تتصاعد الأزمة السياسية الخانقة في باكستان، حتى مع وجود حديث حول إجراء انتخابات مجلس النواب بحلول أكتوبر القادم عقب انتهاء الدورة البرلمانية الحالية خلال أغسطس الجاري. ويضاف إلى حالة الاستقطاب السياسي في إسلام آباد أزمة اقتصادية عاصفة، تعقد الآمال على التحلل منها عقب التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
ويكمن جوهر الخلاف السياسي في باكستان بين الحكومة الحالية التي وصلت إلى السلطة في أبريل عام 2022، بعد أن نجح اقتراح بسحب الثقة بالإطاحة بعمران خان رئيس الوزراء وقائد حزب حركة الإنصاف، الذي ترى الحكومة الحالية أن المحكمة الإدارية العليا في باكستان تنحاز لصالحه، ولذلك أصرت على إجراء انتخابات مبكرة في مايو، وهو الحكم الذي تخاذلت الحكومة عن تنفيذه برئاسة شهباز شريف الذي اضطر في نهاية المطاف للتفاوض مع المعارضة، ولكن مرة أخرى لم يكن شريف ليفكر في الجلوس لولا حكم المحكمة العليا، الذي أقر أكثر من مرة بإجراء الانتخابات في إقليمين داخل باكستان قبل 14 مايو الماضي.
وبعد سحب الثقة منه، أوعز خان لكل نواب حزبه للاستقالة من برلماني البنجاب وخيبربختونخوا، واللذين كان لـ “حركة الإنصاف” الأكثرية فيهما، ودستوريًا، لا بد من إجراء انتخابات تشريعية خلال 90 يومًا من تاريخ حل البرلمان، سواء الإقليمي والمركزي، لكن حكومة شهباز شريف ترفض ذلك خشية استغلال خان الوضع الحالي والفوز في الانتخابات مرة أخرى، وهو ما يتوقعه مراقبون. المحصلة النهائية أن باكستان تعاني من خلاف بين الحكومة والمعارضة من جهة، وبين الحكومة والقضاء من جهة أخرى، والسبب واحد وهو الذهاب لإجراء الانتخابات.
وتدفع الحكومة في طرحها بأنها تنتظر حتى استكمال فترتها القانونية، وهي تعمل على تقديم الميزانية إلى البرلمان حتى ذلك الحين، في المقابل، يؤكد حزب خان أنه من الضروري تطبيق أمر المحكمة العليا وكذا العمل وفق الدستور.
ومما يسترعي الانتباه، أنه رغم الإطاحة بعمران خان إلا أن الحكومة الحالية برئاسة شهباز شريف، تتعرض لحالة من تراجع الشعبية، نتيجة الشروط المالية القاسية التي تم فرضها على المجتمع تحقيقًا لاشتراطات صندوق النقد الدولي، وهي الإصلاحات التي وصفتها الحكومة بالضرورية، ومن هنا تنطلق فرضية أن التحالف الحاكم الحالي حتى لو نجح في الانتخابات القادمة، فإنه سيظل يعاني من غياب الشعبية على الرغم من إيجابية الخبر المتعلق بنجاح الحكومة الحالية للتوصل إلى اتفاق جديد مع صندوق، النقد إلا أن هذا يعني المزيد من الضغوط الاجتماعية.
ولكن على أية حال، لا يبنى على تراجع شعبية الحكومة طريق ممهد أمام عمران خان للعودة إلى الحكم، ليس فقط على خلفية الأحكام القضائية التي تلاحقه والتي قد تحول بينه وبين الترشح في الانتخابات القادمة، ولكن بسبب الظروف السياسية المعقدة التي تحيط به، فرئيس الوزراء الذي وصل إلى السلطة في عام 2018 على سواعد الجيش الباكستاني، ما لبث أن أصبح على خلافات به بسبب ضغوطات الحركة الديمقراطية التي تنتمي إليها حركة الإنصاف التي يتزعمها، وكذلك محاولات خان لتحديد ميزانية الجيش، ليس ذلك فحسب، بل تمت إقالة قيادات كبرى داخل الجيش على خلفية الفشل في التعامل مع المظاهرات التي خرجت لتأييده عقب اعتقاله في مايو الماضي، مما جعله محل خلاف أيضًا داخل الحركة الديمقراطية التي ينتمي إليها، ومن ثم فقد انتزعت عنه ثقة المؤسسة العسكرية وثقة الحركة الديمقراطية في آن واحد.
وفي هذه الأثناء، لا يبدو أن الغرب يبدي الكثير من الاهتمام بما يدور في باكستان بالارتكاز على عدد من النقاط المحورية، ربما يعد أبرزها أن هناك حكومة ائتلافية “مدنية” بالفعل في باكستان تدير البلاد، وتتعامل مع الوضع الاقتصادي الخانق عن طريق التفاوض مع صندوق النقد، بالإضافة إلى أنها تجيد تدبير علاقاتها الخارجية ببعض من المهارة إذا جاز التعبير. ومن ناحية أخرى، فإن هناك الكثير من الحذر من التدخل في الشؤون الداخلية لبلد قوام سكانه حوالي 230 مليون نسمة، علاوة على كونه يمتلك قوة نووية وتحيط به الكثير من التوترات والانقسامات السياسية والعسكرية والمذهبية. فضلًا عن عدم وجود رغبة غربية في الوقوف ومشاهدة إسلام آباد وهي تدور في المدار الصيني، وتبقى إسلام آباد رغم الخلافات مع الصين والغرب حريصة على علاقات جيدة وبراجماتية مع القطبين. ويستند هذا الرأي في تفنيد الحياد الغربي من الداخل الباكستاني، في أن الغرب لا يرى في الهند الحليف الأبدي الذي يمكن الاعتماد عليه، خصوصًا أن نيودلهي في الفترة التي لحقت بالحرب الأوكرانية أظهرت ولاءاتها بشدة لمدرسة “الانحيازات المتعددة” المبنية على المصلحة الوطنية فقط.
هذا عن باكستان، أما عن الصين فهي الأخرى ليست شديدة التركيز على الأوضاع الداخلية في باكستان، وهي التي تنتمي لنفس مدرسة الانحيازات المتعددة الهندية، وإن كانت بكين تستثني موسكو من انحيازاتها المتعددة، وعمومًا فهي تصب تركيزها على الأوضاع في باكستان، لرغبتها الشديدة في تأمين إمداداتها من مادة الليثيوم التي تمتلك كابول مخزونًا ضخمًا منها، وهي المادة التي تعتبر أساسية في الكثير من الصناعات التي تعتمد عليها الصين في اقتصادها.
ويمكن حصر الخيارات في رئيس الوزراء القادم، بين بيلاول بوتو زرداري نجل بناظير بوتو التي غادرت منصبها عقب حادث اغتيال، وهو المرشح الذي يفضله الجيش، إلا أنه يتسم بقلة الخبرة نظرًا لصغر سنه على الرغم من توليه حقيبة الخارجية الباكستانية. أما بالنسبة للمرشح الآخر، فهي مريم نواز ابنة رئيس الوزراء السابق نواز شريف البالغة من العمر خمسين عامًا، ووسط كل ذلك يبقى عمران الأكثر شعبية ولكنه الأقل حظًا.
كما تنشأ مخاوف أخرى من عدم نزاهة الانتخابات، خصوصًا بعد اقتراح حزب رابطة المسلمين الباكستانيين في نهاية الأسبوع، تعيين وزير المالية إسحاق دار رئيس مؤقت للوزراء ليشرف على الانتخابات، وقد أثار هذا الاقتراح إدانات ومخاوف بشأن حياد الإشراف، حيث إن دار ليس فقط وزيرًا في الحكومة الحالية، ولكنه أيضًا زعيم رئيسي في رابطة نواز شريف وأحد أقربائه.
وفي هذه الأثناء، هز هجوم عنيف باكستان ويخلف ما يزيد عن الخمسين ضحية، وذلك خلال تجمع سياسي لحزب إسلامي في شمال غربي باكستان، ودرات التكهنات حول مسؤولية تنظيم الدولة الإسلامية عن الهجوم الانتحاري، حيث يتهم الحزب الإسلامي بأنه يوالي الحكومة والجيش لتحقيق مكاسب، ويمكن الإشارة إلى أن هناك تزامنًا بين حالة النشاط التي صاحبت أعمال تنظيم داعش في باكستان، وبين سقوط كابول عاصمة أفغانستان في قبضة حركة طالبان، والخطورة تكمن أنه مع استمرار هذه الهجمات تصبح الأوضاع الأمنية غير مواتية لإجراء الانتخابات.
وحسبما تقدم، تدور فلك التوقعات في نتائج الانتخابات القادمة، بين احتفاظ الائتلاف الحاكم الحالي بموقعه في رئاسة الحكومة بدعم يفوق كراسيه في البرلمان، مما يضفي المزيد من الهشاشة على الوضع السياسي وبين نجاح عمران خان في الترشح للانتخابات، وإذا نجح بالفعل في الترشح وتمكن من حصد كرسي الوزارة على خلفية شعبيته، فإنه لن يسعى على الفور للحصول على حزمة جديدة من صندوق النقد الدولي، في حين أن استئناف الحزمة المتوقفة سيكون صعبًا بسبب ولعه بالسياسات المالية الشعبوية، متسببًا في التخلف عن سداد الديون السيادية لباكستان.
.
رابط المصدر: