مسلم عباس
كانت الكتل السياسية الحاكمة تحذر شركائها والشعب معهم من مخاطر العودة الى المربع الأول، والمقصود هنا انهيار الدولة العراقية بمؤسساتها واستقراراتها الأمني والسياسي الهش طوال فترات حكم السيد نوري المالكي والسيد حيدر العبادي، ومع كل خلاف سياسي او حراك شعبي ضد الطبقة الحاكمة تظهر تحذيرات من هذا الانهيار، والذي حمل في طياته التهديد والتخويف من وضع أسوأ مما هو عليه.
ومهما كانت اهداف التخويف من العودة الى الفوضى، فان التهديدات تلك تحمل الكثير من الواقعية، ليس لان من يطلقونها يريدون لنا خيراً بل لأنهم سيقومون بإعادة الأوضاع الى حالة الفوضى من اجل اثبات ان وجودهم سابقا كان أفضل للبلد، فالاحزاب هنا تنظر للسلطة كغنيمة يجم عدم التخلي عنها بكل السبل المتاحة، وخيار تدمير الأوضاع ممكن ومباح في حال الشعور باليأس من البقاء في السلطة، ومن واجب الحزب العمل على تدمير ما بناه خلال سنوات حكمه لان اعماله خاصة به ولا يحق لغيره الاستفادة منها.
اما اذا كانت الجهة الحاكمة لا تريد فعل هذا التدمير (وهو امر نادر الحدوث)، غالبا ما يقوم من يأتي بعدها ينسف الماضي من اجل إعادة البناء حسب مقاساته الخاصة البعيدة عن التخطيط طويل الأمد المعبر عن هوية دولة لها تاريخ وتريد الحفاظ عليه، لا جيش ولا قضاء ولا برلمان ولا تقاليد مؤسساتية ولا صحافة حرة، كل ذلك قد يتغير حسب نوع الحزب الحاكم، وشخصية الحاكم نفسه.
في التظاهرات التي انطلقت في تشرين الأول الماضي والتي استمرت حتى الان حقق المتظاهرون الكثير من الإنجازات على صعيد الابتعاد عن شبح المربع الأول، واولها تعزيز حرية التعبير وكسر حاجز الخوف من أحزاب السلطة والتصريح علانية عن وجود تدخلات خارجية في الشأن العراقي يجب التخلص منها، فضلا عن اصدار قانون انتخابات جديد، وتعيين مفوضية انتخابية جديدة، واقالة الحكومة.
كل هذه المنجزات سحبت جزءا من سلطة الأحزاب وحولته الى سلطة الشعب، وهذا لا يروق لجهات عدة، ممن استفادت من الأوضاع المتازمة في البلاد، وهي لا تريد من الشعب ان يكون رقيبا عليها كما حدث بعد تظاهرات تشرين، وعملت على تخريب المنجز، وجر الشعب الى ساحة صراع جديدة لا يدرك مخاطرها، فبدأت بحرب المعلومات والشائعات التي نشرت الفوضى بين الناس، وضاعت بوصلة الحقائق، حتى بات الناس لا يشعرون بالأمان، وُصِفَ المتظاهرون بابشع صورة، وتم خلط الأوراق، كما عملت جهات أخرى وبإسم المتظاهرين على استغلال هذا الوضع لتدمير البنى المؤسساتية، واسست ما يشبه المليشيات المسلحة لمنع المؤسسات التعليمية من الدوام، وتم تجريد الشرطة من أسلحتهم، فلم يعد لوجودهم فائدة غير الشكل بدون أي عمل فعلي لضبط الامن، وكأن الحكومة تقول للشعب اننا لا نثق برجال الشرطة وهذا اخطر ما يمكن ان يسمع به المواطن.
حرية التعبير لم تعمر طويلاً فصار المختلف معك هو عميل اجنبي، مهما كانت وجهة نظره، فانت كمواطن عراقي تريد التعبير عن رأيك اما ان تكون ابن سفارة، او ذيل، وابن السفارة يقصد به الشخص المنحاز لوجهة النظر الامريكية الرافضة لاي تقارب عراقي مع ايران، او أي معلومات تتحدث عن علاقة إيجابية بين الطرفين، اما الذيل فهو على العكس، يقصد به الشخص الذي يتبنى أي فكرة قد تتناغم مع توجهات الأحزاب المتحالفة مع ايران، حتى وان كانت الفكرة التي يتحدث بها تصب في مصلحة العراق، ونحن هنا اذ نصف حالة الطرفين، لكن الواقع ان الكثير ممن يتهمون على انهم أبناء سفارة او ذيول هم ليسوا كذلك لكن أسلوب الحوار قد مات، ولم تعد هناك مساحة لحرية الرأي والتعبير الا في اطار الاتهامات، لا مجال للنقاش، فاسهل طريقة للحوار هي الصاق تهمة معينة والتخلص من الاخر، رغم ان ذلك زرع بذور التخندق لجهة ضد جهة أخرى وبشكل اجباري لان الناس لم تعد تملك خيارات أصلا.
وسائل الاعلام انجرفت مع التيار الهائج وراحت تفقد هويتها، وبينما كان الأفضل ان تنحاز للحقائق فقط، مستفيدة من تقليل منسوب الرقابة الحكومية مع اشتداد زخم التظاهرات، لكنها وجدت نفسها طرفا في الصراع منحاز بشكل كلي لاحد الطرفين، دون الاكتراث للحقائق، تجمع كل سلبيات الطرف الاخر وكل إيجابيات الطرف الذي تؤيده فيما ترد وسائل الاعلام الأخرى بعملية معكوسة، وازداد الاحتقان والتباعد بين مختلف الأطراف حتى باتت المواجهات والقتل والاصابات من الأمور المعتادة.
المربع الأول الذي سئمنا من سماعه بات واقعا، والانهيار بدأت ملامحه بقوة، فالحلم بحكومة قوية اصبح ابعد من قبل، لان التدخلات الخارجية ازدادات اضعافا مضاعفة، عمليات الاغتيالات وتصفية الحسابات بين الدول تحدث في العراق، والصواريخ الباليستية تزور العراق بدون رادع، والشرطة والجيش لا يملكون السلاح لضبط الامن، انهم اشخاص لا تثق بهم الحكومة وهذه اخطر المشكلات التي من الممكن ان يتعرض لها العراق، اما في ملف التعليم فلم يعد للمدرسة والجامعة أي قداسة، يذهب المعلم فلا يجد الطلاب، او يجدهم يهتفون ضده بعبارات مخجلة، ويغلقون عنه باب المدرسة دون ان يستطيع تحريك أي شيء، وان قام بفعل معين يتم تصويره والتشهير به في مواقع التواصل الاجتماعي.
القانون معطل ولا يتم تطبيقه، والدستور ازداد تعطلا كما في السابق، والقضاء ينظر من على التل ولا ينتصر للقوانين التي تهان كرامتها يوميا من قبل السلطة الحاكمة، ويتم تجاوز الكثير من التقاليد القانونية لصالح حالة الطوارئ التي تتحول يوما بعد اخر الى سياق طبيعي معتاد، لا مجال للتحذير من المربع الأول، فنحن في منحدر الانهيار، والوضع يتجه الى القاع، واخطر ما في الأوضاع الجارية اننا نتفاءل ونصدق ان البلد متجه الى حالة افضل بينما هو ينزل في المنحدر وكل يوم تزداد سرعة الانهيار، الأحزاب الحاكمة ترفض الاعتراف بالانهيار خوفا على سلطتها، وقادة التظاهرات يرفضون الاعتراف بالانهيار خوفا من الصاق التهمة بهم، وما بينهما يسقط البلد تحت رحمة التدخلات الخارجية التي لا تعيش الا فوق ركام الدول المنهارة.
رابط المصدر: