- على الرغم من غياب مؤشرات واضحة على انسحاب أمريكي قريب من شرق سورية، فإن قرار واشنطن بشأن وجود قواتها هناك سيخضع لمجموعة عوامل، أهمها: نتيجة حرب غزة، ومستقبل المفاوضات الدائرة بين بغداد وواشنطن بشأن الوجود الأمريكي في العراق، وهوية الفائز في انتخابات الرئاسة الأمريكية.
- بدأ الفاعلون الدوليون والإقليميون في الأزمة السورية يستعدون للانسحاب الأمريكي المحتمل، فروسيا تفضّل فوز ترامب للتوصل معه إلى ترتيبات ما بعد الانسحاب، في حين تسعى تركيا لتقويض قدرات “قسد” قبل خروج الأمريكيين، أما إيران فتبدو أكثر طرف مُستعد لوراثة الدور الأمريكي في سورية.
- لا يُرجح أن تلجأ واشنطن، سواء فاز بايدن أو ترامب، إلى الانسحاب من سورية على الطريقة الأفغانية، والأقرب أنها ستدعم قبل ذلك اتفاقاً بين الأكراد وتركيا، سيحاول الروس والإيرانيون تخريبه.
مع اندلاع حرب غزة، وتعرُّض القوات الأمريكية في سورية لهجمات من قبل الميلشيات العراقية الحليفة لإيران، تحدثت تقارير إعلامية عن بحث الإدارة الأمريكية مسألة انسحاب قواتها من شرقي سورية، وثارت تكهنات حول زمن هذا الانسحاب، والطرق التي سيتبعها.
احتمالات الانسحاب الأمريكي
في 23 يناير 2024 تسرَّبت أنباء عن خطة طرحتها وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” على “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) للدخول في شراكة مع حكومة دمشق لمحاربة تنظيم داعش، وذلك ضمن مراجعة أوسع للسياسة الأمريكية تجاه سورية، وتحوّل إدارة الرئيس جو بايدن نحو التفكير بسحب قواتها من شرق سورية، وأنها “لم تعد مهتمة بالبقاء” هناك. ونظراً لارتباط الوجود الأمريكي في سورية بمآلات المفاوضات الجارية بين بغداد وواشنطن حول مستقبل التحالف الدولي ضد داعش، فإن مخططي “البنتاغون” لا يتوقعون سوى استمرار الوجود الأمريكي في شمال العراق، ومن هناك يتم دعم المقاتلين الأكراد في شرق سورية. ونفى البيت الأبيض، والبنتاغون هذه الأنباء والتقارير.
حالياً، لا توجد مؤشرات حاسمة على انسحاب أمريكي قريب من سورية، حيث تتركز جهود واشنطن في مواجهة تداعيات حرب غزة، واحتواء التصعيد على مستوى المنطقة عبر مفاوضات غير مباشرة مع الإيرانيين، وبالتأكيد سيُضعِف خروج القوات الأمريكية من سورية الآن، موقف واشنطن ويؤثر في قدرتها على ضبط الصراع الإقليمي، وحماية خطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن. ومن جهة أخرى، سيحجم الرئيس بايدن عن سحب قوات بلاده من سورية حالياً، خصوصاً أنه يواجه منافسة انتخابية شرسة من المرشح الجمهوري دونالد ترامب.
وفي كل الأحوال، سيخضع الانسحاب الأمريكي من شرقي سورية لعوامل عدة، أهمها: نتائج الحرب الدائرة في قطاع غزة وتأثيراتها على الأوضاع الأمنية في المنطقة؛ ومستقبل الوجود الأمريكي في العراق والمفاوضات الدائرة بين بغداد وواشنطن بشأنه، باعتبار أن الوجود العسكري الأمريكي في شرق سورية يعتمد على الدعم العسكري واللوجستي الذي يوفره الوجود الأمريكي في العراق؛ وهوية الفائز في الانتخابات الأمريكية الرئاسية في نوفمبر المقبل.
سيعني انسحاب القوات الأمريكية من شرقي سورية سحب الضمانة الأمنية لـ “قسد”، التي ستبحث عن ضمانة أمنية بديلة تبدو غير متوافرة؛ فالأتراك لن يقدموا مثل هذه الضمانة، أما الروس فإنهم على الأرجح سيدعموا مساعي الحكومة السورية لاستعادة السيطرة على مناطق الإدارة الذاتية الغنية بالنفط والثروات الزراعية. كذلك الحال بالنسبة للإيرانيين، الذين يركزون حالياً على التعامل مع التداعيات الاستراتيجية لحرب غزة على دورهم الإقليمي. علاوةً على ذلك، تنبسط مناطق “قسد” أمام الحكومة السورية وحلفائها بشكل يصعب الدفاع عنها أمام هجمات الجيش السوري أو الأتراك، فضلاً عن انتشار قوات الحكومة السورية في العديد من المواقع الحاكمة في مناطق “قسد”، مثل معدان بمحافظة الرقة، ومدينتي الحسكة والقامشلي.
مواقف اللاعبين وحساباتهم
1. روسيا: منذ شن موسكو حربها على أوكرانيا في فبراير 2022، وسعي واشنطن لإلحاق “هزيمة استراتيجية” بها، أصبح الكرملين أكثر اهتماماً بإخراج القوات الأمريكية من شرق سورية. وفي يونيو من العام 2023، كشفت واشنطن عن انخراط موسكو في خطط إيرانية لتصعيد الضغط على وجودها العسكري في شرق سورية، وتحول إلى تنسيق بينهما على نحو أقلق الدوائر الأمريكية. وتحت وطأة الصراع الدائر في أوكرانيا غابت موسكو عن تفاعلات الأزمة السورية، إذ سلّمت العديد من مواقعها العسكرية، ومواقع مجموعة “فاغنر” في سورية لإيران وحلفائها. وعادت موسكو لتُظهر تأثيرها من بوابة الرد على هجوم الكلية الحربية في حمص في أكتوبر 2023، عبر حملة جوية مشتركة مع الجيش السوري ضد مواقع المسلحين المدعومين من تركيا في غربي سورية. وبالتزامن مع تصعيد الميليشيات المدعومة من إيران استهدافها الوجود العسكري الأمريكي في محافظتي دير الزور والحسكة، أعادت موسكو تفعيل وجودها العسكري في القنيطرة.
وعلى الرغم من ارتقاء التعاون العسكري الروسي-الإيراني إلى مستويات جديدة على خلفية الحرب الأوكرانية والحرب في غزة، فإن روسيا قد لا تستفيد من انسحاب أمريكي يتم حالياً نظراً لانشغال الجيش الروسي بالقتال الدائر في أوكرانيا، وتقدُّم الإيرانيين ميدانياً، حيث سيصب انسحاب كهذا في صالح طهران أكثر مما يصب في صالح موسكو. وقد يُفسَّر ذلك تلقي وزارة الخارجية الروسية ببرود الأنباء عن تفكير واشنطن بالانسحاب من سورية، وإنْ كانت موسكو تروِّج إلى أن الانسحاب الأمريكي سيخلق وضعاً يسهم في حل العديد من المشاكل هناك، في خلال أشهر معدودة. وتريد روسيا، التوصل إلى ترتيبات سياسية وأمنية مع الولايات المتحدة، قبل انسحاب قواتها من سورية، تؤدي إلى إطلاق يد الكرملين في ترتيب الأوضاع السورية بمباركة أمريكية. ومع تعذُّر ذلك جراء الحرب في أوكرانيا، سينتظر الروس عودة ترامب علّهم يتوصلون معه إلى صفقة ما.
2. الحكومة السورية: ستكون حكومة دمشق من الفائزين الكبار بحال خروج القوات الأمريكية من شرقي سورية، واستعادتها السيطرة على منابع النفط هناك. ففي خلال الأعوام الماضية، سعت دمشق إلى إقناع حليفَيها الروسي والإيراني بدعم مقاومة شعبية ضد الوجود الأمريكي، إلا أنهما لم يتجاوبا معه. وبدت الحكومة السورية وحيدةً في دعمها انتفاضة عشائرية في دير الزور، قادها شيخ عشيرة العكيدات إبراهيم الهفل ضد “قسد”، قضى مقاتلو الأخيرة عليها بعد شهر من بدئها. لكن حرب غزة جعلت إيران تغير حساباتها، لتدعم حملة قصف على القواعد الأمريكية شرقي سورية شنتها الميليشيات الشيعية العراقية، استهدفت في إحدى المرات مجموعة تتبع لـ “قسد“، كما كثّفت طهران دعمها العشائر المناوئة للإدارة الذاتية.
ولم تُعلِّق دمشق على ما تسرَّب من خطة أمريكية لإنشاء تعاون بينها وبين “قسد” ضد تنظيم داعش. وعلى الأرجح ألا تتجاوب دمشق مع الخطة إما نتيجة للأوضاع المرتبطة بحرب غزة، أو لما بدا أنه رهان من الرئيس السوري بشار الأسد على عودة ترامب إلى البيت الأبيض، لعقد صفقة معه بشأن الانسحاب الأمريكي. ومع ذلك، يبدو أن الحكومة السورية لا تملك حالياً القوى العسكرية الكافية للسيطرة على شرق البلاد، كما أن سيطرة المسلحين على جيب إدلب وشمال حلب تحت مظلة الأتراك، ستعقّد حساباتها حيال تلك المنطقة. وعلى كل الأحوال، بدا أن التسريبات الأمريكية حول الانسحاب قد حسّنت موقع الحكومة السورية، إذ سرّعت الرياض تقاربها مع دمشق.
3. إيران: تَعدّ طهران الانسحاب الأمريكي من شرقي سورية بمنزلة الجائزة الكبرى لها، خصوصاً أنه سيعزز سيطرتها على الطريق البري الواصل بين شرقي العراق والبحر الأبيض المتوسط عبر سورية ولبنان. وبعد أن دفعت هجمات الميليشيات المتحالفة معها إدارة بايدن و”البنتاغون” إلى التفكير بالانسحاب من شرق سورية، باتت تنتظر هذا الانسحاب من دون أن تستعجله، وبخاصة أن الولايات المتحدة لم تعد تربط بين انسحاب قواتها وانسحاب العناصر المدعومة إيرانياً من سورية. وريثما ترتب واشنطن لانسحابها من سورية، تعمل إيران على تعزيز انتشار المليشيات المدعومة منها ومدّ شبكاتها داخل دير الزور والحسكة، بما يمكّنها من وراثة الدور الأمريكي في المنطقة.
ترى إيران أنها الطرف الأكثر استعداداً لوراثة الانسحاب الأمريكي من شرق سورية على الرغم من أن هذا الانسحاب سيُفقد طهران إحدى ذرائع وجودها العسكري في سورية. وكانت إيران قد حضّرت نفسها لهذا اليوم من خلال الاتفاقيات التي وقعتها مع دمشق، وكذلك من خلال المعاهدة التي أبرمها الطرفان في عام 2016، وبموجبها نُظِّم الوجود الإيراني في سورية، بحيث حصلت طهران على تسهيلات عسكرية في كل الأراضي السورية.
لقد استغلت إيران الوجود الأمريكي وجعلته ذريعة لنشر ميليشياتها والتغلغل شعبياً في محافظة دير الزور، وأقسام من محافظتي الرقة والحسكة. ومنذ مطلع العام 2023، مالت إيران مع روسيا إلى الضغط على قواعد التحالف الدولي، جاعلةً من القوات الأمريكية رهينة فاوضت عليها، إلى أن توصلت إلى اتفاق الدوحة القاضي بتبادل الرهائن مع واشنطن في مقابل إفراج الأخيرة عن أموال مجمدة لصالح الإيرانيين. هذا التعامل الإيراني مع القوات الأمريكية في سورية والعراق، باعتبارها رهينة، وصل إلى ذروة جديدة أثناء حرب غزة.
