جيمس ستافريديس
عندما كنت أشغل منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي، كانت هناك مهمة تدريبية صغيرة لقواتنا في العراق، وكانت إدارة الرئيس باراك أوباما في خضم تقليص الوجود العسكري الهائل للقوات الأميركية في العراق، الذي بلغ ذروته بوصول القوات إلى 170 ألف جندي آنذاك.
ولقد قمت بزيارة العاصمة بغداد، وعقدت اجتماعاً مطولاً مع الجنرال بوب كاسلين المكلف إدارة المهمة هناك. ولقد شدد الجنرال كاسلين على إمكانية تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق بنسبة 90 في المائة – وهذا ما حققناه بالفعل – ولكن كان من الحكمة العسكرية الاحتفاظ بحد أدنى من القوات يبلغ 15 ألف جندي في العراق من أجل الحفاظ على استقرار البلاد مع مواجهة النفوذ الإيراني في البلاد. ومما يؤسف له، أن إدارة الرئيس الأسبق أوباما واصلت عملية انسحاب القوات الأميركية، ومع مرور الوقت أسهم تقلص الوجود العسكري الأميركي في العراق في صعود مخاطر تنظيم «داعش» الإرهابي، مع توسع نفوذ جمهورية إيران الإسلامية هناك في أوساط الحكومة والجيش العراقي.
وانتهى الأمر بالوجود العسكري الأميركي في العراق بما لا يقل عن 6 آلاف جندي موزعين بين العراق وسوريا، وذلك بحلول الوقت الذي وصل فيه الرئيس دونالد ترمب إلى أعتاب البيت الأبيض. وكانت تلك القوة الأميركية المصغرة – جنباً إلى جنب مع قوات حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن قوات الدعم العربية الحليفة – ضالعين بصورة شبه كاملة في مواجهة التهديدات الجديدة التي تواجه الدولة العراقية والناشئة عن تنظيم «داعش» الإرهابي هناك. ومن الصعوبة بمكان تذكر المجريات بأدق تفاصيلها، بيد أن قوافل الدبابات التابعة لتنظيم «داعش» الإرهابي كانت رابضة على مسافة بضع مئات الكيلومترات من العراق قبل سنوات قليلة فقط. وعلى الرغم من انخفاض حجم تلك القوة مع مرور الوقت، لا يزال تنظيم «داعش» الإرهابي يواصل شن حملته الإرهابية على المناطق النائية والضواحي الريفية، وذلك مع استمرار جمع الأموال عبر عمليات الاحتيال المنظمة على شبكة الإنترنت وسواها من أنماط الجرائم الإلكترونية والقرصنة السيبرانية.
ومن الواضح في الآونة الراهنة أن الإدارة الأميركية الحالية عاقدة العزم تماماً على مواصلة سحب كل القوات الأميركية من العراق. وكان البيت الأبيض قد أعلن أن الإدارة الأميركية تعتزم خفض عدد القوات هناك إلى 3 آلاف جندي فقط، وذلك بحلول نهاية شهر أغسطس (آب) الجاري، من واقع 5200 جندي فقط منتشرين هناك. وتواصل الإدارة الأميركية ممارسة الضغوط على وزارة الدفاع من أجل طرح الخيارات التي تمكن من تخفيض عدد القوات الأميركية في الخارج – أي في العراق، وسوريا، وأفغانستان – إلى الحد الصفري، وذلك بصرف النظر تماماً عن واقع الأوضاع على الأرض هناك. وفي حين أن هناك – بالتأكيد – ما يسمى «حالة إجهاد الشرق الأوسط» التي لها ما يبررها على نحو تام في الولايات المتحدة اليوم، غير أنه الوقت الراهن ليس هو الوقت المناسب للانسحاب بأي حال من الأحوال.
لهذا الإعلان الأميركي الأخير عن خفض القوات العسكرية في الخارج طابع سياسي. ويبدو أنه مقصود من ورائه طرح نقاط النقاش في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأميركية، وذلك بغرض السماح للسيد ترمب بالادعاء بأنه تمكن من إنهاء ما يسمى «الحروب الأميركية الخارجية اللانهائية».
وعلينا النظر في شأن الرابحين والخاسرين من هذا الانسحاب.
