بينما جاءت نسب المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية بتونس، والتي جرت خلال الأيام الأخيرة من شهر يناير الماضي، مطابقة لما كانت في جولتها الأولى نهاية العام الماضي، وثب الرئيس التونسي قيس سعيد بإجرائه تعديلًا وزاريًا على حكومة السيدة نجلاء بودن شمل وزارتي التربية والفلاحة والموارد المائية، فعيّن السيد محمد علي البوغديري وزيرًا للتربية خلفًا لفتحي السلاوتي، وعبد المنعم بلعاتي وزيرًا للفلاحة والموارد المائية والصيد البحري خلفًا لمحمود إلياس حمزة.
يحمل تعيين وزير التربية الجديد محمد علي البوغديري، الأمين المساعد السابق للاتحاد التونسي للشغل الخصم الأكبر للأمين الحالي نور الدين الطبوبي، عديدًا من الدلالات التي ينبغي إدراكها في سياق خلاف بنيوي يضرب بجذوره العميقة فيما بين الرئيس سعيد والاتحاد التونسي للشغل، خاصة مع تلك التصريحات القوية التي أطلقها الرئيس خلال كلمة ألقاها مساء الثلاثاء الماضي إثر لقائه قيادات أمنية في ثكنة أمنية بالعاصمة تونس مؤكدًا أن “من يتولون قطع الطرق اليوم ويهددون بقطع الطريق السيارة لا يمكن أن يبقوا خارج دائرة المساءلة”.
ولمّح الرئيس التوني إلى أن الحق النقابي مضمون بالدستور، ولكن الحق الدستوري لا يمكن أن يتحول إلى مآرب سياسية لم تعد تخفى على أحد. وجاءت تلك التصريحات على خلفية إضراب نفذته نقابة الطرقات خلال اليومين الأخيرين من شهر يناير بغرض زيادة الأجور ومطالب أخرى. واليوم التالي لذلك الأول من شهر فبراير الجاري، أُلقي القبض على أنيس الكعبي الكاتب العام للنقابة الخصوصية للطرقات السيارة.
واعتبر الاتحاد العام للشغل في بيان أصدره مطلع الشهر الحالي أن ذلك يمثل “ضربًا للعمل النقابي وانتهاكًا للحقوق النقابية وخرقا للاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف الدولة التونسية ولما ورد في دستور الجمهورية التونسية من فصول تنص على احترام الحريات النقابية وحق الاضراب”. واعتبر أن خطاب الرئيس “تضمن تحريضًا ضد حرية العمل النقابي والحق في الاحتجاجات السلمية”، ودعا أنصاره إلى “التعبئة والاستعداد للدفاع عن الحق النقابي وحق الإضراب والحريات العامة والفردية بكل الأشكال النضالية المشروعة”.
رغم الخصومة العميقة بين الطبوبي-البوغديري ودلالتها الرمزية في اختيار الأخير وزيرًا للتربية في حكومة السيدة نجلاء بودن، فإن الأزمات التي تجابه وزارة التربية مع الإطارات النقابية بدت عائقًا في صيرورة عمل الوزارة، الأمر الذي بدأ فض عقدته مع اختيار عضو مكتب تنفيذي سابق في المنظمة التشغيلة يستطيع نسج لغة حوار مع المنظمات النقابية في وزارة التربية ودفع عجلة الأمور نحو الأمام.
نقطة أخرى في ذات السياق هي أن الملمح الرئيس في خلاف السيد الطبوبي الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل والبوغديري وزير التربية الجديد القيادي السابق في المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للشغل يأتي بمحاذاة مسار المدة المحددة للأمين العام بموجب لائحة الاتحاد ورفض الأخير التعديلات التي تسمح بتمديد مدة الرئاسة للأمين الحالي.
لم يخاصم الرئيس قيس سعيد قناعاته الذاتية وهو يقر بتدني نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات البرلمانية سواء عبر الجولة الأولى أو الثانية، لا سيما حينما طالب بتأويل مختلف للأرقام يتماهى مع مقولته “إن الشعب فقد ثقته في البرلمان”. بيد أن واقع الأمر يتمثل في كون الرئيس أول من أسقط القوى السياسية خارج حساباته، خاصة وهو يتابع أداءها وتفاعلها مع الأحداث خلال السنوات التي تلت العام 2011، بجانب أن الرئيس التونسي يحملها بشكل مباشر مآلات ما حدث.
نحو ذلك، يدرك الرئيس تمامًا ألّا سبيل للتوافق سيجمع شتات المعارضة التي تحتشد في الفضاء ضده ولا سياق محتملًا للاستجابة الشعبية نحو قوى المعارضة على اختلاف تياراتها وتوجهاتها الأيديولوجية والسياسية. ثمة يقين بأنه لا ديمقراطية حقيقية إن لم يعرف معها الشعب ذائقة التنمية ويتلمس عوائدها، ولذلك تمثل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية كأولوية قصوى لدى المواطن في تونس وتزيح معها كافة أزمات الواقع السياسي وأهداف كل فصيل منها مهما بدت دلالتها وأهميتها.
يرجو الرئيس أن يتم محطات خارطة الطريق التي أقرها مع قرارت الخامس والعشرين من شهر يوليو في العام 2021، في أعقاب إطاحته البرلمان والحكومة اللذين كانت تقبض عليهما حركة النهضة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في تونس، وأن يطوي الأيام سريعًا لتدشين البرلمان جلساته بتمثيله الجديد خلال مطلع شهر مارس القادم، خاصة أن النسيج المرتقب للنواب جاء متوافقًا مع حلم سعيد في برلمان يختلف بالكلية مع البرلمانات التي تشكلت فيما بعد العام 2011، حيث أسفرت عمليات الفرز الأولية عن تمثيل أكثر من نصف البرلمانيين بنحو ثلاثة وسبعين مقعدًا من الفئات العمرية الشابة الأقل من خمسة وأربعين عامًا، وأكثر من 16% منها نساء، في حين لم يحز فيها المترشحون عن الاحزاب السياسية سوى على 8.44% من المقاعد وذلك وفقا لما نشرته مواقع صحفية تونسية.
من جهة أخرى، يدرك الرئيس أن المعارضة الحقيقية التي تجابهه تكمن في الاتحاد التونسي للشغل، وأن المنظمة التشغيلية بصدد الانتهاء من مقاربة سياسية تطرح مقترح تعجيل الانتخابات الرئاسية. ولذلك كان حديثه كاشفًا لرأيه في تلك التحركات حين قال إن “الحق النقابي أمر مضمون بالدستور، ولكن الحق النقابي لا يمكن أن يتحول لغطاء لمآرب سياسية لم تعد تخفى على أحد”.
تدافع ديناميكيات التصاعد بين الاتحاد والرئيس بدت واضحة خلال الأيام الفائتة من خلال هجمة الرئيس بتوقيف مسؤول نقابي، في رسالة واضحة للاتحاد التونسي للشغل بضرورة التحرك خطوة ومقابلة الرئيس في مقاربة تنفيذية تسمح للطرفين بالمضي قدمًا في خطواتهما اللاحقة، وألا تضحى المواجهة فيما بينهما عاصفة وموجعة على ضمير الوطن.
.
رابط المصدر: