الانتخابات الأوروبية والمشهد السياسي في فرنسا بعد حل الجمعية الوطنية

أحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زلزالًا في التاسع من شهر يونيو الجاري بقيامه بحل الجمعية الوطنية الفرنسية ودعوته إلى انتخابات جديدة ينعقد دورها الأول في ٣٠ يونيو الجاري وينعقد دورها الثاني في ٧ يوليو لهذا العام، مختارًا بذلك أقصر مهلة تنص عليها المادة ١٢ من الدستور الفرنسي. وبذلك، يفرض على الأحزاب أن تقوم بتقديم ترشيحاتها يوم الأحد ١٦ يونيو، ما لا يترك سوى أسبوع واحد للأحزاب لتشكيل تحالفات محتملة وترشيح مرشحيها في ٥٧٧ دائرة انتخابية. وأتى ذلك القرار إثر عقد الانتخابات الأوروبية في اليوم ذاته واكتساح اليمين المتطرف والذي يتضمن صعود حزب التجمع الوطني بقيادة جوردان بارديلا بحصوله على ضعف الأصوات التي حصل عليها حزب الرئيس الفرنسي، حزب النهضة.

نتائج الانتخابات … انعكاسات داخلية غير متوقعة في فرنسا

يضم البرلمان الأوروبي، وهو الهيئة الأوروبية الوحيدة المنتخبة مباشرة من الشعب، ٧٢٠ عضوًا يتم انتخابهم كل خمس سنوات، ثم ينتخب أعضاء البرلمان الأوروبي رئيسهم لمدة عامين ونصف. وتتم الانتخابات على المستوى الوطني بحيث يقوم الناخبون بالتصويت للأحزاب الوطنية التي من شأنها أن تمثلهم على المستوى فوق الوطني.

وعليه، تعد الأحزاب الوطنية لكل دولة جزءًا من تحالفات فوق وطنية أوسع تضم من كل أو معظم الدول الأحزاب التي تشارك الرؤية ذاتها. وتنضم الأحزاب السياسية الفرنسية إلى ٦ تحالفات ضمن التحالفات السبع القائمة.

وتظهر نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي أن التحالف الذي يضم حزب التجمع الوطني لم يحصل على القدر الأكبر من المقاعد في البرلمان الأوروبي مقارنة بالتحالف الذي يضم حزب الرئيس الفرنسي. ولكن على المستوى الداخلي، فاز حزب التجمع الوطني بضعف الأصوات التي حصل عليها حزب النهضة وذلك بنسبة تزيد على ٣١.٥٪ من الأصوات مقابل ١٥.٢٪ لحزب النهضة. نتيجة لذلك، سيحصل حزب التجمع الوطني على ٣١ مقعدًا من أصل ٨١ مقعدًا مخصصًا لفرنسا في البرلمان الأوروبي.

هذا، وأتى قرار الرئيس الفرنسي بحل الجمعية الوطنية بعد دعوة جوردان بارديلا له، في خطاب ألقاه بعد الانتصار الذي حققه حزبه، بحل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة، قائلًا إنه “لا يمكن للرئيس أن يظل أصمًا عن الرسالة التي يحملها الفرنسيون”، آخذًا في وصف هذه الفجوة غير المسبوقة بين الأغلبية الرئاسية وحزب المعارضة بأنها رفض واضح للسياسة التي يقودها ماكرون وحكومته. وهو ما لا يمكن تجاوزه نظرًا للسخط الشعبي تجاه ماكرون والذي يبدو نقطة يغفل عنها الرئيس الفرنسي في حالة دعوته لانتخابات تشريعية جديدة يراهن فيها على الثقة في مواطنيه وقدرة الشعب الفرنسي على اتخاذ الخيار الأكثر عدلاً لنفسه وللأجيال القادمة، في إشارة إلى تجنب اختيار اليمين المتطرف الذي يعتبره ماكرون معارضًا للكثير من التقدم الذي سمحت به أوروبا من انتعاش اقتصادي وحماية مشتركة لحدودهم ودعم المزارعين ودعم أوكرانيا، مشيرًا إلى أن صعود القوميين والديماغوجيين يشكل خطرًا على الأمة وعلى أوروبا وعلى مكانة فرنسا في أوروبا والعالم.

حالة من الانقسام الحاد … توترات داخل الجمعية الوطنية قبل الانتخابات

أتت هذه الانتخابات في خضم حالة من الانقسام الحاد في البرلمان الفرنسي بين مؤيد ومعارض للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وذلك إلى جانب حرص الرئيس الفرنسي على الحفاظ على موقف معتدل لا ينحاز بشكل كبير وملحوظ إلى أي من الطرفين، خاصةً مع وجود أكبر جالية عربية ويهودية في أوروبا داخل دولته.

ولكن، لا يزال ماكرون حريصًا على عدم اتخاذ أي قرار قد يكون في مصلحة الطرف الفلسطيني على حساب الطرف الإسرائيلي، مشيرًا إلى أنه لا يجب الاعتراف بالدولة على أساس السخط، وذلك في أعقاب المظاهرات التي تنادي بدعم سكان قطاع غزة والتي شاركت فيها أحزاب سياسية يسارية تتبنى موقفًا دفاعيًا مميزًا عن القضية، لاسيما حزب أقصى اليسار، حزب “فرنسا الأبية”، الذي اتخذ من القضية جزءًا كبيرًا من حملته للانتخابات الأوروبية، مؤيدين أن المفوضية الأوروبية ورئيستها أورسولا فون دير لاين مذنبتان بالدعم غير المشروط لسياسة نتنياهو الإجرامية ضد الفلسطينيين، وداعين إلى اتخاذ إجراءات ملموسة ضد إسرائيل.

أثار هذا الحزب، المؤيد للاعتراف الفوري بدولة فلسطين، شغبًا واضحًا في البرلمان الفرنسي في الأيام السابقة والذي انتقل بدوره إلى الشارع الفرنسي، وذلك ضمن رفع أحد النواب العلم الفلسطيني في إحدى دورات انعقاد الجمعية الوطنية والذي أدى إلى طرده لمدة أسبوعين، وهي أقصى عقوبة يمكن أن يحصل عليها. هذا وأخذ هذا الحزب في تنظيم مظاهرات مؤيدة لفلسطين في الشوارع ومنها ما هو أمام محطتي البث الفرنسيتين “تي إف ١” و”إل سي إي”، في أعقاب لقاء أجرته المحطتان مع نتنياهو، كما استخدموا مواقع التواصل الاجتماعي لدعوة الشعب لمقاطعة القناتين.

لم يكن موقف الحزب اليساري المتطرف هو الذي أثار هذا الشغب منذ البداية ولكن يجب النظر إلى موقف طلاب الجامعات الفرنسية الذين خرجوا في مظاهرات متتالية لدعم القضية الفلسطينية والذين دخلوا نسبيًا في حالة من الصدام مع الشرطة الفرنسية. ومع تطور الأوضاع في عدد ليس بقليل من الدول الأوروبية بشكل مماثل، كان الوضع في فرنسا أكثر كثافة.

بالإضافة إلى الشغب الذي أثاره هذا الحزب، يلاحظ أن الانقسام الأكبر داخل الجمعية الوطنية كان متمحورًا حول هذه القضية، أو بالأحرى هي القضية التي تصدرت قائمة الخلافات الداخلية في الفترة التي تسبق الانتخابات الأوروبية. حيث انقسمت الجمعية الوطنية إلى ثلاثة أقسام: اليمين يرفض، واليسار يؤيد، والوسط يدعي أن الوقت المناسب والشروط لاتخاذ إجراء فعلي لم يحن بعد.

ومن ناحية، نجد ضمن اليساريين، إلى جانب حزب “فرنسا الأبية”، حزب الخضر والحزب الاشتراكي اللذين يتبنيان توجه الأخير داعيين للتوقف عن تأجيل منظور الدولتين إلى أجل غير مسمى. ومن ناحية أخرى، نجد أنه ضمن اليمينيين، يأتي حزب الجمهوريين ضد الاعتراف مدعين أنهم من يدعمون حل الدولتين يومًا ما، كونهم الأقل تطرفًا في ردود أفعالهم حيال القضية. هذا ونجد حزب “الاستعادة!” الذي يرفض الفكرة وبشدة مدعين أنهم لا يستطيعون تحمل قيام دولة فلسطينية، ما سيعني قيام دولة شبه إسلامية، لحين القضاء على حماس. وبالتأكيد سيأتي الموقف الأكثر تطرفًا من حزب التجمع الوطني الذي يرى هذا الأمر مستحيلاً، منتقدين تصريحات الأحزاب السياسية الأخرى حول هذا الموضوع.

وفي ظل الانقسام السياسي حول هذه القضية التي بدأت تُثير غضب الشعب الفرنسي، عرب منهم أو أجانب، أصبحت القضية جزءًا من الحملات الانتخابية للأحزاب المشاركة في الانتخابات الأوروبية. وبالتالي، من شبه المؤكد أن تُدرج في حملاتهم الانتخابية للانتخابات البرلمانية القادمة في ٣٠ يونيو و ٧ يوليو لهذا العام، وهو ما بدأ به حزب التجمع الوطني مؤكدين أنهم سيرفضون وقف إطلاق النار في غزة حتى يتم استعادة الرهائن الذين تحتجزهم حماس، تماشيًا مع سياستهم المتطرفة تجاه الهجرة والمسلمين والعرب المقيمين في فرنسا.

مزيج من التناقضات والمخاطرة … دوافع حل الجمعية الوطنية

وسط هذا السياق المشتعل، أعرب ماكرون عن دافعه الأساسي لحل الجمعية الوطنية باعتباره أن صوت الشعب الفرنسي في الانتخابات الأوروبية، التي لم يتقدم للتصويت بها إلا نصف الشعب تقريبًا، أي بنسبة امتناع تصل إلى 48.51٪، يجب أن يُسمع ويُؤخذ في الاعتبار، خاصةً مع النتيجة التاريخية لليمين المتطرف التي لا يمكن تجاهلها والاضطراب البرلماني الحالي.

ولكن، من الواضح أنه قام بحل الجمعية الوطنية لأسباب أخرى يظنها، من جهته، تخدم مصالحه. وأتت خطاباته إثر قراره المفاجئ بتعارضات مع الأهداف المعلنة في المقام الأول. وعليه، يظهر هذا التعارض مع تصوراته المعلنة للسياسة الداخلية الفرنسية في الفترة المقبلة التي ترفض الاستسلام لليمين المتطرف ليس فقط في فرنسا بل في القارة بأكملها، في سياق يتصاعد فيه هذا التوجه السياسي على الساحة الأوروبية بشكل كبير ومتسارع.

وعليه، من الممكن أن يكون غرض الرئيس الفرنسي من حل الجمعية الوطنية هو رغبته في وضع ناخبي حزب الجبهة الوطنية أمام مسؤولية اختيارهم، وهو بأن يعهدوا إلى قادة هذا الحزب بمفاتيح البلاد في حالة الفوز. ومن هذا المنطلق، يتضح نوع من الغضب الدفين الذي تملك الرئيس الفرنسي، لاسيما مع الفرق الشاسع بين الحزبين مقارنة بالانتخابات الأوروبية السابقة حيث حصل فيها تحالف حزب النهضة بنسبة 22.4٪ من الأصوات مقابل 23.3٪ لحزب التجمع الوطني، مع حصول كليهما على العدد ذاته من المقاعد.

ومع تقدم اليمين المتطرف في انتخابات 2019 إلا أن ماكرون لم يقدم على اتخاذ مثل هذه الخطوة إلا عقب هذه الانتخابات مع حصول حزب التجمع الوطني على ضعف الأصوات التي حصل عليها حزبه. وفي هذه الحالة، ربما تكون استراتيجية ماكرون تسير في اتجاه المساهمة في صعود الحزب ذي الخلفية الفاشية لإثبات، في نهاية المطاف، عدم قدرة اليمين المتطرف على الحكم.

ولكن على العكس من ذلك، يتضح من خطابه أنه يسعى للحصول على أغلبية واضحة في البرلمان الفرنسي ضد اليمين المتطرف، وهو ما يظهر في إعرابه عن ثقته في ديمقراطية دولته وفي السماح للشعب صاحب السيادة بأن يقول كلمته. ويبدو أن أمله في إعادة تعبئة معسكره من خلال تصويت مختلف عن التصويت في الانتخابات الأوروبية يأتي، بالنسبة له، في المقام الأول من الأهمية.

ومن المرجح أن ماكرون يظن أنه بهذه البادرة يستطيع أن يعيد حشد الشعب الفرنسي في صفوفه ويضمن لحزبه أغلبية واضحة في البرلمان، وهو ما حرم منه إثر الانتخابات التشريعية السابقة. وربما يظن ماكرون أنه من الممكن أن يأتي حزب التجمع الوطني أولاً ولكن دون أغلبية مطلقة، وهو ما سيزيد الوضع تعقيدًا حيث يتعين على الحزبين، إن كان حزب التجمع الوطني أو حزب النهضة، إما أن يتمكنا من بناء ائتلاف مع مجموعات أخرى من النواب، أو يتحدوا مع الأحزاب الأخرى ضد الحزب الآخر. وفي هذه الحالة ربما يراهن ماكرون على قدرة حزبه في تشكيل ائتلاف من شأنه أن يهزم التجمع الوطني ويجد رئيس وزراء متوافقًا عليه، كما يراهن على إمكانية فرض نفسه مرة أخرى في قلب اللعبة السياسية.

قرار محفوف بالمخاطر … دلالات حل الجمعية الوطنية

على عكس توقعات ماكرون، قوبل قرار حل الجمعية الوطنية بعدد من المظاهرات والتجمعات السلمية في بعض المدن الفرنسية حيث دعت العديد من المنظمات الشبابية والحركات التي يتزعمها فرانسوا روفين إلى أول مظاهرة ضد اليمين المتطرف في أميان، كما خرجت مسيرات في العاصمة مكونة من عدة مئات من الناشطين اليساريين يطالبون باتحاد اليسار. ولكن هل من الممكن أن يخرج الرئيس الفرنسي بالفعل بالنتائج التي يراهن عليها بعد حل الجمعية الوطنية؟

في الواقع، بينما يظن ماكرون أنه، في حالة تقدم حزب التجمع الوطني على مستوى الجمعية الوطنية، قد يستطيع أن يبرز مساوئ اليمين المتطرف للشعب الفرنسي الذي يظنه غافلًا عنها، قد تساهم هذه النتائج، وعلى العكس من ذلك، في زيادة شعبية حزب مارين لوبن، لاسيما مع استياء عدد ملحوظ من الفرنسيين، يصل إلى 68٪، من سياسات الهجرة القائمة ويربطون بينها وبين انعدام الأمن في الدولة.

ومثل هذا التصرف من شأنه أن يجبره على الرئاسة في وضع محفوف بالمخاطر لتقاسم السلطة يسمى “التعايش” سيكون فيه رئيس الوزراء من المعارضة، وهو ما قد يضع حزب ماكرون ومنصبه كرئيس للدولة على المحك بل ويأتي بنتائج عكسية تزيد من فرص وصول لوبن إلى السلطة في نهاية المطاف. ومن جهة أخرى، ربما يريد أن يكون هناك تعايش بالفعل مع التجمع الوطني، حتى يتمكن بعد ذلك من إثبات أن هذه السياسة ليست بالضرورة الأفضل كما يظن الشعب الذي أقبل على انتخاب هذا الحزب بشكل كبير.

ليس من المتوقع أن يكون للرئيس الفرنسي نصيبه من الانتصار الذي يظن نفسه قادرًا على تحقيقه نظرًا لشعبيته المتقلصة في أنحاء فرنسا والتي من المؤكد أنه غفل عنها أو لم يحتسبها عند اتخاذه هذا القرار المفاجئ والذي يجمع الكثير على كونه قرارًا غير محسوب. ولكن، أجبره الشعب مرة أخرى، بعد صدمة نتائج الجبهة الوطنية، على العودة إلى حقيقة رفض الفرنسيين لرئاسته حيث تم رصد 57% من الفرنسيين يريدون استقالة ماكرون حال خسارته الانتخابات التشريعية ويرتفع هذا الرقم إلى 78% بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا.

وضمن هذه الأصوات، نجد أن 63% من أنصار “فرنسا الأبية”، و83% من أنصار حزب التجمع الوطني، يريدون استقالة ماكرون، وبالتالي فإن هؤلاء هم الناخبون الأكثر احتمالاً للتصويت ضد المعسكر الرئاسي. وعلى الرغم من الاختلاف الأيديولوجي الكبير بين الحزبين الذي يصنف أحدهما يمينيًا متطرفًا بينما يصنف الآخر يساريًا متطرفًا، يأتي إجماع أنصارهم كتأكيد على عدم شعبية ماكرون سواء كان من أنصار اليمين أو اليسار. وطالت هذه الحالة من الرفض أنصار حزبه بنسبة 30% والذين يعتقدون بالتالي أن إيمانويل ماكرون لا يمكنه الاستمرار في رئاسة البلاد في حالة التعايش.

وعلى أساس هذا الإجماع بالرفض، يمكننا أن نرى أنه على الأرجح يكون حصول حزب التجمع الوطني على هذا العدد من الأصوات ليس بالضرورة لاقتناع الشعب بسياساته، بل كنوع من التصويت العقابي لماكرون وحزبه، لاسيما وأن الشعب الفرنسي لم يسمح لليمين المتطرف بالوصول إلى الرئاسة على مدار الجمهورية الخامسة. وعليه، من المتضح أن النسبة الأكبر من الاحتمالات تسير في اتجاه أن ماكرون أخطأ في حساباته عند التصرف على هذا النحو. وعليه، فكان بإمكانه أن يتفاعل بشكل مختلف، وكان بوسعه أن يستمر في تفسير النصر الساحق الذي حققه اليمين المتطرف باعتباره انحرافًا أوروبيًا يمكن تصحيحه في انتخابات أكبر. وهذا وأن دورة الألعاب الأوليمبية في باريس تأتي على طبق من ذهب للرئيس الفرنسي والتي قد تسنح له الفرصة لاستغلالها لإبعاد الناس عن السياسة لبضعة أشهر. ولكن من الواضح أن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي كانت بمثابة ضربة قوية له، هو الذي كان يدعو إلى بذل جهود على مستوى أوروبا للدفاع عن أوكرانيا وحاجة الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز دفاعاته وصناعته، والتي لم يستطع في أعقابها أن يقف صامتًا.

وعلى هذا الأساس، يظهر المشهد بشكل أكثر وضوحًا بعد تصريحات الرئيس الفرنسي التي توحي بأن حل الجمعية الوطنية، بالنسبة لماكرون، لم يكن نابعًا حقًا من الرغبة في إعطاء الشعب الديمقراطية التي تتمتع بها فرنسا، وهو ما تمت الإشارة إليه في رده على مطالب الشعب باستقالته في حالة خسارته الانتخابات التشريعية القادمة في فرنسا بأن هذا الأمر “سخيف”، مكررًا أنه لن يستقيل في حال الهزيمة في حين أن معسكره في وضع حساس للغاية قبل الانتخابات التشريعية المبكرة.

ويأتي تبريره بأنه حصل مرتين على أصوات الأغلبية الفرنسية في الانتخابات الرئاسية التي كان آخرها في أبريل ٢٠٢٢، وهو سبب لا يبرر حله للجمعية الوطنية التي تم انتخابها من الشعب بالمثل في يونيو ٢٠٢٢ أي نسبيًا بعد الانتخابات الرئاسية التي يستند إليها في تبرير رفضه للاستقالة. وعليه، ربما اتخذ ماكرون قرارًا لم يكن محسوبًا بشكل كافٍ لاسيما وأنه أتى في مناخ مفعم بالغضب الشعبي الذي لا يزال مشتعلاً، وهو ما قد يكون أكبر مساهم في مساعي الشعب الفرنسي لدفع التجمع الوطني للفوز بأغلبية شعبية في هذه الانتخابات على حساب الكتلة الرئاسية. وفي هذه الحالة، فإن فاز بارديلا، من المتوقع أن تكون هناك موجة صدمة من شأنها أن يكون لها تداعيات لا يمكن التنبؤ بها، لاسيما في إطار حملتهم المتطرفة ليس فقط إزاء الهجرة ولكن أيضًا المعادية للفكرة الأوروبية بشكل عام.

مدة ضيقة وتقييدية … سيناريو الانتخابات الحالي

في هذه الحالة من عدم الاستقرار السياسي في فرنسا، يقوم ماكرون بتحديد انعقاد الانتخابات التشريعية القادمة في نهاية شهر يونيو الجاري، مختارًا أقصر مهلة تنص عليها المادة ١٢ من الدستور الفرنسي، ما يفرض على الأحزاب السياسية التي تنوي الترشح أن تقوم بتقديم ترشيحاتها يوم الأحد ١٦ يونيو، وهو ما يتركها مقيدة بضيق الوقت بحيث يتوجب عليها أن تضع استراتيجيتها للانتخابات واختيارها للاستمرار إما بشكل مستقل أو في إطار تحالفات مع أحزاب أخرى محتملة. وهو ما يمكن أن يكون جزءًا من استراتيجية ماكرون لتقليل فرص التوافق بشكل متسق قد يؤدي إلى الإطاحة بماكرون أو بحزبه، وهو ما يتفق مع الأقاويل التي تدعي أنه كان على علم مسبق بالنتائج واتخذ هذا القرار مسبقًا، محتفظًا بالقدر الأكبر من الوقت لترتيب أوراقه والاستعداد لهذه الانتخابات بالشكل الذي يراه متماشيًا مع أهدافه السياسية، وهو ما من شأنه أن يضع مصداقيته على المحك، تاركًا له أقلية صغيرة مقابل تصويت ساحق لحزب مارين لوبان.

ولكن على مستوى الأحزاب الأخرى، هناك حالة من الارتباك والتردد، ويبدو المستقبل السياسي في فرنسا غامضًا، مع وجود خطوط صدع ليس فقط بين الأحزاب التقليدية واليمين المتطرف، بل وأيضًا داخل الأسر السياسية التاريخية. وعلى هذا الأساس، نجد أنه من جهة اليساريين، قرروا تشكيل تحالف قبل الانتخابات التشريعية المبكرة وهو ما جاء في إعلان الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب الخضر وحزب فرنسا الأبية عن إنشاء “جبهة شعبية جديدة”، وهو اسم لا يدين للصدفة بشيء وغارق في التاريخ، يسعى للحصول على أغلبية في الجمعية الوطنية.

ومن جهة أخرى، نجد اليمين المرتبك الذي على رأسه حزبا الجمهوريين والتجمع الوطني اللذان كانا يحاولان الوصول إلى اتفاق مشترك فيما بينهما للتحالف ومواجهة الجهة المقابلة بقوة. في البداية، وجدنا حزب الجمهوريين يرفض التحالف مع التجمع الوطني مفضلًا التقدم في ساحة الانتخابات بشكل مستقل. ولكن، قُلبت الموازين بعد قيام رئيس حزب الجمهوريين إريك سيوتي بالتحالف سرًا مع اليمين المتطرف دون إخبار حزبه، وهو ما أثار ضجة كبيرة، وعند مفاجأته لحزبه بقراره، أدى إلى تصويت الجمهوريين بالإجماع على طرده من الحزب، وهو ما رفضه إريك مستندًا إلى أن هذا القرار يتعارض مع قواعد الحزب.

وقد أثار تصرف سيوتي سخطًا بين الأحزاب السياسية الأخرى حتى أن الرئيس الفرنسي قام بالتعليق على القضية مشيرًا إلى أنه سيتعين عليه توضيح قراره بعد “التحالف مع الشيطان”، وذلك بينما أثنت لوبن على شجاعة القرار. هذا وتم طرد ماريون ماريشال من حزب “الاستعادة!” التي دعت للتصويت لمرشحي التحالف بين التجمع الوطني وإريك سيوتي، ما أثار غضب إريك زمور، رئيس الحزب، الذي يرغب في تقديم مرشحين لحزبه ضد التجمع الوطني. ومثل هذا الانقسام في اليمين من شأنه أن يخدم الكتلة الرئاسية واليسار إن استمر أو تطور.

ومن شأن هذه الانقسامات أن تدفع بماكرون وأنصاره للحصول على ثقل نسبي في الانتخابات المقبلة، لا سيما مع تصارع رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب، رئيس حزب “آفاق” الفرنسي الذي يصنف ضمن الكتلة الرئاسية، بالتواصل مع الجمهوريين المعارضين للتحالف، رغبةً في بناء “أغلبية جديدة”. وعليه، قام عمدة لوهافر بدعوة جميع “المتوافقين مع ماكرون” إلى الانفتاح على الحوار، و”التواصل” خاصةً مع أعضاء الجمهوريين المعارضين للتحالف مع التجمع الوطني الذي دعا إليه إريك سيوتي، وهي مبادرة وصفها الجمهوريون السابقون بأنها “مروعة” و”غير طبيعية”.

ختامًا، يعد القرار الذي اتخذه الرئيس الفرنسي قرارًا مندفعًا ربما لم يأخذ في الاعتبار كل الجوانب، وعلى رأسها استياء الشعب الفرنسي من ماكرون وإمكانية التطرق إلى آلية التصويت العقابي مرة أخرى في الانتخابات البرلمانية القادمة. ويمثل خطر صعود اليمين المتطرف في فرنسا، ما قد يعيد الفرصة لمارين لوبن في الترشح للرئاسة، خطرًا قد يقلب الموازين في الدولة بشكل كبير، ولا سيما أنه يكمن في صعود اليمين المتطرف مستقبلًا غامضًا ومقلقًا لفرنسا. ولكن، قد يكون الوضع أمام الرئيس الفرنسي ليس بهذا السوء في حالة عدم اتفاق اليمينيين، وهم الفريق الذي يشكل الخطر الأكبر أمام ماكرون. ولا تزال الانقسامات التي كانت في الجمعية الوطنية قبل حلها قائمة وتشكل جزءًا محوريًا في الحملات الانتخابية لمختلف الأحزاب، ما يتماشى مع الانقسامات الشعبية في وجود أعداد ليست بقليلة من العرب واليهود في فرنسا.

ولكن، هل يمكن تبرير تصرف ماكرون الذي أجمع الكثير على رفضه؟ في الواقع، إن صعود اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية لا يعني بالضرورة أن صعود التجمع الوطني في فرنسا موجهًا ضد ماكرون والكتلة الرئاسية بالتحديد، ما لا يبرر تصرفه خاصةً مع رفضه للاستقالة في حالة خسر في الانتخابات البرلمانية لكونه منتخب من الشعب، وهو الوضع نفسه بالنسبة للجمعية الوطنية التي اتخذ قرار حلها لغرض ديمقراطي.

ومن جهة أخرى، نجد أن تصرفه من الممكن أن يكون معقولاً مقارنة ببعض الدول الأوروبية الأخرى التي شهدت صعود اليمين فيها مثل بلجيكا حيث استقال رئيس الوزراء بعد هزيمة حزبه الساحقة لليمين في الانتخابات. ولكن، في النهاية، ربما يكون لقرار ماكرون إما مكاسب كبيرة أو خسائر أكبر، وهو ما لا يمكن التنبؤ به بشكل واضح كليًا، وذلك نظرًا للتناقضات الكثيرة على الطاولة، فمن ناحية نجد دعم الشعب لليمينيين ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يؤهلهم للوصول إلى الرئاسة وعزل الوسطيين، ومن ناحية أخرى، نجد الغضب من ماكرون ومحاولة الخسف من سلطته، ولكن ليست بالقدر الكافي لعزله.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/81857/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M