4. تركيا: تفاجأت الدبلوماسية التركية من التسريبات حول وجود خطة أمريكية للتوصل إلى تعاون عسكري بين الحكومة السورية و”قسد” (الذي ترفضه أنقرة بالتأكيد)، وتفكير إدارة بايدن بسحب قواتها من شرق سورية. بدأ الأتراك يرصدون مؤشرات على رغبة أمريكية في الانسحاب من الشرق الأوسط، ما سيكون له تأثيرات متعاكسة على السياسة التركية في سورية والمنطقة. وعلى الرغم من أن المسؤولين الأتراك ظلوا لسنوات يطالبون الإدارة الأمريكية بإيقاف دعمها لـ “قسد”، فإنهم لم يطالبوها بسحب قواتها من سورية، نظراً لما يوفره وجود تلك القوات من رافعة بيد القادة الأتراك خلال مفاوضاتهم مع الإيرانيين والروس. ومن ثمّ سيحرم الانسحاب الأمريكي الأتراك من الثقل الموازن للروس والإيرانيين، ويجعلهم أضعف في مواجهة ضغوطهما العسكرية والسياسية بما ينعكس سلباً على قدرة أنقرة على الاحتفاظ بوجودها العسكري غربي سورية، على المديين المتوسط والطويل. لكن من جهة أخرى، سيخلّص الانسحاب الأمريكي تركيا مما تسميه تهديداً على “أمنها القومي”، نابعاً من مشروع “الإدارة الذاتية” في شمال سورية، كما سيدفع الأمريكيون والدول الأوروبية إلى توفير دعم أكبر لحليفهم التقليدي: تركيا، باعتبارها مرساة للأمن الغربي في المنطقة ضد الإيرانيين والروس الذين ينسقون بشكل أكبر من السابق.
تعوّل الحكومة التركية على التحسُّن المطرد في علاقاتها بواشنطن بهدف تحسين موقعها في شمال سورية. هذا التحسن لم يُنهِ، إلى الآن، الاختلاف الأمريكي والتركي حول سورية، لكن أنقرة تنوي انتزاع موافقة واشنطن على، أو على الأقل عدم ممانعتها شن عملية عسكرية جديدة “في خلال أشهر” تنفذها القوات التركية ضد “قسد” بينما لا تزال نظيرتها الأمريكية في الميدان، مستفيدةً من انشغال إيران وروسيا بمسائل أكثر حيوية لهما.
نظرت أنقرة بعين الرضا إلى عدم اعتراض واشنطن على استهداف المسيرات التركية لمرافق البنية التحتية في مناطق “قسد” خلال شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين، ورفْضها التجاوب مع دعوات الإدارة الذاتية لإدانة الضربات التركية. وقد توسع أنقرة تصعيدها العسكري ضد “قسد” إثر تنفيذ العملية التركية المزمعة في شمال العراق؛ فقد نجحت أنقرة في انتزاع تأييد الحكومة العراقية لموقفها من حزب العمال الكردستاني، وسط أنباء عن تفاهمات توصل إليها الجانبان التركي والعراقي على إطلاق يد القوات التركية في شمال العراق ضد مقاتلي الحزب، من أجل تأمين “طريق التنمية” الذي يربط الخليج العربي بأوروبا عبر ميناء الفاو وصولاً إلى الأراضي التركية.
السيناريوهات المحتملة للانسحاب الأمريكي
تظل حسابات اللاعبين المختلفين المتربصين بالوجود الأمريكي في سورية معلّقةً على السيناريو الذي ستنسحب وفقاً له القوات الأمريكية من شرقي سورية، ونستعرضها فيما يأتي:
السيناريو الأول: انسحاب فوضوي على شاكلة الانسحاب من أفغانستان. سبق لترامب أن أمر عندما كان في السلطة، خلال أكتوبر 2019، بانسحاب قوات بلاده من شرقي وشمال سورية من دون سابق إنذار، ما خلّف فوضىً هائلة، وإطلاق تركيا لعملية “نبع السلام” العسكرية في محافظتي الرقة والحسكة. أمكن ضبط هذه الفوضى جراء عودة الرئيس الجمهوري عن قراره، وبعد اتفاق عقده نائب الرئيس الأمريكي في حينه مايك بنس مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، واتفاق ثانٍ توصل إليه الأخير مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. سيكون لانسحاب القوات الأمريكية من شرقي سورية على شاكلة انسحابها من أفغانستان، نفس الديناميات التي أحدثها قرار ترامب المفاجئ خريف العام 2019. ستقع مناطق سيطرة “قسد” بين فكّي كماشة: تركي من الشمال، وإيراني من الجنوب. ومع انحسار النفوذ الأمريكي، ستتجه أنظار مسؤولي الإدارة الذاتية إلى موسكو، علّها تطلق حواراً عاجلاً بينهم وبين الحكومة السورية. ولربما توسطت روسيا بين الإيرانيين والأتراك على اتفاق لتقاسم النفوذ في المنطقة، بما يرسخ قيادتها للحل السياسي في سورية، عبر عملية أستانا.
سيُسهم في تحقيق السيناريو أعلاه المعركة الانتخابية الطاحنة بين بايدن وترامب؛ فقد تُقْدم الإدارة الديمقراطية على الانسحاب من سورية من دون سابق إنذار لكسب أصوات الناخبين، أو لإضافة بعض التعقيدات على رئاسة ترامب. كما قد يصب في خانة تحقق هذا السيناريو تطورات الصراع الإقليمي الناجم عن حرب غزة، وعودة هجمات الميليشيات المدعومة من إيران على القواعد الأمريكية في العراق وسورية بزخم أكبر من السابق. وربما تريد الولايات المتحدة من خلال الانسحاب المفاجئ أن تدق إسفيناً بين دول أستانا (تركيا وروسيا وإيران) بما يُشعل فتيل تنافس عنيف فيما بينها على ملء الفراغ الذي ستخلّفه القوات الأمريكية.
مع ذلك، يظل هذا السيناريو مُستبعداً، وبخاصة أنه في ظل استمرار الحرب في غزة يصبح من الصعب على واشنطن الانسحاب بشكل مفاجئ من هذه المنطقة الحيوية، وتعريض أمن الحليف الإسرائيلي لتحدي التمدد الإيراني.
السيناريو الثاني: انسحاب أمريكي منظم وفقاً لاتفاق مع أنقرة أو طهران. يفترض هذا السيناريو أن إدارة بايدن، أو إدارة ترامب، ستتحاشى تنفيذ الانسحاب وفقاً للسيناريو الأفغاني درءاً للانتقادات الداخلية، ولتوفر حماية معقولة لمصالحها الإقليمية. لذلك، ربما تلجأ واشنطن إلى التفاوض مع تركيا أو إيران أو كلتيهما على انسحاب قواتها من سورية. وفقاً لهذا السيناريو، ستسلّم واشنطن المناطق التي تسيطر عليها لإحدى القوتين (في هذه الحال تركيا غالباً) أو كلتيهما، وستتلاعب فيما بينهما للحصول على أفضل صفقة لها ولـ “قسد”. ولربما أبْقت واشنطن على قاعدتها في التّنف، لفترة أطول نسبياً، كي تضمن أمن شركائها الإقليميين.
من العوامل المسهِّلة لهذا السيناريو، رفض إدارة بايدن التفاوض مع روسيا حول سورية، وانفتاحها مؤخراً على تركيا وحرصها على مواصلة المفاوضات غير المباشرة مع إيران، ورغبة “البنتاغون” في الإبقاء على قوات أمريكية بإقليم شمال العراق ووضْعه خطة لإنشاء تعاون بين الحكومة السورية و”قسد” لمواجهة داعش، وأخيراً توصل بغداد وأنقرة إلى تفاهمات حول تنفيذ عملية تركية ضد عناصر حزب العمال الكردستاني المنتشرين في بعض مناطق إقليم كردستان. وقد يختار ترامب إذا ما عاد إلى السلطة طريق التفاهم مع تركيا حول تخفيض القوات الأمريكية في سورية، من أجل ضمان تعاون تركي ضد النفوذ الإيراني المتزايد. وأعرب مسؤولون كبار في الإدارة الذاتية عن موافقتهم لأول مرة على إجراء حوار مع أنقرة للتوصل إلى ترتيبات أمنية مشتركة لما بعد الانسحاب الأمريكي، وهو حوار تدعو إليه بنشاط كبار الدول الأوروبية.
ويظل هذا السيناريو الأكثر احتمالاً الذي قد يتكشف تدريجياً، إلا أنه لا يخلو من التحديات والعوائق، وبخاصة أن موسكو ستعمل من غير هوادة على تخريب سيناريو كهذا، فضلاً عن أن تنفيذه سيُضر بمصلحتها على عدة مستويات. فمن المرجح أن تفقد روسيا نفوذها لصالح إيران و/أو تركيا، نظراً لأن شريكها الرئيس، وهو الحكومة السورية، قد لا يتمكن في الأفق القريب من تأدية دور مهيمن في شمال شرقي البلاد في حال انسحاب الأمريكيين. كما أن التوصل إلى وقف إطلاق نار شامل في غزة يكون جزءاً من تفاهم أمني أمريكي-إيراني حول الوضع في المنطقة بعد الحرب الإسرائيلية على القطاع، ويسهم في فوز بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية، أمران لا يتماشيان مع المصالح الروسية.
السيناريو الثالث: أن تربط واشنطن بين انسحابها والتوصل إلى حل شامل للمسألة السورية. وهو أقل السيناريوهات ترجيحاً. فقد عرضت إدارة ترامب السابقة، عبر مبعوثها الخاص إلى سورية جيمس جيفري، على الروس تنفيذ سيناريو مشابه أواخر العام 2018. سيسعى الأمريكيون في هذا السيناريو إلى التوصل إلى تسوية شاملة للأزمة السورية، تؤدي إلى سحب القوات الأجنبية من البلاد، بما فيها الإيرانية والأمريكية والتركية، ووضع دستور جديد يؤدي إلى عودة الحكومة السورية إلى كل المناطق السورية مقابل منح صلاحيات إدارية واسعة للأكراد، وحلفاء تركيا في الشمال السوري.
قد يتبلور هذا السيناريو إذا ما فاز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية. لكنْ من الصعب تصور تحققه في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، نظراً لما يتطلبه هذا السيناريو من تعاون أمريكي-روسي يبدو بعيد المنال حتى لو عاد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2025. كما أن إيران والرئيس الأسد سيحرصان على فشل هذا السيناريو، وبخاصة أنه يتطلب انسحاب قوات الأولى، وتنازلات سياسية ودستورية من الثاني. ومع علمهما أن الانسحاب الأمريكي واقع لا محالة، ستُفضِّل دمشق وطهران الانتظار وزيادة تكلفة الوجود العسكري الأمريكي في البلاد، عبر تصعيد المقاومة الشعبية ضد “قسد”، وهجمات المليشيات المرتبطة بإيران على القواعد العسكرية الأمريكية.
أخيراً، سواء أكان الانسحاب الأمريكي منظماً أم لا، فإنه سيكون على الجهات الفاعلة في سورية التعامل مع العديد من المسائل الحساسة، مثل:
- مستقبل الإدارة الذاتية التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (بيدا) منذ العام 2013؛ والتي أرْست هياكل إدارية لتنظيم حياة السكان، وسيكون لنهايتها تداعيات كبيرة عليهم، وعلى القضية الكردية في سورية والشرق الأوسط بشكل عام.
- السجون والمخيمات التي تؤوي عناصر تنظيم داعش وعائلاتهم شرقي سورية؛ مثل سجن غويران، ومخيمي الهول والروج في محافظة الحسكة. وتؤوي هذه المواقع قيادات التنظيم وعناصره الذين اعتقلتهم “قسد” بعد إنهاء دولة داعش، فضلاً عن عائلاتهم، ويتحدر هؤلاء من أكثر من ستين دولة.
- تمرُّد خلايا داعش المتوارين في البادية السورية، والذين يواصلون شن هجمات مميتة على قوات الحكومة السورية ومقاتلي “قسد”.
- مستقبل السلاح الأمريكي الذي سلمته واشنطن لقوات “قسد”، والذي قد لا تجد القوات الأمريكية وقتاً لجمعه منها.
- احتمالات تفجُّر نزاعات عرقية بين العرب والأكراد، جراء ما تعتبره القبائل العربية سنوات من “التسلط الكردي”. وحتى الآن، تمكَّنت “قسد”، بدعم أمريكي، من السيطرة على السكان العرب والتعامل مع الاحتجاجات ومشاعر المظالم المنتشرة بينهم، لكنها فشلت في تعزيز مشاركة العرب في داخل قيادة “قسد” وهياكل الإدارة الذاتية. وربما تجد القبائل العربية فرصة في انسحاب القوات الأمريكية من أجل استعادة ما تعتقد أنه “حقوقها”.
- التنافس على مستقبل تجارة النفط السوري، والسيطرة على آباره الكائنة في المنطقة. وعلى الرغم من تواضع احتياطات النفط السوري، لكن من المرجح أن تنشأ منافسة بين الروس والإيرانيين على السيطرة على آباره.
- التنافس على ممرات التجارة الإقليمية العابرة لسورية (شمال-جنوب أو شرق-غرب)، وتدفع تركيا وراء ممر بري يربطها بدول الخليج عبر سورية والأردن، بينما تعمل إيران على مد ممر تجاري يربطها بشرق البحر الأبيض المتوسط عبر سورية والعراق.
استنتاجات
تجد “قسد” نفسها أمام موقف صعب للغاية مع تفكير حليفها الأمريكي في سحب قواته من مناطقها، وتضيق الدوائر عليها مع تنشيط موسكو لدورها السوري، وتشديد طهران قبضتها على شرقي البلاد، واستعداد أنقرة لتنفيذ عملية عسكرية تستهدف حزب العمال الكردستاني في مناطق قنديل وسنجار شمالي العراق، قبل أن تستهدف قوات “قسد” بعملية جديدة في شمالي سورية.
وقد عززت أنقرة فرصها في التوصل إلى تفاهم مع الأمريكيين بغض النظر عن الفائز بالانتخابات الرئاسية، أما الإيرانيون فإن ميليشياتهم قد تُمكِّنهم من وراثة النفوذ الأمريكي في شرقي سورية. ويظل الروس متخلّفين إلى حد ما عن شركائهم في عملية أستانا، لكنهم قد يلجؤون إلى تعزيز موقعهم في الشهور المقبلة، عبر استغلال المخاوف العربية والإسرائيلية من انسحاب أمريكي مفاجئ، وتقديم أنفسهم طرفاً ضامناً لجميع الأطراف: الأمريكيون، والأكراد، والحكومة السورية، والعرب، والإسرائيليون، والإيرانيون، والأتراك. ونظرياً، يمكن للأمريكيين التلاعب فيما بين هذه القوى، لتنفيذ انسحاب قواتهم من سورية بشكل منظَّم.
المصدر : https://www.epc.ae/ar/details/scenario/aliainsihab-alamriki-almuhtamal-min-suria-alsiynariuhat-wahisabat-allaeibin