أولاً وقبل كل شيء لا بدَّ أن ندرك أن هذه الخطوة سوف ترفع من معنويات تنظيم «داعش» الإرهابي. فلقد كان الوجود العسكري الأميركي بمثابة الرابطة القوية التي تجمع أواصر قوى التحالف في مواجهة «داعش»، إلى حد كبير من خلال المهام ذات الصفة غير القتالية من شاكلة الخدمات اللوجيستية، والرعاية الطبية، وجمع المعلومات الاستخبارية. ومع أن العودة الكاملة لتنظيم «داعش» الإرهابي من الأمور غير المرجحة في الآونة الراهنة – ويرجع ذلك جزئياً إلى تعزيز الوجود العسكري لنظام بشار الأسد في سوريا على جانب الحدود السورية – العراقية، فإنه يتعيَّن علينا إدراك أن الجمرات الحارة تحت الرماد قد تعاود الاشتعال من جديد في أي وقت من الأوقات.
ثانياً، سوف تبتهج الجمهورية الإسلامية في إيران أيما ابتهاج برحيل الولايات المتحدة تماماً عن أراضي العراق. وسوف يدرك الجانب الإيراني أن الانسحاب الأميركي ليس إلا فراراً من المواجهة في المنطقة التي بذلت طهران كل ما في وسعها من جهود – ولا تزال – في زعزعة استقرار بلدانها. ومن شأن ذلك أن يقضي تماماً على المنجزات الجيدة التي حققتها إدارة الرئيس ترمب حتى الآن، ومن أبرز أمثلتها، تشجيع الإمارات العربية المتحدة – وربما بعض البلدان العربية الأخرى – على الوقوف إلى جانب إسرائيل في مواجهة إيران. كما من شأن الانسحاب الأميركي أن يمنح القادة في إيران نقطة ارتكاز قوية تتعلق بكيفية نجاحهم – أخيراً – في الدفع بالقوات الأميركية خارج منطقة الشرق الأوسط تماماً. وما يساعد إيران يساعد بالتالي حلفاء إيران في المنطقة من شاكلة روسيا وسوريا – وهما من أبرز وأشد خصوم الولايات المتحدة في المنطقة.
ويثور في هذا السياق تساؤل مهم: هل من شأن الولايات المتحدة حقاً أن تحقن كثيراً من الدماء وتحفظ كثيراً من الأموال من وراء هذا الانسحاب؟ لا أعتقد ذلك. ودعونا – مرة أخرى – نلجأ إلى حسابات الأرقام. كانت الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 170 ألف جندي في ذروة انتشارها العسكري في العراق، فضلاً عن 100 ألف جندي آخرين في أفغانستان. والعمل على تخفيض حجم هذه القوات بأكثر من 90 في المائة هو ما أدى إلى حقن الدماء وحفظ الأموال – ولقد جرى ذلك قبل وصول الرئيس ترمب إلى رئاسة البلاد.
أما الآن، فإننا نبدو وقد بعنا قيراطاً من الحكمة مقابل فدان من الحمق. بمعنى أننا نصدق أن الحفنة الصغيرة المتبقية من القوات العسكرية في العراق وسوريا، سوف تزود الحكومة الأميركية فعلاً بنفوذ عسكري هائل هناك. ونعتقد أن بضعة الآلاف القليلة من القوات البرية (لا سيما القوات الخاصة، والمستشارين، والمدربين) هي التي تتيح قدراً أكبر من الاستثمار لدى الحلفاء، والشركاء، والبلدان الصديقة في المنطقة، بل وتخلق الاستقرار المطلوب في المنطقة. ولهذا مغزاه الكبير ليس فقط من زاوية معاونة العراق في أن يتحول إلى دولة ديمقراطية ذات شرعية، وإنما من زاوية تعزيز علاقات الولايات المتحدة مع كل من إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والأردن، وبلدان عربية معنية أخرى.
الرابحون: هم تنظيم «داعش» الإرهابي، وإيران، وروسيا. أما الخاسرون فهم حلفاء الولايات المتحدة، وشعب العراق – بطبيعة الحال – الذي سوف يرزح تحت وطأة مزيد من النفوذ، والسطوة، والتدخلات الإيرانية السافرة. وكل ذلك مع انعدام حقن الدماء أو حفظ الأموال من الضياع. ويا لها من صفقة بائسة وخاسرة للغاية، لا سيما بالنسبة للإدارة الأميركية الحالية التي تفاخر كل بلدان العالم ببراعتها في فنون إبرام الصفقات الدولية!
رابط المصدر: