حتى في غياب دونالد ترمب كمرشح، فإن الانتخابات الأميركية تميل إلى أن تكون ساحة خصبة للصراع. فالولايات المتحدة تعتبر الديمقراطية الرئاسية الوحيدة التي لا تُفضي فيها الأغلبية الشعبية بالضرورة إلى الفوز بالسلطة. والفترة التي تفصل بين التصويت والتصديق النهائي على نتائج الانتخابات في الكونغرس، والتي تمتد لشهرين، هي الأطول على مستوى العالم.
هذا التعقيد يفتح الأبواب أمام الطعون القانونية، مما يزيد الأمور تعقيدا. وبسبب كل هذه العوامل، تتطلب الانتخابات الأميركية صبرا وثقة كبيرين. ومن المؤسف أن أميركا تأتي في المرتبة الأخيرة بين دول مجموعة السبع الكبرى من حيث الثقة في النظام القضائي، وكذلك في المرتبة الأخيرة فيما يتعلق بالإيمان بنزاهة الانتخابات.
ثم هناك السيد ترمب. خلال المناظرة التي عُقدت في فيلادلفيا، ظهر الرئيس السابق غاضبا ومليئا بالشعور بالظلم. ومرة أخرى، كرر مزاعمه الكاذبة والخطيرة بأن انتخابات 2020 قد سُرقت منه، وهي ادعاءات يؤيدها نحو 70 في المئة من الناخبين الجمهوريين. ترمب وحزبه يستعدان لخوض معركة ما بعد الانتخابات للمرة الثانية. وكلا الحزبين يدعي أن فوز الطرف الآخر سيشكل تهديدا للديمقراطية الأميركية. وبالنسبة لترمب، فإن المخاطر شخصية أكثر، حيث قد ينتهي به الأمر في السجن إذا خسر. ولكن إذا لم تكن نتائج الانتخابات متقاربة، فقد تتفادى أميركا مرحلة أخرى من انتقال السلطة المسموم. وللأسف، بالنسبة لديمقراطية أميركا التي تتعرض لضغوط متزايدة، فإن السباق الرئاسي الحالي أصبح اليوم أكثر تقاربا من أي وقت مضى منذ بدء استطلاعات الرأي.
إلى أي مدى قد تصبح الأمور فوضوية؟ هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة. الأول، وهو الأقل احتمالا على الإطلاق، هو حدوث تعادل في الأصوات بين كامالا هاريس ودونالد ترمب في المجمع الانتخابي. في هذه الحالة، سيقوم مجلس النواب باختيار الرئيس المقبل، حيث تمتلك كل ولاية صوتا واحدا. حتى إذا فازت هاريس بالتصويت الشعبي في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، فإن احتمال فوز ترمب بالرئاسة سيكون شبه مؤكد. ورغم أن هذا السيناريو سيكون قانونيا ويعتمد على القواعد، فإن الديمقراطيين سيكونون بلا شك غاضبين من تلك النتيجة.
العلم الاميركي في الساحة التي شهدت محاولة اغتيال ترمب الاولى في مدينة بتلر في يوليو
السيناريو الثاني هو فوز دونالد ترمب. وفي هذا السيناريو، قد يلجأ الديمقراطيون إلى رفع دعاوى قضائية في الولايات المتأرجحة التي خسرتها كامالا هاريس. وقد تصل بعض هذه القضايا إلى المحكمة العليا، وسينظر فيها ثلاثة قضاة عيّنهم ترمب. ثلاثة من هؤلاء القضاة عملوا ضمن الفريق القانوني لجورج دبليو بوش في قضية بوش ضد آل غور عام 2000، مما سيجعل من الصعب إقناع مؤيدي هاريس بأن القرارات التي تصب في صالح حملة ترمب نزيهة وغير منحازة. بعد قرارات المحكمة المتعلقة بالإجهاض والحصانة الرئاسية، بات الديمقراطيون يرون القضاة كسياسيين جمهوريين يرتدون عباءة القضاء. ومع ذلك، من المرجح أن يقبل معظم الديمقراطيين المنتخبين الأحكام، وإن كان ذلك على مضض أكثر مما كان عليه الحال في عام 2000.
قد تفشل حركة “أوقفوا السرقة” الجديدة قانونيا بينما تنجح سياسيا. ففي الانتخابات الأخيرة، صوّت عدد كبير ومفاجئ من الجمهوريين في مجلس النواب لصالح رفض نتائج الانتخابات
ومع ذلك، إذا اقتنع عدد كاف من المشرعين الديمقراطيين بأن المحاكم تصرفت بشكل غير عادل، فقد يحاولون عرقلة التصديق على النتائج في الكونغرس، مستندين إلى السابقة التي وضعها الجمهوريون في عام 2021. وفي ذلك العام، صوّت 139 عضوا في مجلس النواب وثمانية من أعضاء مجلس الشيوخ (جميعهم من الجمهوريين) لرفض النتائج الانتخابية. وقبل عامين، جرى تمرير إصلاح قانون إحصاء الأصوات الانتخابية، ما رفع الحد الأدنى للاعتراضات، بحيث أصبح يتطلب دعم 20 عضوا في مجلس الشيوخ و87 عضوا في مجلس النواب لتقديم الاعتراضات على النتائج. وفي حال حدوث السيناريو غير المرجح الذي تُقبل فيه هذه الاعتراضات الأولية، من المرجح أن يخسر الديمقراطيون التصويت النهائي اللاحق في كلا المجلسين. ورغم أن هذا السيناريو ممكن، فإن الاحتمال الأكبر هو أنه في حال فوز ترمب، ستقوم كامالا هاريس بالتنازل، مما سيُضعف أي محاولة ديمقراطية للطعن في النتيجة. ولكن إذا فازت كامالا هاريس، فإن رد فعل دونالد ترمب لن يكون بالهدوء نفسه.
وفي السيناريو الثالث، تتصادم تعقيدات النظام الانتخابي الأميركي مع آلية المؤامرة تحت شعار “جعل أميركا عظيمة مجددا”. وبالفعل، قامت اللجنة الوطنية الجمهورية برفع أكثر من 100 دعوى قضائية انتخابية بشكل استباقي في مختلف الولايات، بهدف إنشاء سجل قانوني يتيح لهم الطعن في النتائج إذا لزم الأمر. ومن المرجح أن تفشل هذه الاستراتيجية القانونية مرة أخرى، كما حدث في انتخابات 2020. الجانب الإيجابي هو أن حكام الولايات المتأرجحة الرئيسين لا ينتمون إلى فئة منكري الانتخابات. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون المحامون الذين يفكرون في تقديم نظريات مؤامرة إلى المحاكم مترددين، بعد أن شهدوا العواقب القانونية التي واجهها رودي جولياني، أحد أنصار ترمب، الذي تعرض لوابل من الدعاوى القضائية. وإذا وصلت بعض هذه القضايا إلى المحكمة العليا، قد يسعى رئيس المحكمة جون روبرتس، إلى جانب القضاة الثلاثة الذين عيّنهم ترمب، إلى إثبات استقلاليتهم من خلال رفض الطعون القانونية الضعيفة. في هذه الحالة، قد يبدأ الديمقراطيون في النظر إلى المحكمة العليا على أنها حامية للديمقراطية الأميركية.
الرئيس السابق والمرشح الجمهوري الى الانتخابات الرئاسية الاميركية دونالد ترمب والى يساره المرشح الى منصب نائب الرئيس جي دي فانس اثناء مؤتمر الحزب الجمهوري في ميلووكي في 15 يوليو
ومع ذلك، قد تفشل حركة “أوقفوا السرقة” الجديدة قانونيا بينما تنجح سياسيا. ففي الانتخابات الأخيرة، صوّت عدد كبير ومفاجئ من الجمهوريين في مجلس النواب لصالح رفض نتائج الانتخابات. ومنذ ذلك الحين، ازداد ولاء الحزب لترمب بشكل أكبر. فأعضاء الحزب إما يعتقدون فعلا أن الجانب الآخر لا يفوز إلا عن طريق سرقة الانتخابات، وإما أنهم يعلنون تأييدهم لهذا الادعاء في العلن. لكن الأصوات المعارضة داخل الحزب، مثل ليز تشيني وميتش ماكونيل ومايك بنس وميت رومني، فقد جرى تهميشها بشكل واضح. وفي حال نجح الجمهوريون في الكونغرس في الدفع نحو تصويت لإلغاء نتائج الانتخابات، فمن المحتمل أن يخسروا هذا التصويت. ولكن الاستمرار في الترويج لنظريات المؤامرة قد يعزز من قوة أسطورة “الانتخابات المسروقة”.
الانتخابات، بمعناها الأعمق، تهدف إلى توليد موافقة الشعب على من يحكمهم، حتى لو كان رئيسا لم يصوتوا له
ومن بين أخطر العواقب المحتملة لأسطورة “الانتخابات المسروقة” تصاعد العنف السياسي. وفي حين سيكون مبنى الكابيتول تحت سيطرة أمنية مشددة في يناير/كانون الثاني 2025، ما يجعل تكرار أحداث الشغب في السادس من يناير أمرا مستبعدا، فإن الشرطة المحلية، والخدمة السرية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي سيضطرون إلى التحضير لاحتمال استهداف المتظاهرين لمبانٍ حكومية في الولايات المختلفة، بالإضافة إلى مواجهة مخاطر محاولات اغتيال قد تستهدف المشرعين. ويقرّ نحو 20 في المئة من البالغين الأميركيين بانفتاحهم على فكرة استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية. وفي بلد كبير ومسلح بشكل جيد مثل الولايات المتحدة، لا يتطلب الأمر سوى قلة صغيرة من هؤلاء الأفراد لتكون جادة في نواياها، حتى يصبح هذا التهديد واقعا حقيقيا ومروعا.
المحتال الأكبر
العاقبة الأخرى لاستمرار أسطورة “الانتخابات المسروقة” هي التدهور التدريجي للديمقراطية الأميركية. وللتوضيح، سيظل هناك انتقال سلمي للسلطة في يناير/كانون الثاني 2025؛ فلن يتمكن أي طرف من تنصيب رئيس خسر وفقا للقواعد. ولكن هذا يمثل الحد الأدنى من النجاح الديمقراطي. فالانتخابات، بمعناها الأعمق، تهدف إلى توليد موافقة الشعب على من يحكمهم، حتى لو كان رئيسا لم يصوتوا له. وهذا يتطلب إيمان الناخبين بأن العملية الانتخابية عادلة وجديرة بالثقة، وأن لديهم فرصة حقيقية لفوز جانبهم في غضون أربع سنوات. مع كل مرة يشعر فيها الناس بأن الانتخابات تفتقر إلى الشرعية، يقترب اليوم الذي يختار فيه أحد الأطراف كسر النظام بدلا من قبول النتائج.