عشرات المقالات دُبجت ونشرت لقراءة ما يخبئه الغيب من تغيرات على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية. جرى التمحيص في الفوارق المجهرية بين ما سيفعله الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب استنادا إلى نهجه في السنوات الأربع التي أمضاها في البيت الأبيض، فيما ساد اعتقاد بأن نائبة الرئيس الحالية والمنافسة الديمقراطية على المنصب ستسير على خطى سلفها جو بايدن الذي اقتبس جوانب عدة من سياسته عن الرئيس الأسبق باراك أوباما.
لا تثريب على هاتين المقاربتين المستلتين من المنحى العام لما علمنا وذقنا من السياسات الأميركية في الأعوام القليلة الماضية. والحال أن السياسات الأميركية حيال الشرق الأوسط لا تشهد تغيرات كبرى منذ احتلت الحرب على الإرهاب في عهد الرئيس جورج بوش الابن الأولوية بدل عملية السلام العربية– الإسرائيلية في عهود من سبقه.
تفاصيل عدة يمكن رصدها وإضافتها إلى التبدل المذكور مع بعض الصعود والهبوط وجولات الموفدين، إلا أن التركيز الأميركي لم يعد على إنهاء الصراع المزمن الذي تشهده المنطقة. ثمة أولويات أخرى معروفة: صعود الصين على المستوى العالمي. الحرب في أوكرانيا. التمدد الإيراني الذي يلامس حينا الصراع العربي– الإسرائيلي وحينا آخر ينكفئ عنه ليمضي في طريق مستقل على نحو ما حصل عند توقيع الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة والدول التي شاركت في تلك المفاوضات في 2015.
ومن دون الخوض في تقييم عقيم وممل للسياسة الأميركية، يتعين القول إن الرئيس الجديد سيتعامل مع مشهد مختلف تماما للمنطقة عن ذاك الذي رآه بايدن عندما أقسم اليمين الدستورية رئيسا للولايات المتحدة. لقد تغيرت معطيات رئيسة. ذلك أن حربي غزة ولبنان وهزال نتائج الدور الذي أسند إلى الحوثيين والميليشيات الولائية في البحر الأحمر والعراق، أضعفت كلها النفوذ الإيراني إلى حد كبير وقدرته على فرض حقائق على الأرض.
لكن المشكلة أن من فرض التغيرات الكبرى التي شهدها كل من غزة ولبنان (وتستعد سوريا لاستقبالها، على ما يبدو) هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يمتلك تاريخا طويلا من إفشال كل مساعي السلام والحلول الدبلوماسية والتسويات في الشرق الأوسط، بالاستناد إلى مزيج من المكونات الأيديولوجية المتطرفة والانتهازية السياسية المفرطة. وهذا المزيج، وإن قوبل بالاستهزاء من خصوم الرجل داخل إسرائيل وخارجها، فإنه أثبت منذ المرة الأولى التي تولى فيها نتنياهو رئاسة الحكومة سنة 1996، أنه ناجح جدا في حشد الجمهور الإسرائيلي وإثارة مخاوفه الوجودية وإبقاء نتنياهو في سدة السلطة.
المشكلة أن من فرض التغيرات الكبرى التي شهدها كل من غزة ولبنان هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
لنتنياهو الدور الأكبر في تغيير الوضع في الضفة الغربية وجعل المستوطنات تتخلل خريطتها على نحو بات عذرا لرفض حل الدولتين. فمئات الآلاف من المستوطنين الآتين من خلفيات يمينية متطرفة، معبأون بالكراهية والتشنج ولن يقبلوا بالتنازل عن “أرضهم” على ما يقول السياسيون الإسرائيليون. ولم تكن مفاجأة– إلا لمن أراد أن يفاجأ– أن يكرر نتنياهو السلوك ذاته في غزة بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الكارثي.
محو المدن والمخيمات الفلسطينية والتركيز على الجامعات ودور المحاكم والمستشفيات والبنى التحتية، يصب في فرض حقائق جديدة على الأرض بحيث لا تعود صالحة للسكن وحيث يفقد السكان علاقتهم الوجدانية بها من خلال تدمير كل ما له صلة بالذاكرة الجمعية وبما يثبت انتماء الفلسطينيين إلى المكان هذا الذي تحول إلى أكوام من الأنقاض.
وسيان اتفقت “حماس” والسلطة الفلسطينية على كيفية تسيير شؤون القطاع بعد الحرب أم لم تتفقا، فإن نتنياهو هو من يقرر إذا كان هذا الاتفاق سيخرج إلى حيز التنفيذ أم لا، باعتبار أن جنوده هم من يسيطرون على الأرض. وعليه، ستكون الكلمة الأخيرة لهم، في اعتقادهم، للكيفية التي يعاد بها– أو لا يعاد– إعمار غزة والإشراف على الأحوال المعيشية لمن سينجو من المدنيين الفلسطينيين من هذه الإبادة.
أمر مشابه سيجري في لبنان. لقد ركز الجيش الإسرائيلي جهوده على تدمير مقرات ومخازن “حزب الله”، لكنه بذل جهودا مماثلة لتفجير أسواق وبنى تحتية مدنية في الجنوب والبقاع خصوصا، ومسح عن الخريطة عشرات القرى وهو يدرك بكل وضوح أنه يخلق بذلك جملة طويلة من المشكلات للبنانيين ستبرز خطورتها والأهوال التي تنطوي عليها بعد انتهاء القتال. التغيير الديموغرافي والتدمير المنهجي للأسواق والمراكز التجارية ونسف آلاف البيوت في عشرات القرى الجنوبية والقصف المسعور للضاحية الجنوبية والبقاع، ليست كلها عمليات محض عسكرية. بل إن ملامح فرض مسار سياسي واجتماعي واقتصادي جديد على لبنان تبرز من تفاصيل ما يجري.
ماذا يسع الرئيس الأميركي المقبل أن يفعل أمام ما أنجزه “زعيم الظلام” ما خلا السير في ركابه؟