محمد حسن
تربعت منطقة الشرق الأوسط طوال عقود على عرش “المحرك الرئيسي للأحداث العالمية” خلال حقبة الحرب الباردة، لاعتبارات حاجة العالم الغربي للطاقة الاحفورية وضمان استمرار تدفقها، علاوة على خصوصية موقعها الجغرافي الذي يُشرف على ثلاثة مضائق بحرية متصلة جميعها بالاستراتيجية العسكرية الإقليمية وطرق التجارة البحرية العالمية وخطط الانتشار العسكري العالمي للقوي الدولية التي تنخرط في مسارات تنافسية – صراعية لفرض الهيمنة العسكرية بنسقها “العالمي”.
الأمر الذي وضع منطقة الشرق الأوسط على رأس أولويات مخططو الاستراتيجية للفواعل الدولية، والقوي الإقليمية الصاعدة بالمنطقة. وما عزز ذلك إيلاء الولايات المتحدة لهذه المنطقة جلّ اهتمامها وقدراتها التخطيطية والعسكرية والديبلوماسية، تارة لضبط إيقاع الصراع العربي الإسرائيلي، وتارةً أخري لتهيئة المناخ السياسي المناسب لإسرائيل كي تستمر في معادلة الأمن الإقليمي وكأهم شريك استراتيجي للولايات المتحدة، وأخري لتحييد المنطقة عن استحواذ مؤثر للقوي التقليدية المناوئة لواشنطن “الصين وروسيا”.
لتتشكل بذلك واحدة من أعقد شبكات الأصول العسكرية الأمريكية في العالم، حيث حرصت الولايات المتحدة على تدشين بنية تحتية عسكرية لها في منطقة الشرق الأوسط، تواكب التزاماتها الأمنية المطردة والتغيرات المتلاحقة على صعيد تنامي أهمية الشحن البحري في سياق تكاثر محطات سلاسل الإمداد والتوريد بعدما تغلغلت منظومة الاقتصاد المعولم في الأسواق البعيدة عن مراكز الحضور السياسي والثقافي والعسكري الغربي، علاوة على بروز تحولات أمنية حادة وجديدة كانتشار ظاهرة الإرهاب العابر للحدود من بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
حيث شنت الولايات المتحدة بعدها أطول حرب منذ تأسيسها، إذ استمرت لعقدين كاملين وكلفتها حوالي 8 تريليون دولار من الأعوام المالية 2002- 2022[1]. فيما أنفق البنتاغون وحده حوالي 14 تريليون دولار منذ بدء الحرب على الإرهاب ذهبت ثلثها إلى مقاولو الحرب والدفاع[2].
عززت الحرب على الإرهاب من شبكة الأصول العسكرية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط التي كانت بمثابة المسرح الرئيسي لدينامياتها، فمن بين 750 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة في أقطاب العالم ضمن 80 دولة؛ وقعت منطقة الشرق الأوسط ودولها كأحد أكثر مناطق العالم كثافة بالأصول العسكرية الامريكية، ما دمج المنطقة أكثر في مخيلة صانعي السياسات الأمريكية وخاصة حينما يرتبط الأمر بحركة الآلة العسكرية الأمريكية.
إلا أنه خلال العقد الماضي، ظهرت بوادر مرحلة جديدة في التعاطي الأمريكي مع الشرق الأوسط، إذ بدت واشنطن أكثر ميلاً للعزلة وتفضيلاً لتقليل الانخراط العسكري المباشر في الصراعات، وتطور الأمر إلى تفكيك أجزاء من بنيتها العسكرية في دول محددة، وصولاً إلى إعلان ما يشبه بتوجيه استراتيجي من البيت الأبيض بانسحاب الولايات المتحدة من مناطق الصراع في أفغانستان والعراق منذ منتصف العام الجاري. حيث نفذت الولايات المتحدة انسحاب كامل من أفغانستان بحلول 31 أغسطس الماضي، وأنهت المهام القتالية للقوات الأمريكية في العراق ديسمبر 2021، فيما استبقت ذلك بسحب قوات ومعدات لها في السعودية تحديداً كانت تعمل ضمن نطاق القدرات العسكرية الاستراتيجية للولايات المتحدة[3].
تحاول هذه الورقة الوقوف على ظاهرة الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط، وتفنيد إرهاصات هذا الإجراء وتحليل تبعاته على المنطقة.
اشكال التواجد ارهاصات الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط
ربما تعتبر الحرب الأمريكية في فيتنام النموذج الأكثر سوءاً في التدخلات العسكرية الخارجية لواشنطن منذ تاريخ الحرب الامريكية الاسبانية 1898. فالحرب الفيتنامية تسببت في وقوع خسائر ثقيلة على الجيش الأمريكي الذي فقد قرابة 58 ألف من أفراده في خضم هذه الحرب. ناهيك عن النتائج السياسية المتناقضة مع الأهداف المعلنة لحملة فيتنام، فللمفارقة دفعت نتائج الحرب بسياسات الانفتاح الأمريكي على الصين وشرق آسيا بعدما كان الانخراط العسكري الأمريكي في الحرب موجهاً ضدها مع الاتحاد السوفيتي[4].
فضلاً عن ظهور حركات اجتماعية قوية معارضة لتدخل الولايات المتحدة في الحرب عام 1964، وسرعان ما تحولت هذه الحركات إلى اتجاهات سياسية اعتنقها العديد من المشرعين في الكونغرس ومجلس الشيوخ الأمريكي.
حفرت هذه الحرب في ذاكرة واشنطن السياسية جملة من الانطباعات المقوضة لاتجاه الحروب الخارجية فعلى المستوي السياسي تعلم قادة ومشرعي الحرب الأمريكيين أن انهاء الحرب أكثر تعقيداً من الخروج منها وقدّم البنتاغون عقيدة قتالية جديدة في السنوات الأولي لحقبة رونالد ريغان حول وجوب تحديد أهداف سياسية واضحة بعينها للتحركات والمشاركة العسكرية الخارجية واستراتيجية خروج مُعدة سابقاً.
بيد أن جورج بوش الأب اتبع مبادئ هذه العقيدة في حرب الخليج الثانية 1991، لكن بعد عقد من الزمن عاد شبح حرب فيتنام بالظهور مجدداً في خضم الحرب العالمية على الإرهاب التي أطلقتها إدارة جورج بوش الابن عقب انهيار برجي التجارة العالمي 2001.
وعلى قدر فعالية التدخل الأمريكي “الجراحي” في حرب الخليج الثانية، إلا أن تلك الحرب أسست لمشاريع تدشين أصول عسكرية عملاقة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. حيث تغيرت النظرة الأمريكية الكلاسيكية تجاه التورط في الحروب الخارجية من جهة، ومن جهة أخري تجاه الصورة النمطية عن الدول العربية وخاصة الواقعة في شبهة الجزيرة العربية. هذا بالتضافر فمنذ بروز عقيدة كارتر 1980 تجاه المنطقة، عقب اندلاع حرب السفن والناقلات في خضم حرب الخليج الأولي، حيث فرضت هذه الوقائع حتمية وجود عسكري دائم للولايات المتحدة بالمنطقة[5].
ومع استمرار التهديدات النظامية واللامتماثلة بالمنطقة نمت الأصول العسكرية الأمريكية، كالآتي:
- قواعدعسكرية مأهولة في 10 دول على الأقل: يُطلق على القواعد العسكرية في الأدب العسكري الأمريكي بـ “منصات الزئبق المائي”، وتأتي التسمية وصفاً لاستخدام الضفدع أوراق الزئبق الطافية للقفز، في إشارة للمضمون الوظيفي لهذه القواعد في خطط واشنطن للتحرك العسكري وفرض الهيمنة العسكرية على العالم بإحكام السيطرة الميدانية على الأقاليم أولاً.
وفي هذا الصدد تمتلك واشنطن عشرات من القواعد العسكرية الكبرى التي تُشغل قطاعات من سلاح الجو والبحرية والقوات الخاصة؛ في 10 دول “إسرائيل – السعودية – الأردن – الامارات – عمان – الكويت – العراق – البحرين – جيبوتي – تركيا”.
وتتوزع هذه القواعد على مسارح بحرية تضم “الخليج العربي – خليج عدن – البحر الأحمر – البحر المتوسط”، ومضيقي “هرمز – باب المندب” حيث تمر عبر هذه المسارح البحرية والمضائق أكثر من 40% من الإنتاج العالمي من النفط، وأكثر من 2.5 تريليون دولار من التجارة العالمية سنوياً.
وتحقق خريطة الانتشار لهذه القواعد ادبيات السيطرة البحرية لأفريد ماهان التي تشكل جزء كبير من عقيدة البحرية الأمريكية الآن. وتحقق هذه القواعد العسكرية مزايا تكتيكية واستراتيجية لواشنطن، أبرزها:
الاستجابة العسكرية السريعة للتهديدات اللامتماثلة (Asymmetric Threat) بحراً وجواً.
تنفيذ إجراءات التأمين الكلاسيكي لرؤوس الجسور.
تنفيذ المهام التكتيكية على مستوي أفرع القيادات العسكرية الست.
العمل ككوابح استراتيجية لتسرب النفوذ العسكري الصيني والروسي والإيراني على وجه الخصوص.
حماية الأصول المدنية الأمريكية في المنطقة.
حماية قوافل التجارة.
تأمين تدفق إمدادات الطاقة.
تفعيل مهام القوات المحمولة جواً ونقل العتاد العسكري الاستراتيجي لأي بقعة بالعالم في ظرف 18 ساعة[6].
من هذه المزايا التكتيكية والاستراتيجية نظير التواجد والتمثيل العسكري الأمريكي بالشرق الأوسط، يصعُب تصور إقدام الإدارات الأمريكية على تنفيذ أي من محاولات الانسحاب وخاصة مع توفير قواعد الشرق الأوسط تفوق سلاحي الجو والبحرية الأمريكيين على منافسيهم التقليديين مجتمعين، وضمان تثبيت مدي عملياتي كبير للقوات الامريكية ينطلق من الخليج العربي ليصل إلى أفغانستان باستخدام الآلات العسكرية الاستراتيجية كقاذفات القنابل والفرقاطات الصاروخية وحاملات الطائرات.
ارهاصات الانسحاب.. تكلفة باهظة
في أكتوبر من العام 2011 أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق بارك أوباما عن بدء انسحاب القوات الامريكية من العراق وأفغانستان، وأوضح أن المهام القتالية للولايات المتحدة في العراق قد انتهت بعد ما وصلت أعداد الجنود الأمريكيين في العراق وافغانستان إلى ما يزيد عن 100 صيف العام 2011، وبالفعل بدأت الدفعات الأولي لعمليات الانسحاب في أواخر العام 2011، من بغداد وكابول، واستمرت حتي العام 2016. وفي هذه الفترة تقلصت أعداد القوات الامريكية بشكل كبير، حتي وصلت إلى 2500-5000 عنصر في كل بلد “العراق – أفغانستان”.
وتشير فترة 2011-2016 إلى وجود برنامج طويل الأجل لعمليات الانسحاب، بحيث أبقت على قوات مهام خاصة قتالية بجانب الدعم الفني والاستشاري والتدريبي والاستخباري للكيانات العسكرية الناشئة “الجيش العراقي – الجيش الافغاني”[7].
وما ميّز هذا الانسحاب عدة عوامل، أبرزها:
إبقاء الولايات المتحدة على أصول قتالية لها في بغداد وكابول.
الإطار الزمني الطويل لجدولة عمليات الانسحاب.
الحفاظ نسبياً على أمن البلدين أثناء عمليات الانسحاب.
انخراط القواعد العسكرية القريبة في عمليات الدعم اللوجيستي لعمليات الانسحاب ولاسيما قواعد الأردن والكويت وقطر.
تدشين حواجز عسكرية لمنع وصل الطرق البرية في إيران بالشريط الحدودي بين سوريا والعراق.
ومع وقع تجاذبات الداخل الأمريكي وتخطي نفقات البنتاغون في حروبه منذ العام 2001، مستوي الـ 14 تريليون دولار، وتعرض القوات الامريكية لهجمات دورية، ومع نمو مصادر الطاقة غير الاحفورية واكتشاف رواسب كبيرة من النفط والغاز خارج منطقة الشرق الأوسط وزيادة انتاج النفط والغاز داخل الولايات المتحدة، واتساع رقعة الإرهاب العابر للحدود وبزوغ جيله الجديد الأكثر فتكاً منذ تأسيس القاعدة في ثمانينات القرن المنصرم؛ تهاوت ذرائع التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة على مستوي صنع السياسات والرأي العام كذلك. حيث بدت حروب الشرق الأوسط الأبدية نموذجاً للتورط الأمريكي في حرب فيتنام، وخروجاً عن الطفرة التي حققتها عقيدة رونالد ريغان في وجود خطة معدة مسبقة للخروج من الحروب قبل دخولها وتوافر أهداف سياسية واضحة للحرب[8].
حيث وصلت فاتور الحرب في أفغانستان والعراق وتكلفة اعاشة القوات فيما يزيد عن 30 موقعاً بالمنطقة الممتدة من تركيا حتي الخليج، حوالي 8 تريليون دولار، علاوة على بروز تهديدات قادمة من مناطق بعيدة عن الشرق الأوسط، وتمثل في تهديد القرن بالنسبة للولايات المتحدة ويتمثل ذلك في الصعود الصيني، ومسارات التكامل الصيني الروسي في منطقة الاندو باسيفك وأوراسيا تحديداً.
وعليه، تسعي الولايات المتحدة لاستخدام كافة أصولها العسكرية لمواجهة هذه العودة “الدراماتيكية” بدلاً من الانكفاء حول تغيرات الوضع الأمني في الشرق الأوسط. وبدا التركيز الأمريكي يأخذ أشكالاً هيكلية وتنظيمية تمثلت في تكوين فريق خاص بالصين في كل من البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية، وتعزيز التحالفات الثنائية وتعميق العلاقات مع القوي الناشئة والتعامل مع المؤسات الإقليمية متعددة الأطراف وتوسيع الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الاندو باسيفيك[9].
وفي هذا الصدد تحول ثقل الآلة العسكرية الأمريكية إلى منطقة لطالما شغلت صناع السياسات في واشنطن منذ حقبة أوباما حيث تشكل المنطقة نصف اقتصاد العالم. كما صمم مخططو الاستراتيجية الامريكية بني تحتية سياسية مكونة من تحالفات وشراكات سياسية واقتصادية وعسكرية أحدثها تحالف “اوكوس” الذي غيّر ضمنياً من موازين القوي في جوانب الردع النووي وقدرة الضربة الثانية في هذه المنطقة.
ويأتي الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط في خضم معضلة “الوكيل الإقليمي”، إذ تعتمد واشنطن على محصلات التنافس الإقليمي بين القوي الرئيسية في المنطقة لإرساء معادلة امن إقليمية تمتلك فيها واشنطن قدرة ضبطها حصراً، الأمر الذي أدي إلى حصول القوي الإقليمية على استحقاقاتها المزمعة بطرق متباينة، منها محاولات فرض الامر الواقع واستخدام القوة العسكرية كإيران، ومحاولات المهادنة والمراوحة بين الشرق والغرب والتهدئة المرحلية في مناطق وفقاً للمصلحة كتركيا، ومحاولات الضغط عبر لوبيات كالإمارات وإسرائيل. ما افضي مزيداً من الفوضى في مجمل تفاعلات المنطقة خدمت إلى حد كبير قرارات الإدارات الامريكية الثلاث الأخيرة حيال الانسحاب الشامل.
واتخذ الانسحاب أشكالاً متباينة هو الاخر، حيث فُككت أنظمة الدفاع الجوي بعيد المدي (THAAD) والعديد من بطاريات بتاريوت في السعودية بعدما قامت بتنصيبها في أعقاب تعرض السعودية لهجوم نوعي بالطائرات المسيرة والصواريخ الجوالة على منشآتها النفطية بالعام 2019. فضلاً عن تفكيك للبني التحتية العسكرية كقاعدة باغرام في أفغانستان، وسحب جميع مكونات المهام القتالية من أفراد وعتاد من بغداد وكابول. كما شرعت واشنطن بخفض أنظمتها الدفاعية الجوية في العراق والكويت وفككت ايضاً بطاريات الباتريوت، ليصبح الدور الأمريكي في نقاط الانسحاب استشاري واستخباري فقط، مع التذكير بإمتلاك واشنطن قدرة التدخل العسكري ونشر قوة “ساحقة” في الشرق الأوسط[10]. فالبرغم من الانسحاب الأمريكي إلا أن إمكانات القوات الامريكية المحمولة جواً وقدرة سلاح الجو بالقيادة المركزية مازالت تغطي كافة ارجاء الشرق الأوسط بنفس الفعالية، ولكن بأعداد أقل بكثير من القوات على الأرض Boots on ground.
تداعيات الانسحاب الأمريكي من المنطقة
هناك مجموعة من التداعيات جراء تنفيذ واشنطن لانسحابها من المنطقة ويمكن ابرازها في الاتي:
- تعاظم التنافس بين الحلفاء على “الوكالة”: تتمتع واشنطن بوجود قائمة من الحلفاء الإقليميين الذين يتنافسون على “الوكالة” الأمريكية، أو القيام بمهام ووظائف القوات الأمريكية في المنطقة نظير الإقرار بأدوار إقليمية أكبر لهؤلاء. ويصل التنافس لمستويات التقنية العسكرية والشراكة الاستراتيجية والاقتصادية وأحياناً أخري المقايضة بتخفيف الارتباط مع القوي المناوئة لواشنطن او القيام بأدوار الوساطة معها. ويعتبر النموذج التركي أوضح صور التنافس بين الحلفاء على الوكالة، إذ تقايض أنقرة واشنطن بتخفيف العلاقات مع روسيا في مقابل الاعتراف بأدوارها في شرق المتوسط وسوريا وحتى الساحل والصحراء.
- التقاربات الإقليمية بين الأضداد: وفّر الانسحاب الأمريكي من المنطقة المحفز المناسب لتقارب جديد بين الخصوم الإقليميين، بعدما عزز الانسحاب من حتمية الاعتماد على الإمكانات الذاتية في حل الصراعات وتوفير متطلبات الأمن. وتشير محاولات التقارب السعودي الإيراني إلى هذا النموذج. إذ تريد السعودية وقف طاحون الحرب في اليمن والدفع بهدنة طويلة الأجل، فيما تستثمر إيران في استراتيجيتها الهجومية لتحييد قدرات السعودية في مصفوفة القوي المناوئة لطهران ولاسيما تركيا وإسرائيل.
- تطوير قدرات التكامل الدفاعي: وهو ما ظهر في تحركات قادة الخليج سواء داخل اطار مجلس التعاون الخليجي ومفاهيم قوة الدفاع المشتركة، وأيضاً ما ظهر في التقارب الإماراتي الإيراني، والسعودي التركي، والإماراتي التركي، والخليجي الإسرائيلي. حيث برهنت التحركات الخليجية الأخيرة على بداية الخروج من العباءة الأمريكية لتلبية المتطلبات الأمنية للمتغيرات السياسية وخاصة البرنامج النووي الإيراني[11].
- احتدام الصراع على خطوط الإمداد الإيرانية لسوريا ولبنان: تملك إيران خطوطاً برية تصل طهران ببغداد ودمشق وبيروت، ويمكن القول أن إيران أصبح لها رأس جسر على البحر المتوسط منذ اللحظة التي انتصرت فيها ميليشيات حزب الله في معركة القصير 2013، والقلمون 2017. وتسارع إيران لتخليق خطوط إمداد جديدة لها بعيداً عن الخط القديم “طهران بغداد البوكمال دمشق”، حيث بات هذا الخط يتعرض لغارات أمريكية وإسرائيلية صفّت بنيته التحتية الصاروخية بشكل كبير وهددت إيصال السلاح النوعي من طهران لشبكة الميليشيات الداعمة لها في سوريا تحديداً. وتقوم طهران منذ شهر مارس الماضي بمحاولة تدشين خط شمالي جديد يخفف الضغط عن خطها التقليدي الجنوبي واللجوء إلى البحر لإيصال الإمدادات بعدما تحول البحر لساحة اشتباك إيرانية أمريكية إسرائيلية. ويمر هذا الخط بسنجار ثم القامشلي والحسكة، وهو ما يفسر الضربات التي نفذتها مليشيات إيرانية ضد اهداف عسكرية تركية بالشمال العراقي خلال الأشهر التسع الماضية[12].
- اتساع رقعة نشاط التنظيمات المسلحة لملء الفراغ: يتزامن الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط بانسحاب فرنسي من منطقة الساحل والصحراء، وهي منطقة فرعية للإقليم لكنها ترتبط عضوياً بما يدور بإقليم الشرق الأوسط وخاصة بعدما نفذت الجماعات المسلحة والارهابية عمليات إعادة تموضع وانتشار من بعد زوال مركزية ورمزية تنظيم داعش الإرهابي في سوريا. وتسعي هذه الجماعات للاستثمار في حالة الفراغ الأمني الذي خلفته مغادرة الأصول العسكرية لواشنطن وباريس. وما يعزي ذلك تحول إقليم الساحل والصحراء كثاني أكثر إقليم تعرضاً للعمليات الإرهابية وفق احصائيات معهد السلام بسيدني، كما سجلت كل مناطق العالم انخفاضاً في ضحايا الإرهاب ما عدا ثلاثة مناطق من ضمنها افريقيا جنوب الصحراء. وابتعداً عن افريقيا، وعلى الرغم من تثبيت دعائم الدولة الوطنية في العراق إلا ان التنظيمات الولائية التابعة لإيران قد زادت من نشاطها في استهداف القوات الامريكية في قواعد أربيل وعين الأسد تحديداً للضغط على واشنطن ضمن سياقات الصراع بين طهران وواشنطن في الملف النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية ودعم الوكلاء المليشياويين. وتحاول هذه التنظيمات من شغل مساحة الفراغ الأمني حتى بعيداً عن سياقات الصراع الأمريكي الإيراني، ودخولاً في الضغط على مشروع الدولة الوطنية العراقية لإفشاله.
- تثبيت واشنطن لنقاط وقواعد في شرق سوريا: تمثل سوريا بمثابة حائط أخير أمام الزحف الإيراني باتجاه شرق المتوسط، وتثبت الولايات المتحدة نقطتين رئيسيتين في شرق سوريا لضبط حركة المرور من وإلى الحدود السورية العراقية، ومنع إيران من تثبيت بني تحتية عسكرية لها في سوريا وخاصة قواعد اطلاق الصواريخ الباليستية.
وهاتين النقطتين:
- قاعدة التنف – البوكمال.
- قاعدة رميلان في اقصي شمال شرقي سوريا.
وما بين هاتين القاعدتين توجد ما لا يقل عن 20 قاعدة ونقطة عسكرية أمريكية تشغل غالبية منطقة الجزيرة السورية، لتصبح أشبه بمثلث دير الزور الحسكة الرقة، وهو مثلث يضم المكون العسكري الكردي وكذلك حقول النفط والغاز. ويعتبر الانسحاب الأمريكي من سوريا بمثابة فتح الطريق أمام تركيا وايران وروسيا للاستئثار بالميدان السوري وخطوط إمداده بما يهدد المصالح الأمريكية على نحو خطير، يتمثل في اقلها من تمكين إيران تعزيز أوراق تفاوضها مع الجانب الأمريكي، وتدعيم وزنها بالمنطقة أمام الكتلة العربية وتركيا. وخاصة إذا ما نظرنا لاسلوب التغلغل الإيراني لمناطق سوريا ثقافيا وتعليميا ودينياً.
وختاماً، يمثل الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط تغيراً في العقيدة الامريكية السائدة من حقبة بوش الابن. إلا ان الانسحاب لا يشكل في مجمله اقتلاعاً للقدرة العسكرية الامريكية بالمنطقة – حيث مازالت تتمتع واشنطن بتفوق عسكري كبير – ولكنها إعادة استثمار للأصول العسكرية في منطقة جديدة كجنوب الباسيفيك في وقت باتت تتفوق فيه فيه بكين على صعيد التخطيط الاندماجي عالي التعقيد وتمهيد المناطق المجاورة اقتصاديا لطريق الحرير الذي يشكل احتمالية لبروز مؤشرات لانقضاء عصر القطب الأحادي الأمريكي، إلا ان التفوق التقني الغربي وفي مجال القوة النووية قد أضفي بظلاله على المنطقة من خلال تحالف أوكوس الذي بدأ للتو سجالاً كبيراً ستنخرط فيه عقول ومخططو الاستراتيجية العسكرية بشكل قد يفوق محصلة العقدين الماضيين.
[1] Costs of war, the Watson institute for international and public affairs, brown university: https://watson.brown.edu/costsofwar/
[2] المرجع السابق.
[3] U.S. Military to Withdraw Hundreds of Troops, Aircraft, Antimissile Batteries From Middle East, the wall street journal by Gordon Lubold, Nancy A. Youssef and Michael R. Gordon: https://www.wsj.com/articles/u-s-military-to-withdraw-hundreds-of-troops-aircraft-antimissile-batteries-from-middle-east-11624045575
[4] The Vietnam War, bbc: https://www.bbc.co.uk/bitesize/guides/zv7bkqt/revision/2
[6]5 CHAPTER TWO Overview of the Current Airborne Force, Enhanced Army Airborne Forces: A New Joint Operational Capability, RAND Corporation: https://www.jstor.org/stable/10.7249/j.ctt14bs1w5.10?seq=1#metadata_info_tab_contents
[7] بايدن يعلن الانسحاب من أفغانستان ويقول حان الوقت لإنهاء أطول حرب أمريكية، رويترز: https://www.reuters.com/article/usa-afghanistan-withdrawal-ar6-idARAKBN2C10UJ
[8] The Middle East Just Doesn’t Matter as Much Any Longer, carnegieendowment, by AARON DAVID MILLER, RICHARD SOKOLSKY: https://carnegieendowment.org/2020/09/03/middle-east-just-doesn-t-matter-as-much-any-longer-pub-82653
[9] U.S. Policy toward the Indo-Pacific: The Case for a Comprehensive Approach, Council on Foreign Relations, Richard Haass: https://www.cfr.org/report/us-policy-toward-indo-pacific-case-comprehensive-approach
[10] وزير الدفاع الأمريكي يؤكد قدرة بلاده على نشر «قوة ساحقة» في الشرق الأوسط، بوابة الأهرام: https://gate.ahram.org.eg/News/3142081.aspx
[11] The Gulf states have a plan for Iran, the national news: https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2021/12/12/the-gulf-states-have-a-plan-for-iran/
[12] خطوط التماس: تصادم تركي إيراني في العراق.. ماذا يحدث؟، المرصد المصري، محمد حسن: https://marsad.ecss.com.eg/52109/
.
رابط المصدر: