د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركن متقاعد… دكتوراة في التاريخ
تمـهيــد
من المعروف أن نجم الطائرات المسيّرة “بيرقدار” التركية قد سطع بشكل أبهرَ العديدَ من المتابعين إثر البرهنة على قدراتها الفائقة في شماليّ العراق والساحتَين السورية والليبية، قبل حسم الصراع الذي انبثق في إقليم “قره باغ” بين أذربيجان وأرمينيا في الفترة من أيلول/ سبتمبر إلى تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والتي ألحقت فيها هذه الطائرات خسائر هائلة بالدبابات والمدرعات والمدافع ومنظومات الدفاع الجوي والمواقع المحصّنة الأرمينية، ما أجبر يريفان على إيقاف الحرب.
ولمّا ذاع صيت هذه المُسَيّرة بشكل يفوق ببعض ميزاتها ما لدى الدول العظمى والكبرى المُصنِّعة لمثيلاتها، فإن العديد من الدول تهافتوا لاقتنائها، ومن بينها: ليبيا، وتونس، وقَطَر، وأوكرانيا، وبولندا، وألبانيا، في حين تنتظر دول أخرى للتقدم بطلب لشرائها قريبًا.
انزعاج روسي- أمريكي:
الدولَتان العظمَيان لا بدّ أن تَرَيا في الطائرات المسيّرة سلاح المستقبل المنظور، وسيكون لِمحتكِر صناعتها الحظّ الأوسع في تطوير الصناعات الحربية المعقّدة، ولذلك تخشَيان امتلاك تركيا ناصية إنتاج هذا النوع المُثير من الطائرات ومقذوفاتها الدقيقة وقدراتها الجديرة بالاهتمام، ولربما تكتفي ذاتيًّا وتصبح قوة تضاهيهما، وبالأخص أن تركيا تتمتّع بإرث وطموحات لا تخفى على الجميع.(*)
وتحت ذرائع متنوعة بَدَت روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية منزعجتَين كثيرًا من اقتناء عدد من الدول للمسيّرات التركية، فيما لم تُخفِ موسكو قلقها البالغ من حصول خصمها الأوكرانيّ عليها، واعتبرتها خطرًا على أمنها القومي.
أما واشنطن فقد أضافت تصعيدًا جديدًا إلى نبراتها السابقة تجاه أنقرة بسبب المسيرات، إلى جانب شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، التي زعمت واشنطن أنها تشكّل خطرًا تكنولوجيًّا على طائرات حلف NATO ودفاعاته الجوية، لا سيّما وأن تركيا عضو في الحلف منذ عقود.
الانزعاجان:
وفي هذا الشأن وجّه لي العديد من الأصدقاء والمتابعين لأخبار المسيّرات التركية جملة أسئلة واستفسارات عن أسباب هذا الانزعاج الثنائي، وأهمها ما يأتي:
– ماذا يعني انزعاج الدولتين العظميين من المسيّرات التركية من الناحية العسكرية؟
– ما المواقف الأمريكية- الروسية المحتملة تجاهها؟
– هل بإمكانهما إعاقة المشروع التركي والطلب المتزايد عليها؟
– ما الذي نتوقعه من تركيا للتعامل المحاولات الأمريكية- الروسية؟
وفيما يلي أقدم إجابات وإيضاحات موجزة عن هذه الأسئلة:
الانزعاج الأهم:
ليس مستغربًا أن تنزعج الدولتان العظمَيان من المسيرات التركية، وهما في مقدمة الدول المُصنِّعة للسلاح الثقيل والمتطوّر على المستوى العالمي، للأسباب الآتية:
- أنهما جادّتان في إبقاء احتكارهما لإنتاج الأسلحة المتطورة ذات التكنولوجيا العالية، وقد دَأَبَتا على هذا منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها قبل أكثر من سبعة عقود، وما زالتا حتى يومنا الراهن تحاولان منع أية دولة تحاول أن تقتحم هذه السوق، صديقة كانت أو معادية.
- لا يُعقَل أن يسمح الروس والأمريكيون أن ينافسهم أحد في هذا الشأن الذي يدرّ على خزائن كل منهما أرباحًا لا تساويها أرباح في أي مجال آخر، وتقدّر بمئات المليارات بمعدلات سنوية.
- أنهما تحاولان أن لا تنأى عنهما أية دولة سائرة في ركبهما بهذه المجالات التي تحقّق لهما سطوة سياسية.
المواقف المحتملة للدولتين:
قلّما يتفق القُطبان العالميّان المتنافسان – روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية – على موقف ثنائي مشترك حيال أيّ شيء، ولكنهما اليوم في جانب واحد حيال تركيا في شأن طائراتها المسيّرة، ولذلك قد تُقدِمان على خطوات عملية لإعاقة مسيرة تركيا في هذا المجال، عن طريق:
- الضغط بأكثر من وسيلة لإرغامها على هذا، أو ترغيب الدول المستهلكة التي تتعامل معهما في مجالات السلاح بعدم التقرّب من تركيا في هذا المضمار.
- محاولتهما إعلاميًّا الإساءة إلى سمعة المسيّرات التركية، والترويج أنها ليست إلا سلاحًا بسيطًا مقارنةً بما يملكان من مسيّرات متطورة.
- تسليط الأضواء على المسيّرات التركية التي أثبتت كفاءتها، بأنها لم تكن سوى ضربة حظّ، من حيث إنها لم تستخدم سوى في معارك “قَرَه باغ” غير المتكافئة، وفي حرب قصيرة محدودة جرت بين أذربيجان القوية نسبيًّا والمدعومة تركيّاً، قبالة أرمينيا الضعيفة، والحال أدنى من ذلك في شماليّ سوريا وشمالي العراق وليبيا، وهذا ما لا ينطبق على حروب أو معارك قد تنشب بين دول مدعومة ذات قدرات أوسع.
- محاولتهما الحصول على الأسرار التكنولوجية للمسيّرات التركية ابتغاء التشويش الإلكتروني عليها، كي تخطئ مقذوفاتُها أهدافَها، وذلك ما يُسيء لقدراتها ويحطّ من سمعتها.
- اتباع أكثر من وسيلة لإسقاط بعض المسيّرات التركية في أجواء بعض الدول التي اقتنتها؛ كي يظهر ضعفها أمام منظومات الدفاع الجوي الروسية والأمريكية لدى تلك الدول.
- تهديدهما للأقطار التي تتعامل معهما بأنهما ستتوقّفان عن بيع السلاح وإمدادها بقطع الغيار والقيام بأعمال الصيانة والإدامة، فيما إذا تعاملت مع تركيا في هذا الشأن.
- استهدافهما العلماء والخبراء الأتراك العاملين في مجال صناعة المسيّرات وتطويرها في المصانع المنتجة لها.
- فرضهما عقوبات عسكرية واقتصادية وثقافية على تركيا والدول التي تقتني مسيّراتها.
وماذا عن تركيا؟
من المُسَلّم به أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الدولتين العُظميين وموقفهما حيال طائراتها المسيّرة، ومن المؤكد كذلك أنها ستقدم على خطوات تُصَفِّر إجراءاتهما أو تَحُدّ منها باتخاذ ما يأتي:
- الإصرار على مواقفها وعدم التراجع عن إمداد الدول الراغبة باقتناء مسيّراتها، وعدم الرضوخ لضغوطاتهما.
- تسليط وسائل الإعلام على حقيقة أن مسيّراتها لم تثبت جدارتها في الفيديوهات المُخرَجة ووسائل الإعلام والإعلانات المُنتجة بعناية لأغراض الترويج وفرض العضلات، بل في أتون صراعات ميدانية ومواجهات عنيفة مع خصوم وأعداء حقيقيين.
- الإبقاء على الأسعار المنخفضة نسبيًا لمسيّراتها مقارنةً بمثيلاتها الأمريكية والروسية، وشبيهاتها المنتَجة لدى دول كبرى أخرى.
- الاستمرار في تطوير مسيّراتها وتحسين أدائها نحو الأفضل، وله صور متعددة منها:
- ما دأبت عليه في الأعوام القليلة المنصرمة، وبالأخص في وسائط التحكّم بها عن بعد، ومضاعفة ساعات تحليقها ومقادير حمولاتها من المقذوفات المسيّرة (GUIDED MISSILES) ووسائل الدفاع عن ذاتها، وتكنولوجيات الاستهداف الدقيق والتشويش الإلكتروني الإيجابي والسلبي، والتشويش المقابل.
- عدم الاكتفاء بمُسيَّراتها المزوّدة بمحركات مروحية ذات رِيَش، والتي لا تحقّق سوى سرعات متواضعة، بل تجهيزها بمحرّكات نفاثة لمضاعفة سرعاتها وتحقيق ما يقارب 1000 كلم/ساعة، كي تستطيع الإفلات بشكل أفضل سواء من منظومات الدفاع الجوي الأرضية أو من الطائرات المقاتلة المعادية النفاثة.
- عدم الاكتفاء بمسيّرات هجوم أرضي (GROUND ATTACK DRONES)، بل القفز لإنتاج مُسيّرات مُقاتِلة (FIGHTER DRONES) للاشتباك الجوي مع مقاتلات الخصم المأهولة أو المُسَيَّرة، وأخريات من الطراز المَخفي عن الرادارات (الشبح STEALTH).
- التركيز على جعل مُسيّراتها الأحدث ذات قدرات على الإقلاع والهبوط العمودي (VERTICAL TAKE OFF & LANDING)، أسوة بالهليكوبترات التي لا تحتاج إلى مطارات، لكي تكون قادرة على العمل من مساحات محدودة إقلاعًا وهبوطًا، وتمكينها من العمل على أسطح سفن القوات البحرية والزوارق.
- الحفاظ على حياة العلماء والخبراء العاملين في مجال المسيّرات وتأمين سلامتهم.
- الحماية القصوى من الهجمات المباشرة والسيبرانية على المصانع والمختبرات التركية الخاصة بإنتاج المسيّرات.
(*) هذه الأسطر مستقاة من مداخلة مشكورة من قائدي ومعلّمي الفريق الركن طارق محمود شكري، بعد استماعه لأجوبتي الصوتية عن المسيّرات التركية…”الباحث”.
.
رابط المصدر: