لم يكن القرار الفرنسي المعلن عنه بتاريخ 17 فبراير/شباط 2022، والقاضي بالانسحاب من مالي مفاجئًا؛ فقد سبق وأن هدَّد الرئيس إيمانويل ماكرون بذلك عقب الانقلاب العسكري في مالي في مايو/أيار 2021(1). ومع ذلك، فقد أحدث القرار دويًّا كبيرًا في سياق أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين. فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي تعتبر مالي ومنطقة الساحل ساحة نفوذ جيوسياسي لها، وقد برَّرت باريس قرار الانسحاب استنادًا إلى حجتين: رفض التعامل مع سلطة عسكرية تسعى للبقاء في السلطة، واعتراضها على وجود قوات فاغنر الروسية(2). وكلتا الحجتين تحوم حولهما الكثير من الشكوك؛ لأن فرنسا لا تجد حرجًا في دعم حكومات مماثلة في منطقة الساحل كانت قد وصلت إلى السلطة بنفس الطريقة، وعلى سبيل المثال تشاد وبوركينافاسو(3).
يعود التدخل العسكري لفرنسا في مالي إلى يناير/كانون الثاني 2013، بحجة استعادة المدن الرئيسية في شمال البلاد، والتي كانت قد سقطت في قبضة جماعات مسلحة متحالفة مع حركات الطوارق. وقد حرصت فرنسا على تعبئة دعم إفريقي وأممي لقرارها بالتدخل، من خلال تدويل الأزمة التي صدر بشأنها قرار مجلس الأمن رقم 2085 الصادر في 20 ديسمبر/كانون الأول 2012، يقضي بإنشاء قوة دولية لدعم مالي(4). استنادًا إلى ذلك، أرسلت فرنسا قوات عسكرية في إطار عملية “الهر الوحشي” (Opération Serval)، لدحر الجماعات المتطرفة واستعادة مدن الشمال مثل تمبكتو وكيدال، وهي الأهداف التي تحققت خلال أقل من شهر. لكن الرئيس الفرنسي يومئذ، فرانسوا هولاند، والذي زار مالي للاحتفاء بالنصر، صرَّح بأن قوات بلاده ستظل في البلاد لأن “التهديد حقيقي”، ولأن مهمة فرنسا “لم تنته بعد” بطرد الجماعات المسلحة خارج المدن المحررة(5).
تمكنت مالي، في صيف 2013، من تنظيم انتخابات رئاسية، أوصلت إبراهيم بوبكر كيتا إلى السلطة، ثم أعيد انتخابه في صيف 2018، لكن انتخابه للمرة الثانية أثار ردود فعل رافضة من لدن أحزاب المعارضة وقوى مدنية، لتبدأ إثر ذلك متاعب الرئيس كيتا وفرنسا معًا، والتي تعمقت بفعل هجمات إرهابية شملت العاصمة باماكو، فضلًا عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للناس، وهو ما دفع إلى احتجاجات تصاعدت عقب الانتخابات التشريعية في ربيع 2020. كل تلك التطورات دفعت أحزاب المعارضة والمجتمع المدني وهيئات إسلامية إلى تشكيل ائتلاف “حركة 5 يونيو- تجمُّع القوى الوطنية في مالي”(6)، التي قادت مظاهرات طالبت بحل البرلمان واستقالة الرئيس، ووفرت البيئة المناسبة لانقلاب 18 أغسطس/آب 2020، الذي أعقبه انقلاب ثان في 24 مايو/أيار 2021، عجَّل بتداعي الوجود العسكري الفرنسي بشكل لافت للنظر، كما أنه انتهى بقرار سحب القوات الفرنسية من مالي، كما سبقت الإشارة إليه؛ لإعادة نشرها في منطقة الساحل، في ظل تزايد نفوذ قوى دولية أخرى، مثل روسيا والصين.
في ضوء ذلك، تسعى هذه الورقة إلى تحليل خلفيات القرار الفرنسي في سياق تحولات القوى داخل مالي وفي منطقة الساحل، والتي تتسم بدرجة مرتفعة الحدة من عدم استقرار تغذِّيه هشاشة دول المنطقة، وتنامي التهديدات من لدن قوى لا دولتية. وتفترض هذه الورقة أن تغييرات في موازين القوى داخل مالي وفي منطقة الساحل وتوفُّر بدائل عسكرية تقدمها روسيا قد دفع فرنسا إلى إجراء حسابات جديدة، وهو ما جعلها تقوم بتقليص حضورها العسكري المباشر، مع إعادة التمركز في مناطق النفوذ الأكثر حيوية لها مثل النيجر، مع التخلي عن المناطق الأقل أهمية لها مثل مالي.
أولًا: تحولات القوى في مالي ومنطقة الساحل
شرع الوجود العسكري الفرنسي في التداعي بمالي منذ الانتخابات الرئاسية، في أغسطس/آب 2018، التي تسببت نتائجها في أزمة سياسية عميقة، وأدَّت إلى تحولات في ميزان القوى داخل مالي، بالتزامن مع تحولات مماثلة في منطقة الساحل، تجلَّت في بروز قوى دولية جديدة، مثل روسيا والصين، توفر بدائل عسكرية واقتصادية، وتمارس إغراء على النخب الجديدة في المنطقة.
ففي مالي، أدت نتائج الانتخابات الرئاسية إلى أزمة سياسية حادة؛ أحد أطرافها النظام السياسي برئاسة بوبكر كيتا المدعوم من قبل فرنسا من جهة، وقوى المعارضة السياسية المدعومة شعبيًّا ومدنيًّا من جهة ثانية. الصراع بين الطرفين، غذَّته عدَّة عوامل، منها هجمات الجماعات الإرهابية التي استهدفت المدن بالقتل والتدمير، علاوة على تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد الذي تفاقم بسبب جائحة كورونا. وقد دفع ذلك قوى المعارضة إلى المطالبة باستقالة الرئيس، وإحداث تغيير سياسي في نظام الحكم، من خلال تعبئة الناس للاحتجاجات المستمرة، التي أدت في أبريل/نيسان 2019 إلى إجبار الرئيس بوبكر كيتا على إقالة الوزير الأول، استجابة لضغوطات الشارع(7).
وفي يونيو/حزيران 2020، أعلنت المعارضة عن تأسيس “حركة 5 يونيو- تجمُّع القوى الوطنية”، للمطالبة بإسقاط النظام الحاكم، وبإجلاء القوات الفرنسية عن البلاد، وقد لجأت إلى الضغط الشعبي من أجل فرض إرادتها السياسية، وقد تصاعد حدَّ الإعلان عن عصيان مدني، تخلَّلته مواجهات مع قوى الأمن، أدَّت إلى سقوط قتلى وجرحى، واحتلال مؤقت لمقر البرلمان ومقر التليفزيون العمومي لإجبار الرئيس كيتا على الاستقالة، وهي الأوضاع التي عمَّقت من الأزمة السياسية في البلاد، ووفرت الظروف لتمرد في الجيش أدى إلى انقلاب عسكري، في 18 أغسطس/آب 2020، وتشكيل مجلس عسكري أجبر الرئيس كيتا على الاستقالة، لكنه تعرض لضغوط هائلة من قبل فرنسا ودول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس)، كي يقود المدنيون المرحلة الانتقالية(8).
على أن تراجُع المجلس العسكري أمام الضغوط الفرنسية والإقليمية قد دفع حركة 5 يونيو المعارِضة إلى رفض خارطة الطريق المعلنة التي حددت الفترة الانتقالية في 18 شهرًا، بقيادة رموز مدنية من النظام المخلوع. وقد اعتبرت الحركة أن خارطة الطريق المعلنة لا تعكس تطلعات الشعب المالي الذي خرج في مظاهرات للإطاحة بالرئيس المخلوع بوبكر كيتا ومعاونيه، مؤكدة أن ما حصل ينطوي على سعي من العسكريين الجدد لاحتكار السلطة(9)، وقد واصلت الحركة الضغط على الحكومة الانتقالية، وهو ما أدى إلى انقلاب ثان في 24 مايو/أيار 2021، من لدن المكوِّن العسكري بقيادة العقيد عاصمي كويتا ضد المكوِّن المدني بقيادة الرئيس الانتقالي، باه نداو، ليفسح المجال أمام تحالف جديد بين العسكريين ومكونات حركة 5 يونيو في السلطة الجديدة، وهو التحالف الذي رفضته فرنسا(10).
ما حصل عقب الانقلاب الثاني، هو تتويج لعملية تغيير عميقة في ميزان القوى داخل مالي، أدت إلى إبعاد النخب التقليدية في الحكم -بعضهم حلفاء لفرنسا- وتعويضها بنخب جديدة في موقعين على الأقل: داخل المؤسسة العسكرية؛ حيث تصدر ضباط شباب، بقيادة عاصمي كويتا، مراكز القرار العسكري؛ وداخل مراكز المؤسسات المدنية؛ حيث تصدرت قيادات ائتلاف 5 يونيو المشهد السياسي والمدني، وأبرزهم الإمام محمود ديكو. وبين ديكو وكويتا علاقات قوية، تعود إلى سنة 2012، حين تولى الإمام ديكو التفاوض مع جماعات مسلحة في شمال مالي، كانت قد أسرت قيادات عسكرية من بينها كويتا، وأفرجت عنهم استجابة لتدخلات الإمام ديكو، رمز الإسلام الوسطي المعتدل في مالي.
وفي يناير/كانون الثاني 2013، اصطدم العقيد كويتا بالجيش الفرنسي، على خلفية منع هذا الأخير للجيش المالي من دخول مدينة كيدال، بعدما حرَّرها من جماعات متطرفة. الواقعة أثارت امتعاضًا قويًّا في صفوف النخب العسكرية والمدنية المالية على السواء، لتبدأ علاقات غير ودية، كانت وراء الكشف عن حقائق مثيرة في العلاقات مع فرنسا، منها أن مالي لم تطلب من فرنسا، سنة 2013، قوات برية، بل طلبت دعمًا استخباراتيًّا وتغطية جوية فقط، وحين جرى طرد الجماعات المتطرفة والمسلحة خارج مدن شمال مالي، نسبت فرنسا النصر العسكري لقواتها، في تجاهل واضح لدور الجيش المالي على يد قيادات ميدانية منها عاصمي كويتا، ويبدو أن هذه الوقائع هي التي دفعت كويتا وزملاءه إلى إعادة التفكير في سياسات بلادهم تجاه فرنسا، من خلال وضع ترتيبات جديدة أدت إلى تغيير في النظام السياسي، وفسح المجال أمام نخب جديدة تشترك في رفض الوجه الاستعماري لفرنسا(11).
كانت فرنسا تدرك ما اقترفته من أخطاء في مالي، ولئن اعترفت بالسلطة الانتقالية عقب انقلاب أغسطس/آب 2020، فقد فعلت ذلك بعد تعيين مدنيين من النظام المخلوع على رأسي الدولة والحكومة معًا، هما: الرئيس الانتقالي، باه نداو، ورئيس الحكومة الانتقالية، المختار وان، في أفق العمل على إبعاد القادة العسكريين المسؤولين عن الانقلاب المذكور، وهو ما حصل في أول تعديل حكومي(12) جرى في 24 مايو/أيار 2021، بإقالة عضوين من المجلس العسكري، هما: وزير الدفاع، ساديو كامارا، ووزير الأمن، موديبو كوني، وتعيين عسكريين آخرين من خارج المجلس مكانهما، وهي الخطوة التي ردَّ عليها قادة المجلس العسكري في اليوم نفسه، بتنفيذ انقلاب ثان أزاح كلًّا من الرئيس الانتقالي ورئيس حكومته، والإعلان عن تشكيل سلطة انتقالية يقودها العسكريون بمشاركة حركة 5 يونيو.
إثر تعيين الحكومة الجديدة عقب الانقلاب الثاني، أبلغتها فرنسا، في 3 يونيو/حزيران 2021، بقرار سحب قواتها العسكرية، وقد عيَّنت الجنرال لوران ميشون مكلَّفًا بمهمة الانسحاب التدريجي من مالي خلال سنة واحدة. بدأت باريس بالانسحاب من قواعد عسكرية في مدن الشمال مثل تمبكتو وكيدال، نحو الجنوب في اتجاه المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، وتقليص عدد الجنود من 5 آلاف إلى أقل من 3 آلاف جندي، وهي الخطوات التي أغضبت الحكومة الجديدة في مالي، التي اتهمت فرنسا رسميًّا بالتخلي عنها في “منتصف الطريق”(13)، لكن فرنسا رفضت التهمة بشدة، ثم تصاعدت الأزمة بين البلدين، ووصلت إلى حدِّ طرد السفير الفرنسي من مالي، جويل ميير، في خطوة غير مسبوقة بين البلدين(14). وفي 17 فبراير/شباط 2022، أعلنت فرنسا الشروع في سحب قواتها من مالي، نحو دول الجوار في منطقة الساحل، وأبرزها النيجر وبوركينافاسو.
إن جرأة القيادة الجديدة في مالي ضد فرنسا، لا يمكن فصلها كذلك عن تغييرات عميقة في ميزان القوى تجري في منطقة الساحل؛ ذلك أن الحضور المتزايد لقوى دولية مثل روسيا والصين، أتاح اختيارات بديلة أمام النخب السياسية والعسكرية في دول المنطقة. ففي سنوات 2015 و2016 و2017، أبرمت روسيا اتفاقات عسكرية مع مالي وإفريقيا الوسطى والنيجر على التوالي، وفي يونيو/حزيران 2021، أبرمت اتفاقًا مماثلًا مع موريتانيا، أقوى مضامينها تسهيل ولوج دول منطقة الساحل إلى سوق السلاح الروسية(15)، علاوة على تيسير إبرام اتفاقات مع شركة “فاغنر” للاستشارات الأمنية، التي نشرت قواتها في إفريقيا الوسطى منذ يوليو/تموز 2018، ويبدو أنها تمارس إغراء قويًّا على دول أخرى في الساحل، باعتبارها بديلًا متاحًا عن القوات الفرنسية في المنطقة(16).
ثانيًا: قرار الانسحاب في ضوء الحسابات الجديدة لفرنسا في الساحل
لقد أسهمت أخطاء فرنسا في مالي في تغيير موازين القوى داخل البلد، ويبدو الأمر لحد الآن في صالح مناهضي الوجود العسكري الفرنسي، لكن لا يبدو ذلك كافيًا لتفسير قرار الانسحاب بما له من تداعيات على النفوذ الفرنسي في المنطقة. وعلى الأرجح، يبدو أن هناك حسابات جديدة لفرنسا في منطقة الساحل ككل، ويمكن تفسيرها أساسًا في ضوء النفوذ المتزايد للقوى الدولية المنافسة لها، مثل روسيا والصين.
ومن المؤكد أن الوجود العسكري الفرنسي في مالي لم يحقق كل أهدافه. وإذا كانت عملية “الهر الوحشي” (Opération Serval) لسنة 2013، أدت إلى طرد جماعات مسلحة خارج مدن شمال مالي، إلا أن تلك الجماعات سرعان ما أعادت تنظيم نفسها، بل إنها عززت من تحالفاتها مع جماعات إرهابية دولية وأخرى محلية، تحت اسم “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، والتي وسَّعت من أنشطتها لتشمل دول منطقة الساحل ككل. حاولت فرنسا ملاحقة هذا التحول، من خلال إطلاق عملية عسكرية ثانية “برخان”، وتعني الكثبان المتحركة (Barkhane) سنة 2014، لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل ككل، من خلال توحيد عمليات “سرفال” في مالي، و”الباشق” في تشاد، و”السيف” في بوركينافاسو، بمجموع 4500 جندي، مع رفع العدد إلى 5100 جندي، إلا أن ذلك لم يمنع من تحول المنطقة إلى بؤرة للإرهاب في العالم، ففي 2015، انضمت جماعة “بوكو حرام” إلى تنظيم داعش، وتشكيل “تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية غرب إفريقيا”. أمام استمرار تدهور الوضع الأمني في الساحل، وتزايد اعتماد بعض دول المنطقة على روسيا، سعت الدول الأوروبية إلى نجدة فرنسا، من خلال عملية “تاكوبا” ومعناها السيف (Tacuba)، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، التي تضم قوات خاصة من عدة دول أوروبية(17).
لكن رغم الدعم الأوروبي لفرنسا، فقد أعلن رئيس أركان الجيوش الفرنسية، فرانسوا لوكوانتر، في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، عن رغبة جيشه في الانسحاب من الساحل. إلا أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، رفض ذلك، وقال في قمة مجموعة دول الساحل، بتاريخ 16 فبراير/شباط 2021: إن “التسرع في الانسحاب الفرنسي من الساحل سيكون خطأ”. وكان تصريح ماكرون أولَ تراجع رسمي معلن عن تصريحات مسؤولين فرنسيين، أيدوا الانسحاب الفرنسي من الساحل، خصوصًا عقب انتكاسات عملية “برخان”، التي كبَّدت فرنسا مقتل 50 عسكريًّا. على أن تراجُع الرئيس الفرنسي جرى تفسيره بوعود أميركية حول “تنشيط التعاون الأطلسي” في الساحل، ودعم “القوات المشتركة في الساحل”، بإدراجها ضمن البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، حتى تحصل على التمويل الدائم(18).
وخلال القمة المذكورة، قررت فرنسا رفع عدد الجنود الفرنسيين في الساحل من 4500 إلى 5100، بـ600 جندي، والتزام تشاد بنشر 1200 جندي على الحدود بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، وتأجيل التفكير في الانسحاب العسكري الفرنسي من الساحل، وهي القرارات التي تضمنها البلاغ الصادر عن القمة(19). لكن اللافت للانتباه، أنه بعد شهرين على اتخاذ هذه القرارات، ستعلن فرنسا، بشكل مستعجل عن قرار الانسحاب من مالي، ووقف التعاون العسكري مع باماكو، في رد فعل مباشر وسريع على الانقلاب الثاني، الذي أطاح بالسلطة المدنية الانتقالية، التي حل محلها العقيد عاصمي كويتا رئيسًا انتقاليًّا للدولة، بدعم وتحالف مع “حركة 5 يونيو” التي تترأس الحكومة في شخص شوغيل كوكالا مايغا.
في هذا السياق، لا يبدو قرار فرنسا سحب قواتها من مالي لإعادة نشرها في منطقة الساحل تعبيرًا عن أزمة غير مسبوقة بين البلدين فقط بسبب الانقلاب العسكري أو غيره، بل يعكس، على الأرجح، وجود حسابات جديدة لدى فرنسا، لم تتضح كل أبعادها حتى الآن، لكن المؤشرات المتاحة تُسعف في القول بأن الهدف هو إعادة التمركز بشكل أفضل في المناطق الأكثر حيوية لنفوذها، مثل النيجر وخليج غينيا، في مقابل تخفيف وجودها العسكري في المناطق الأقل أهمية بالنسبة لمصالحها، مثل مالي. ويبدو أن النيجر ستكون نقطة الارتكاز في استراتيجية فرنسا الجديدة في دوائر كمنطقة الساحل، وكخليج غينيا الغني بالنفط والغاز.
وضمن الحسابات الجديدة لفرنسا:
- أولًا: تقليص الوجود العسكري في الميدان، سواء من حيث العدد؛ حيث قررت تخفيض عدد القوات من 5100 جندي إلى أقل من 2500 جندي في أفق نهاية 2023، وإعادة توزيع تلك القوات في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو.
- ثانيًا: الاعتماد أكثر على القوات الأوروبية الخاصة “تاكوبا”، والتي مهمتها منوطة بالتدريب والتأهيل والتعاون مع الجيوش المحلية، وبعبارة وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي: تعتزم فرنسا الانتقال من “عملية عسكرية إلى آلية للتعاون”(20)؛ وهو ما يعني أن باريس تبني خطة أمنية تقوم على القيادة من الخلف في مواجهة الجماعات الإرهابية في الساحل، بدل تصدر المواجهة الميدانية، كما فعلت في مالي، وهو الأمر الذي جعلها موضوع انتقادات قوية وصلت إلى حدِّ مطالبتها بالانسحاب.
- ثالثًا: الوجود بالقرب من مصالحها الحيوية، فإعادة توزيع قواتها في منطقة المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينافاسو، يشير إلى أن فرنسا تريد من قواتها أن تكون قريبة من مناجم “اليورانيوم”، والنفط والغاز، ومناجم الذهب في النيجر، للحماية والحراسة سواء من الجماعات الإرهابية أو القوى المناوئة للوجود الفرنسي في المنطقة.
لقد استغلت فرنسا حدث الانقلاب العسكري في مالي لإعادة النظر في استراتيجيتها العسكرية في منطقة الساحل بعد أن اقتنعت بأن الحل العسكري التقليدي لا يمكنه حسم المعارك ضد جماعات إرهابية تشتغل بمنطق مختلف، وتستغل بدورها حالة العداء الشعبي للقوة الاستعمارية السابقة. وستُعيد فرنسا تركيز قواتها، بدعم أوروبي، قرب المناطق الأكثر حيوية لمصالحها ومصالح الغرب، وهي تدرك أن الانسحاب سيفسح المجال أمام النفوذ الروسي والصيني للتنامي أكثر في منطقة الساحل، كما تدرك محدودية قدرات الجيوش المحلية على تأمين الاستقرار والأمن في بلدان الساحل. وهذا يعني فسح المنطقة أمام تنافس فوضوي، ستكون تداعياته وخيمة في المستقبل.
خاتمة
يكشف قرار فرنسا سحب قواتها العسكرية من مالي عن ديناميات جديدة في منطقة الساحل، يمكن تفسيرها بنوعين من الأسباب: أسباب هيكلية، مثل عجز الدولة عن القيام بوظائفها التقليدية في استتباب الأمن وتوفير الحاجيات الضرورية لمواطنيها؛ وأسباب سياسية، من أبرزها تحول المنطقة إلى بؤرة للإرهاب العالمي والمحلي (تنظيم القاعدة، تنظيم الدولة، تنظيمات محلية ذات صبغة عرقية)، الوضع الذي استقطب مزيدًا من التدخل الأجنبي، سواء التقليدي منه كما تمثله فرنسا والغرب، أو المستجد كما تمثله روسيا والصين. وهي ديناميات يبدو أنها وراء التغيرات الحاصلة في موازين القوى داخل مالي، وفي منطقة الساحل ككل، بحيث تدفع النخب المحلية، سواء العسكرية أو المدنية، إلى إعادة النظر في حساباتها السابقة، بما في ذلك تحالفاتها التقليدية مع فرنسا، خصوصًا مع توافر بدائل أخرى، مثل روسيا والصين.
إن هذه الديناميات نفسها استغلتها فرنسا من أجل إعادة التموقع الاستراتيجي، من خلال إعادة ترتيب أولوياتها بدقة، أخذًا بعين الاعتبار محدودية قدراتها الاقتصادية للوجود في كل مكان، وتنامي الدور الروسي والصيني عسكريًّا واقتصاديًّا، ناهيك عن تزايد حالة العداء المحلي ضد الوجود العسكري لفرنسا بوصفها قوة استعمارية سابقة، وهي اعتبارات لا شك أنها وراء إعادة تحديد ما تعتبره مصالح حيوية لها في المنطقة، وما لا تعتبره كذلك ويمكن التخلي عنه لآخرين، بما فيهم روسيا والصين، ما يجعلها تظهر وكأنها تتفاعل إيجابيًّا مع التوجهات المحلية الرافضة لها، بينما الأمر يتعلق باستراتيجية جديدة لتحصين نفوذها التقليدي.
.
رابط المصدر: