د. احمد عدنان الميالي
اعلنت النتائج النهائية للانتخابات النيابية المبكرة في العراق قبل ايام بعد ٥٠ يوم من اجراءها بسبب الطعون والاعتراضات والاحتجاجات التي رافقت اعلان النتائج الاولية من قبل بعض الكتل السياسية التي تراجع عدد مقاعدها. ورغم تراجع نسبة المشاركين في الانتخابات لأدنى مستوى في تاريخ البلاد منذ عام ٢٠٠٣ بسبب خيبة امل الكثير من العراقيين من النظام السياسي الذي يرسخ هيمنة النخبة السياسية على حسابهم، كانت نسبة ٣٦٪ متوقعة ان لم تكن اقل، مما يعكس مسارا لعدد أقل من العراقيين الذين يصوتون في كل انتخابات.
هذا التدني في نسبة المشاركة لم تركز عليه لا الاحزاب الفائزة ولا المتراجعة، بل تمحورت الاعتراضات حول مسألتين: النجاح الساحق للكتلة الصدرية، الذي زاد عدد مقاعدها من 54 في 2018 إلى 73 الآن، في حين تراجع تحالف الفتح من 48 إلى ١٧ فقط، وكذلك تراجع تيار الحكمة والنصر المسمى تحالف قوى الدولة من اكثر من ٤٠ مقعد الى ٤ مقاعد.
تشير هذه النتائج إلى أن شعبية التيار الصدري زادت بينما تراجع دعم الفتح، لكن إجمالي الأصوات يكشف قصة مختلفة. وبينما تفوق الصدريون على منافسيهم في عدد المقاعد، حصل الجانبان على عدد مماثل من الأصوات في الواقع، وفقًا للغة الارقام، فقد حصل تحالف الفتح وحلفاؤه على أصوات أكثر من الصدريين، لكنه حصل على مقاعد أقل، يسلط هذا التناقض الضوء على جانب رئيسي من قانون الانتخابات الجديد لعام 2019. كما يسلط الضوء على أن الصوت الواحد غير المتحول (القابل للتحويل) وهو نظام الفائز الأول الذي يتم إجراؤه داخل الدوائر الانتخابية متعددة المقاعد كان يهدف إلى خلق عملية انتخابية أكثر شفافية، عن طريق إزالة الحاجة إلى خوارزميات تخصيص المقاعد المعقدة وإقامة صلة أوثق بين الناخبين والمرشحين.
ومع ذلك، فإن هذه الانتخابات ابرزت جانبين مهمين:
الاول: وجود هدر في الأصوات.
الثاني: ضعف في فهم القانون الجديد مع عدم قيام بعض الأحزاب بمعايرة استراتيجياتها بعناية لتحقيق النجاح في صناديق الاقتراع.
اذ كشفت النتائج في الواقع مدى حنكة وتماسك الماكنة الانتخابية للكتلة الصدرية، وكيف خدمها القانون الجديد، اذ في ظل النظم الانتخابية القديمة للتمثيل النسبي للقائمة المفتوحة أو المغلقة، الذي كان يتيح إعادة توزيع الأصوات المدلى بها لمرشح على مرشحين آخرين من نفس الحزب والقائمة. لذلك إذا كانت هناك حاجة إلى 5000 صوت للفوز بمقعد وحصل (المرشح س) على 10000 صوت، فسيتم إعادة توزيع الفائض البالغ 5000 صوت لضمان انتخاب (المرشح ص).
في ظل النظام الانتخابي الجديد، ستبقى كل الأصوات العشرة آلاف مع (المرشح س)، مما يؤدي إلى إهدار عدد كبير من الأصوات -وهذا ما حدث لتحالف الفتح. كان الفشل في التقييم الدقيق للهيكل الذي يشكله التشريع الجديد يعني أنه بينما حصل الفتح على عدد أصوات يساوي تقريبا مثل الكتلة الصدرية او اكثر، لكن بالنتيجة فاز بمقاعد أقل بكثير. وهنا ضاعت اهمية الرمز السياسي انتخابيا فلم يترشح اغلبهم لدوائرهم الانتخابية.
فهم الصدريون النظام الجديد بفاعلية، حيث توقعوا بدقة مستويات الدعم داخل كل دائرة انتخابية، وقاموا بتسمية العدد الصحيح من المرشحين للترشح، ثم إقناع أنصارهم بتوزيع الأصوات بالتساوي بين المرشحين.
كان لديهم أيضا شبكات محترفة عبر الإنترنت وفي الشوارع، واستخدموا تطبيقات الهواتف المحمولة المستندة إلى الموقع مع تفاصيل عن كل منطقة، ومجموعات وسائل التواصل الاجتماعي لكل دائرة انتخابية، وموظفين متخصصين يركزون على الحصول على المقاعد بدلاً من مجرد عدد الأصوات.
بموجب قوانين الانتخابات السابقة، في المناطق التي اعتقدت الأحزاب أنها تتمتع بمستويات عالية من الدعم، كانت الستراتيجية الواضحة هي تقديم مرشحين متعددين وبالتالي الحصول على مقاعد متعددة. ولكن في ظل القانون الجديد، يمكن لهذه الستراتيجية أن تؤدي إلى فشل كارثي لأنه عندما يتنافس العديد من المرشحين من نفس التحالف على الأصوات في منطقة واحدة، فهناك خطر ألا يحصل أي منهم على أصوات كافية ليتم انتخابه، مما يؤدي إلى خسارة كلية لانتخابهم.
هذا ما حدث في احدى الدوائر حيث تقدم الصدريون بمرشح واحد فقط وفازوا بأكبر عدد من الأصوات. كما أدخل مرشحة واحدة فازت بمقعد الكوتا النسائية، غير أن أحزاب أخرى تقدمت بعدة مرشحين، لم يحصل أي منهم على أصوات كافية للفوز بمقعد.
تعمل الأحزاب التي تركز على مرشح واحد فقط في كل دائرة انتخابية على تقليل احتمالية إهدار الأصوات ولكن هذا يعني أيضا أنها قد تفشل في زيادة المقاعد إلى الحد الأقصى في المناطق التي تتمتع فيها بأقوى دعم. على سبيل المثال، شهدت الدائرة ١١ في بغداد حصول مرشحة دولة القانون عالية نصيف على أكثر من 20000 صوت، متغلبة على ثاني مرشح ناجح في المنطقة بأكثر من 8000 صوت، الأصوات التي كان من الممكن أن تضمن لدولة القانون مقعدًا ثانيًا في تلك الدائرة فيما لو استخدم ذلك بشكل استراتيجي. لذا، على الرغم من أنه قد يبدو أن الكتلة الصدرية والفتح يتمتعان بمستويات متقاربة من الشعبية، إلا أن النتائج في الواقع تكشف مدى تماسك الماكنة الانتخابية الصدرية والتحديات التي يطرحها النظام الانتخابي الجديد للتحالفات الاخرى.
مع ذلك ان تحاول الفتح كسب بعض الدعم الشعبي، إلا أنه لا يزال يحتفظ برأس مال قوي لان الذين امتنعوا عن التصويت عنه صوتوا في الغالب لائتلاف دولة القانون وهو بالنتيجة سيتحالف مع الفتح ومن المرجح أن يكون لهما تأثير أكبر في تشكيل الحكومة.
مع ذلك فإن نتائج الانتخابات ليست العامل الوحيد الذي يؤثر على عملية تشكيل الحكومة المقبلة، لأنه في حين أن الكتلة الصدرية فازت بأكبر عدد من المقاعد، لكن يجب عليها الآن التفاوض على تشكيل ائتلاف سياسي او تفاهم وتوافق مع قوى الاطار التنسيقي بكل الاحوال والعكس صحيح وهذا ماحصل قبل يومين. وهذا قد يبدد المؤاخذات المترتبة ضد الانتخابات من قبل قوى الاطار التنسيقي، من طعون التزوير والتلاعب.
عند التدقيق في هذه المزاعم الداعية لإلغاء الانتخابات او اعادة النظر في النتائج، ستجدها تجانب الواقع السياسي والتحولات الماثلة في عقلية المواطن العراقي ازاء بعض القوى السياسية التي لم تقدم شيء يذكر لجماهيرها، من جهة، وباعتبار هذا السياق وسيلة او ورقة ضغط للبقاء في مساحة السلطة والتأثير والنفوذ السياسي، لان الواقع اضافة الى تحولات القانون الانتخابي ومزاج الناخبين، وضعف التنظيم الحزبي انتخابيا، فان مخرجات النتائج وتناقضاتها تخالف مزاعم التزوير والتلاعب وربطها مع ارادات اقليمية وتدخل دولي او سفارات اجنبية او اختراق الكتروني او رشى للمفوضية وخضوعها للضغوطات، فلو كانت اتهامات قوى الاطار التنسيقي واقعية، لما فاز المالكي وصعدت مقاعده الى ٣٣ مقعد، لان المالكي يشكل تهديدا وتخوفا اكبر من كل المتهمين بالتزوير، والعكس يندرج على السيد حيدر العبادي والسيد عمار الحكيم فتحالفهما اقرب للصدر واقرب لولاية ثانية للكاظمي ويمتلكون علاقات ايجابية مع دول الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الاوربي، فليس من المعقول ان تنحاز الجهات المزورة اذا ما كانت امريكا او الامارات او الامم المتحدة او الكاظمي باعتباره رئيسا للحكومة ومشرفا على اجراء الانتخابات للمالكي على حساب الحكيم والعبادي!، كما ان خسارة عدنان الزرفي في النجف تشكل مثالا معقولا لواقعية نتائج الانتخابات فهذا الرجل كان الاول على النجف في اخر انتخابات ومحافظا للنجف ومكلفا سابقا لرئاسة الوزراء لكنه خسر في الدائرة الاولى في النجف في حين فاز مرشح المالكي في هذه الدائرة، لا لشيء سوى ان جمهور الزرفي يتموقع في الدائرة الثالثة لكنه كان يتوقع ان يكون الاول في اي دائرة تاركا شقيقه مرشحا لدائرته في الكوفة التي لم تنتخب شقيقه عماد الزرفي.
كذلك فان مستويات الطعن والتلاعب في نتائج الانتخابات تركزت في الوسط والجنوب في سياق تسويق استهداف تيار الشيعة المقاوم، ولم تمتد الطعونات الى مناطق غرب وشمال العراق، وهذا يبدد فرضية عدم نزاهة الانتخابات، لان النافذين والقوى التقليدية تراجعوا في بعض هذه المناطق وفازت كتل سياسية لها حظوظ وقبول معروف وواضح على سبيل المثال تحالف تقدم في المدن المحررة، وبقاء الحال على ماهو عليه في شمال العراق رغم ان القوى المهيمنة كحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بسبب انشاقاقاته واخفاقاته تراجع، مع صعود للقوى المعارضة كتحالف كردستان وحراك الجيل الجديد، هذا التناقض يؤشر ان التلاعب والتزوير لم يكن بالدرجة التي صورتها قوى الاطار التنسيقي.
في هذه الانتخابات قد تكون حصلت خروقات او مشكلات فنية في بعض المراكز والمحطات او تأثير على ارادة الناخب وشراء بطاقات انتخابية وهذا يحصل في كل انتخابات لكن هذا لا يعني ان كل الانتخابات مزورة وغير نزيهة ولا تعكس الواقع السياسي والتحول الاجتماعي في وعي المواطن العراقي.
ولعل اخر ما اريد التذكير فيه حول معطيات هذه النتائج هو احتجاجات تشرين ٢٠١٩ التي كانت سببا للانتخابات المبكرة فلم تتصور القوى التقليدية ان محددات هذه الاحتجاجات كانت بالأساس ضدها وضد وجودها السياسي والتنفيذي والتشريعي، بشكل مطلق، كان لاحتجاجات تشرين دور كبير في تغيير وعي الناخب كما انها افرزت تيارات سياسية جديدة منها تمثل تشرين كحركة امتداد ومنها تمثل ظاهر التصويت العقابي للكتل التقليدية وهذا ما افرز ظاهرة التصويت للمرشحين والقوائم المستقلة بشكل كبير كقائمة اشراقة كانون والمرشحين بشكل فردي وهؤلاء لا يملكون من المال والنفوذ السياسي والعلاقات الخارجية ما يسمح لهم بالتلاعب في النتائج لصالحهم.
.
رابط المصدر: