تتمم انتخابات السابع عشر من شهر ديسمبر، التي يتزامن إجراؤها مع ذكرى جديدة لاندلاع الثورة التونسية، خطوة أخيرة في مسار “خارطة الطريق” التي دشنها الرئيس التونسي قيس سعيد، للخروج مما وصفه بـ “مرحلة الاستثناء”. وهي استجابة لاحتجاجات عمت مختلف أنحاء البلاد، طالبت حينها بإغلاق البرلمان، ومحاسبة الطبقة السياسية التي حكمت تونس، في إشارة واضحة إلى قيادات حركة النهضة (فرع إخوان تونس)، وفترة حكمهم التي عدّها الشعب التونسي بمثابة “عشرية سوداء”. نحو ذلك، انطلقت الحملة الانتخابية في تونس، حيث اختفت أجواء السباق الانتخابي في المدن والأحياء، بينما غابت اللافتات والشعارات الانتخابية وصور المرشحين.
يأتي الاستحقاق الانتخابي في ظل استقطاب سياسي حاد بين مؤيدي ومعارضي الرئيس التونسي؛ إذ انخرط العديد من الشخصيات والأحزاب السياسية كحركة الشعب، والتيار الشعبي، وحراك ٢٥ تموز، وحركة تونس إلى الأمام، إلى جانب المستقلين في مبادرة أُطلق عليها “لينتصر الشعب”. وذلك تعبير واضح عن تأييد مسارات الرئيس قيس سعيد، وقناعة كون البرلمان القادم ركيزة لاستكمال مؤسسات هيكل الدولة ونظامه السياسي.
من جهته، أعلن العضو المؤسس في مبادرة “لينتصر الشعب”، منجي الرحوي، أن هناك حوالي أربعمائة مترشح، ممن قُبلت ملفاتهم بصفة نهائية للانتخابات التشريعية، تقدموا للانخراط في المبادرة. وقال إن هذه المجموعة تمثل انصهارًا شعبيًا لمكونات تعمل على أن يفي مسار 25 يوليو بأهدافه رغم المجهودات التي بذلها البعض لتعطيله بتدخل عدة سفارات.
وأضاف الرحوي: “خلافًا لما يتم الترويج له، فإن ما قبل 25 يوليو لم يكن هناك احترام للحقوق والحريات، ولا وجود لمؤشرات ديمقراطية، بل كانت هناك تدخلات في السيادة الوطنية، وقد عمقت مفهوم الاستبداد ونهب ثروات البلاد”.
مثلما كانت كتلة الأحزاب المناهضة لمسار ٢٥ يوليو والرئيس سعيد غير متجانسة، فلا تبدو أيضًا الكتلة الحزبية المؤيدة للرئيس سعيد متجانسة من حيث البنية التأسيسية، وكذا الأثر والإدراك السياسي للأوضاع استنادًا إلى قدم التجربة الحزبية. الأمر الذي تستطيع أن تبصره مليًا مع تفحص الأحزاب المشاركة في مبادرة “لينتصر الشعب”، حيث يتألف من تجارب حزبية يسارية قومية مثل حركة الشعب والتيار الشعبي التي لها رصيد غير قليل وتجربة حزبية في برلمانات العقد الفائت وأخرى تمثل تجارب حزبية جديدة في الفضاء السياسي.
يتنافس في هذا الاستحقاق الانتخابي بحسب احصائيات رسمية أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ألف واثنان وخمسون مرشحًا، داخل مائة وواحد وخمسين دائرة انتخابية داخل البلاد، موزعة على أربع وعشرين ولاية، فضلًا عن ثلاثة مرشحين في الخارج، وكذا سبع دوائر بالخارج دون مرشحين.
في المقابل، يقاطع الاستحقاق الانتخابي اثنا عشر حزبًا هي كل من حركة النهضة الإسلامية، وقلب تونس، وائتلاف الكرامة، وحراك تونس الإرادة، والأمل، والجمهوري، وحزب العمال الشيوعي، والقطب، والتيار الديمقراطي، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والحزب الدستوري الحر، وآفاق تونس.
إلى ذلك، قضت المحكمة الابتدائية بتونس، الاثنين الماضي، برفض دعوى بخصوص القضية التي رفعها الحزب الدستوري الحر، من أجل إيقاف المسار الانتخابي وتجميد أموال هيئة الانتخابات، وكذا أصدرت حركة النهضة بيانًا أشارت فيه إلى أن الحركة ترى ما يسمى بالانتخابات التشريعية مظهرًا من مظاهر الأزمة وجزءًا منها، بينما لا يمكن أن تكون جزءًا من الحل.
رغم أن الحزب الدستوري الحر، وحركة النهضة، خصمان لدودان من ناحية بنية التأسيس والتوجهات ومسارات الحركة والأيديولوجيا، غير أنهما يشتركان في نسق مقاطعة الاستحقاق الانتخابي ومعارضة الرئيس سعيد على نحو متباين، وكذا يقع حزب العمال بقياده زعيمه التاريخي حمة الهمامي خصمًا حقيقيًا وواقعيًا لكل من النهضة والدستوري الحر.
هذا، وتطمع حركة النهضة وجميع قياداتها في استجابة الشارع التونسي لدعوتهم نحو التحرك لعرقلة إجراء الانتخابات وتعطيل مسار الرئيس التونسي قيس سعيد. بيد أن واقع الأمر وحقيقته يتمركز حول أن حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي لم ينجحا في إقناع التونسيين منذ انطلاق مسار 25 يوليو بتقييد تحرك الدولة نحو الأمام، واستكمال مؤسسات الدولة وهيكلها السياسي. عبير موسي رئيس الحزب الدستوري الحر التي تناهض الإسلام السياسي وتنظيماته في تونس تدعو كافة القوى السياسية إلى الوقوف ضد انخراط الإخوان “النهضة” فيما تطلق عليه كيان الدولة البورقيبية.
وثمة حقيقة لا مراء فيها أن كتلة الاحزاب السياسية التونسية فيما بعد برلمان 2023 لن تضحى كأي تجربة مضت، وستخلف سجلًا من تشظي عديد التجارب الحزبية؛ نظرًا إلى خصوصية الوضع الدستوري والسياسي، بينما ستذهب تجارب أخرى نحو الاستفادة من مسار 25 يوليو لتعظيم رصيدها التنظيمي والميداني.
هذا وقد حدد جدول أعمال الانتخابات موعد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات التشريعية خلال الفترة ما بين الثامن عشر والعشرين من شهر ديسمبر القادم، والنتائج النهائية يوم التاسع عشر من شهر يناير 2023، أي بعد الانتهاء من النظر في الطعون والبت فيها.
وقد جاء المرسوم “55” المنظم للاستحقاق الانتخابي، والذي صدر في منتصف شهر سبتمبر الماضي، متناغمًا إلى حد كبير مع مرتكزين رئيسين: يتمثل الأول في أن تبدو المنظومة الحزبية خارج هيكل التشريع الانتخابي استنادًا إلى كون القانون الانتخابي يستند إلى اختيار الناخبين مرشحيهم على أساس فردي بدلًا من القائمة الحزبية. بينما يتجه الهدف الثاني نحو الإحلال التدريجي لمشروع البناء القاعدي من خلال الاقتراع على الأفراد وشرط التزكيات للترشح كشرط إجباري للترشح. وسيظهر أعضاء البرلمان الجديد الذي سيتألف من مائة وواحد وستين نائبًا، عبر جملة من الصلاحيات التي حددها الدستور الجديد الذي أقر في استفتاء خلال شهر يوليو الماضي.
يندرج عمق الاختلاف في البرلمان المنتظر نحو رؤية الرئيس التونسي قيس سعيد التي تموضعت واضحة في نقد عميق لمواد الدستور السابق الذي كرس دورًا رئيسًا للبرلمان المنحل وحدد له المسؤولية الرئيسية عن تشكيل الحكومات، بينما وجه الرئيس سعيد في وضعية الدستور الجديد حيز القوة في صالحه عبر أن تكون الحكومة داخل كيان سلطة الرئيس مباشرة.
يعكس ذلك التوجه تعبيرًا واضحًا عن قناعة الرئيس قيس سعيد بما يقدم عليه من إجراءات وتحولات في شكل وهيكل النظام السياسي منذ لحظة انطلاق مسار 25 يوليو وحتى إتمام الاستحقاق الانتخابي مرورًا بصدور الدستور ومرسوم الانتخابات، ونستطيع أن نجد أثرًا لذلك كله في حديث الرئيس قيس سعيد، حين قال ردًا على انتقادات الأحزاب السياسية للمرسوم الانتخابي المنظم للانتخابات التشريعية إن القانون الجديد لا يقصي الأحزاب وأن هذه الاتهامات باطلة، وأكد على أنه “ممر بمرحلة جديدة في تاريخ تونس لسيادة الشعب بعد أن كانت الانتخابات صورية”.
.
رابط المصدر: