد يكون مؤقتًا، لكن سيظل تحقيق الوحدة الحقيقية بين الدول الأوروبية، التي لم تتحد بعد بشكل كامل، تحديًا طويل الأمد.
كما يشعر القادة الأوروبيون بالقلق إزاء الانحدار المستمر وربما غير القابل للإصلاح في المعايير الديمقراطية إذا عاد ترامب إلى الرئاسة. فالأوروبيون قلقون ليس فقط بشأن السياسة الداخلية للولايات المتحدة ــ خطر انتشار الاستبداد في الولايات المتحدة ــ بل وأيضًا بشأن التأثير على النظام الدولي، الذي يعتقدون أنه قد يعاني من انتكاسة أكثر خطورة من ولاية ترامب الثانية. بالإضافة إلى أن عودة ترامب قد تشجع زعماء شعبويين قوميين آخرين في أوروبا وخارجها، كما حدث خلال فترة ولايته للخروج من الاتحاد الأوروبي والتشكيك في أهميته.
ويخشى الأوروبيون أن تكون رئاسة ترامب مرة أخرى كارثية للعلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي. واستنادًا إلى تصريحاته وأفعاله السابقة، فهو مستعد للعودة إلى التعريفات الجمركية وغيرها من التدابير الاقتصادية القسرية ضد حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي. وقد تؤدي التعريفات الجمركية المتجددة على كل شيء من صادرات الصلب والألمنيوم إلى السيارات إلى توجيه ضربة لاقتصادات العديد من الدول الأعضاء. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يزيد ترامب من الضغوط على الاتحاد الأوروبي لاتباع سياسته تجاه الصين وحثه على فصل اقتصادات الاتحاد الأوروبي بشكل كامل عن الصين.
ومن المرجح أن يعمل ترامب على تصعيد التوترات مع الصين بشكل أكبر مما حدث أثناء رئاسة بايدن، ولن يتردد في معاقبة الدول التي تحاول الحفاظ على علاقات وثيقة مع كل من واشنطن وبكين. ومن شأن سياسات ترامب تجاه الصين أن تشكل تحديات خطيرة للاقتصاد والأمن العالميين. على سبيل المثال، إذا تم فرض تعريفات جمركية غير تقليدية، فقد تضطر الشركات متعددة الجنسيات إلى البحث عن بدائل للعمل في الصين. وفي حالة فوز ترامب، فمن المرجح ألا يكون أمام الصين خيار سوى توسيع الاتفاقيات متعددة الأطراف داخل مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون. ومن أجل تخفيف الضغوط المحتملة من جانب الولايات المتحدة، من المتوقع أن تكثف الصين نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لتأمين موارد الطاقة والزراعة والمواد الخام، حتى ولو كانت مثل هذه الإجراءات تنطوي على مخاطر تجارية عالية.
ومن بين دول جنوب شرق آسيا، انحازت الفلبين، تحت قيادة فرديناند ماركوس الابن، إلى جانب الولايات المتحدة على الرغم من ردود فعل الصين. ومن المحتمل أن يؤدي فوز ترامب إلى زيادة التوترات الجيوسياسية في بحر الصين الجنوبي إذا قلصت الولايات المتحدة، أقوى حليف للفلبين، وجودها العسكري. وسعى الرئيس ماركوس، الذي تحرك لإصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة في أعقاب تحول سلفه نحو الصين، إلى الحصول على دعم بايدن وأعلن أن الفلبين لن تستسلم للضغوط الصينية. ومن جانبه، أعلن بايدن أن معاهدة الدفاع بين الولايات المتحدة والفلبين “لا تقبل الجدل”.
كما سعت دول رئيسية أخرى في شرق آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، إلى تعزيز تعاونها الأمني مع الولايات المتحدة. ومن المرجح أن يؤدي فوز ترامب إلى تفاقم التوترات بين واشنطن وبكين إلى الحد الذي قد يجعل حتى حكومات شرق آسيا، الماهرة في موازنة العلاقات، غير قادرة على الحفاظ على الحياد. كما أن إعادة انتخاب ترامب قد تضعف المظلة النووية الأمريكية المصممة لحماية كوريا الجنوبية من عدوان كوريا الشمالية. خاصة أن ترامب دائم الشكوى من أن حلفاء الولايات المتحدة لا يدفعون ما يكفي مقابل القواعد الأمريكية والقوات المستخدمة في الدفاع عنهم. كما ذكر ترامب أن تايوان يجب أن تدفع للولايات المتحدة في مقابل الدفاع عنها في مواجهة الصين.
ومن المرجح أن يعيد ترامب النظر في سياسته المتمثلة في تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، وقد يضطر إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط للحد من نفوذ إيران في المنطقة. ويأمل الإسرائيليون واليمين السياسي في حكومة بنيامين نتنياهو، الغارقة حاليًا في حرب غزة، في فوز ترامب. لاعتقادهم أنه سيمنح إسرائيل حرية التصرف لتدمير قطاع غزة وحركة المقاومة الإسلامية حماس، ولن يهتم بإقامة دولة فلسطينية، ويأملون أن يقف ترامب بحزم ضد طموحات إيران التوسعية.
ختامًا، من المتوقع أن تكون الانتخابات الأمريكية لعام 2024 منافسة متقاربة للغاية. وإذا فاز دونالد ترامب بولاية ثانية، فسوف يبادر إلى إحداث تغييرات جذرية في السياسات على جبهات متعددة – مع تغييرات عالمية تستحق الاستكشاف. ومن المحتمل أن تصبح أوروبا، في ظل الأمر الذي أصدره بوتن بتشغيل الأسلحة النووية التكتيكية ضد الحلفاء الأوروبيين في حرب أوكرانيا، نقطة انطلاق للصراع النووي إذا لم يتم التوصل إلى حل سياسي في السنوات المقبلة لإنهاء هذه الحرب. ومن المرجح أن يؤدي فوز ترامب – الذي قد يصاحبه استمرار الحروب في أوكرانيا وغزة – إلى إحداث تغييرات كبيرة في الديناميكيات العالمية. وأي قرار غير مدروس يتخذه البيت الأبيض بشأن الأزمات الحالية أو الناشئة قد يزيد من تعقيد الموقف ويجعل العالم أقل أمانًا. والشعور المتزايد بعدم الأمان من شأنه أن يدفع الدول إلى زيادة أسلحتها، الأمر الذي قد يؤدي إلى تقسيم العالم إلى كتلتين عسكريتين تعيد ذكريات الحرب الباردة. ولكن على النقيض من الماضي، حيث كانت الحرب الباردة بمثابة بديل للصراع العسكري المباشر، فإن الأزمات الحالية والمتفاقمة قد تدفع العالم نحو حرب عالمية، حيث تنخرط القوى العسكرية الكبرى الآن في سباقات تسلح قد تنطوي في نهاية المطاف على صراع نووي.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82402/