مسلم عباس
بعد أسابيع قليلة من زيارة وفد عراقي رفيع يرأسه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى واشنطن، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، الأربعاء (9 اب أغسطس 2020)، تخفيض عديد قواتها في العراق واقتصارها على عدد منخفض لمهام “استشارية”، إذ قال قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال فرانك ماكنزي في تصريح لشبكة “سي أن أن” إن “الإدارة الأميركية قررت تخفيض عدد القوات في العراق من 5200 إلى 3000 في شهر أيلول الجاري”.
وبينما تنسحب القوات الأميركية تشن القوات العراقية حملات يومية من شمال العراق إلى جنوبه تستهدف أوكارًا للجماعات الإرهابية في المناطق الغربية مركزة على أنشطة تنظيم داعش الإرهابي، بينما تواجه القوات الأمنية العراقية تحديات فعلية في جنوب العراق متمثلة بوجود أكثر من مجموعة مسلحة فضلًا عن السلاح العشائري وغيره من النشاط شبه العسكري التي تجري خارج سيطرة الدولة.
لكن ماكنزي له رأي مختلف كما هو رأي الإدارة الأميركية التي ترى إن خفض القوة يرجع إلى “التقدم الكبير الذي حققته القوات العراقية وبالتشاور والتنسيق مع حكومة العراق والتحالف الدولي”، ماكنزي أشار إلى أن “القوة المنخفضة (من القوات الأميركية) تسمح بمواصلة تقديم المشورة والمساعدة لشركائنا العراقيين في استئصال البقايا الأخيرة لداعش في العراق وضمان هزيمته الدائمة”.
في الواقع لا يتعلق الانسحاب الأميركي بالواقع المحلي وتعقيداته الأمنية، إنما يرتبط بالحسابات الأميركية، وتحديدًا حسابات الرئيس دونالد ترامب الإنتخابية، فهو انسحاب أميركي من العراق وأفغانستان على حد سواء، وفي هذا الصدد يقول مسؤول كبير في تصريحات لوسائل إعلام أميركية (9 ايلول 2020)، إن “الرئيس سيعلن عن سحب مزيد من القوات الأميركية من العراق اليوم الأربعاء” كما إن “هذا الإعلان سيتبعه إعلان آخر في الأيام المقبلة بشأن خفض إضافي للقوات الأميركية في أفغانستان”.
فالرئيس الأميركي دونالد ترامب يرى إن التواجد في العراق يمثل خسارة اقتصادية لبلاده، ويستنزف طاقتها العسكرية، ولو كان الأمر يتعلق فعلًا بتحسن الوضع الأمني، لم تخرج القوات الأميركية في العراق في هذا التوقيت تحديدًا، إذ إن العراق يشهد هذه الأيام هجمات شبه يومية على القوات الأميركية وسفارة واشنطن ومطار بغداد الدولي، بالإضافة إلى الاستهداف المتكرر لقوافل الدعم اللوجستي للقوات الأميركية في جنوب العراق، فأين الوضع الأمني المستقر الذي تتحدث عنه الإدارة الأميركية؟
العراق يعاني من مشكلات متصاعدة في المجال الاقتصادي ووضعه في هذا الجانب مُنهار تمامًا ولا يستطيع حتى دفع رواتب الموظفين ما دفع الحكومة إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لسد النقص في الرواتب فقط، الوظائف وفرص العمل شبه معدومة، ما يجعل الشباب عرضة للتجنيد في الجماعات المسلحة بمختلف توجهاتها.
الحكومة ما تزال غير قادرة على تحديد الجهات التي تقوم بعمليات الاغتيالات المستمرة منذ عدة أشهر، اغتيالات من مستويات مختلفة من الناشطين السياسيين والمنتمين للأحزاب والمواطنين، وعدم تحديد القتلة له دلالات خطيرة جدًا فربما هناك جهات محلية أو حتى دولية تقوم بزعزعة الاستقرار في البلاد، ولا سيما مع استمرار الصراع الدولي على أرض بلاد الرافدين، فقد توج الصراع باغتيال واشنطن لرئيس هيأة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، وجاء الرد الإيراني على شكل ضربات صاروخية ضد القواعد الأميركية غربي العراق وشماله.
كل هذه التعقيدات لم تُحل بعد، إنما ازدادت وتراكمت خلال الأشهر الماضية وحتى الآن، وتحديدًا منذ انتخاب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي اعتبر تتويجًا للجهود الأميركية الساعية إلى تقليص النفوذ الإيراني في العراق، إذ ترى طهران إنها خسرت الكثير في العراق خلال عام 2020 والانسحاب الأميركي لو حدث فعلا قد يكون فرصتها لاستعادة قوتها ونفوذها.
ولا يمكن لطهران ان تستعيد نفوذها في المساعي السياسية فقط، بل تعودنا على استخدامها للجماعات المسلحة الموالية لها لتعديل التوازنات السياسية في العراق، وتأكيد تفوقها على حساب التواجد الأميركي، والسؤال هنا هل أن الولايات المتحدة الأميركية لا تعلم بهذه الرغبة الايرانية وتأثيرها على استقرار العراق؟ أليس الصراع الأميركي مع إيران هو التهديد الفعلي لاستقرار وسيادة البلد؟
لا توجد إجابة شافية من الجانب الأميركي، وتخفيض عدد قواتها لا يعني إطلاقًا توقفها عن الصراع مع إيران واجنحتها المسلحة داخل العراق، بل أن الانسحاب لا يتعدى حدود خطط الرئيس دونالد ترامب وحساباته السياسية والاقتصادية والانتخابية، والعراق خارج حسابات الاستقرار وخارج حسابات السيادة أيضا، التهديد الفعلي يأتي من صراع القوى الإقليمية والدولية وهذا لا يتوقف مع تخفيض الجنود إنما بالمصالحة الدولية والتأكيد التام على سيادة الأراضي العراقية وعدم تدخل الجميع فيها.
رابط المصدر: