بعد حوالي عام ونصف من تنصيب الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، في 20 يناير 2021، بدا أن السياسة الإسرائيلية تجاه إيران تشهد تحولًا واضحًا وخطيرًا. فقد سادت حالة من الإحباط منذ فترة ما بعد سبتمبر 2022 وحتى الآن لدى الأوساط الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية بشأن إمكانية التوصل لاتفاق نووي مع إيران بعد فشل المباحثات المعنية في النمسا، وطالت البرنامج النووي الإيراني تطوراتٌ جوهرية، فضلًا عن التقدم الحاصل في برنامجي الصواريخ والمسيرات الإيرانيين.
وعلى الرغم من أن المحادثات النووية على وجه التحديد، ذلك الملف الأكثر أهمية لدى إسرائيل، لم تنتهِ بشكل كامل منذ 2022، حيث تجري أحيانًا هنا وهناك مباحثات غير مباشرة بين الأمريكيين والإيرانيين بوساطة دول إقليمية أو أوروبية، فإنها لم تكن من ناحية حاسمة فيما يخص ذلك الملف، كما أنها ليست مُرضية لإسرائيل في الوقت نفسه من ناحية أخرى. وقد شكلت هذه الملفات الثلاثة قلقًا متزايدًا لدى إسرائيل، فضلًا عن عواصم غربية أخرى، ما دفعها عملياتيًا إلى تغيير نهجها التقليدي في المواجهة مع إيران والذي استغرق في السابق عقودًا من المعارك غير المباشرة.
وقد مثّل انطلاق عمليات “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023 محفّزًا قويًا لدى إسرائيل وحكومة بنيامين نتنياهو الثالثة (ديسمبر 2022 – الآن) لتطبيق ذلك التغيير في نهج التعامل مع إيران على أرض الواقع؛ في ظل توجيه تقارير مختلفة غربية وإسرائيلية أصابع الاتهام لإيران بالتورط بشكل غير مباشر في هذه العمليات عن طريق دعم حركة حماس لسنوات سابقة. فقد أصبحت هذه العمليات بمثابة فرصة سانحة لنتنياهو للتخلص من الهواجس التي تنتابه لسنوات طوال من الجانب الإيراني.
كيف تحولت السياسة الإسرائيلية إزاء التعامل مع إيران خلال الفترة (سبتمبر 2022 – الآن)؟
كما سبق ذكره، تسبب نهج تعامل إدارة الرئيس الأمريكي “بايدن” مع البرنامجين النووي والصاروخي لإيران، وعلى وجه الخصوص منذ توقف المفاوضات النووية في سبتمبر 2022، فضلًا عن ملف المسيرات، في توجه حكومة “نتنياهو” إلى تغيير سلوكها إزاء إيران، وذلك مع ظهور الفرصة السانحة لتطبيق ذلك مع اندلاع عملية “طوفان الأقصى”.
إذًا، كيف تحولت السياسة الإسرائيلية إزاء طهران خلال تلك الفترة التي لا تزال جارية؟.
لقد انتقلت إسرائيل من نطاق الصراع غير المباشر مع إيران عن طريق الوكلاء إلى حالة الصراع المباشر معها، وكانت أولى هذه الدلالات الواضحة والصريحة تلك الضربة التي وجهتها حكومة بنيامين نتنياهو لمقر القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق يوم الأول من أبريل الماضي وقتلت على إثرها عددًا غير قليل من أبرز القادة العسكريين الإيرانيين في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري وعلى رأسهم العميد محمد رضا زاهدي القائد الميداني لعمليات “فيلق القدس” في سوريا ولبنان.
فلم يكن الهدف الإسرائيلي الأول من هذه الضربة استهداف قادة عسكريين إيرانيين بارزين، وإلا لاغتالتهم خارج مقر القنصلية على غرار العمليات الأخرى، بل تمثل الهدف في إدراك إسرائيل أن إيران سوف ترد على الأغلب على هذه العملية بمهاجمة مواقع داخل إسرائيل، وهو ما جرى بالفعل في عملية “الوعد الصادق” الإيرانية يوم 14 أبريل الماضي.
ولقد تكررت العمليات الإسرائيلية من هذا النوع لاحقًا حينما اغتالت تل أبيب يوم 31 يوليو 2024 رئيس المكتب السياسي لـ “حماس”، إسماعيل هنية، في قلب العاصمة طهران خلال مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، وبعد ساعات فقط من لقائه مع الأخير ومن قبله المرشد علي خامنئي، أي أن هذه الضربة مثّلت استفزازًا صريحًا بدون أي شك لطهران.
وتثير عملية اغتيال “هنية” في إيران نفسها وليس في أي مكان أو دولة أخرى تساؤلًا مهمًا حول السبب أو الهدف الإسرائيلي من وراء ذلك، وهو ما يمكن أن نجيب عليه بأن تل أبيب تريد استفزاز إيران لكي ترد عليها وتوسع من عملياتها هذه المرة ضدها أو حتى ضد أهداف أمريكية أو أجنبية في منطقة الشرق الأوسط؛ لأن إسرائيل قد تدرك أن إيران لن تتهم إسرائيل وحدها في هذه العملية، بل، وهو ما حدث، ستتهم واشنطن معها.
وتجيء هذه الاغتيالات البارزة جنبًا إلى جنب مع عمليات إسرائيلية أخرى مشابهة في الداخل الإيراني أيضًا لا يتم الإعلان عنها أو تصديرها لوسائل الإعلام، مثل ما تطرقت إليه تقارير أجنبية، بعضها ناطق بالفارسية، من قتل إسرائيل لضابط إيراني في الحرس الثوري داخل إيران أشارت التقارير إلى أنه كان “متورطًا بالاعتداء على مراكز يهودية في ألمانيا”. وعلى أي حال، فإن هذه العمليات تقصد إسرائيل عمدًا تنفيذها داخل إيران لاستفزاز تلك الأخيرة كي ترد عليها؛ وذلك بغية أهداف استراتيجية أخرى.
لماذا تريد إسرائيل استفزاز إيران بتنفيذ الاغتيالات على أراضيها؟
انطلاقًا مما سبق، يمكننا القول إن تل أبيب تريد من وراء استفزاز إيران أن ترد الأخيرة عليها بضربات قوية و/ أو تستهدف في الوقت نفسه هي أو وكلاؤها في المنطقة المصالح الأجنبية، سواء الأمريكية أو الأوروبية. ولما كانت إسرائيل تدرك جيدًا أن الدول الحليفة لها لن تتركها وحيدة في مواجهة إيران والجماعات الأخرى في لبنان واليمن والعراق وسوريا (ترتيبًا من حيث إمكانية إحداث هذه الجماعات في تلك الدول تأثيرًا على الأمن القومي الإسرائيلي)، فإنها (إسرائيل) تريد إذًا نصب فخ لإيران يتمثل في تشكيل جبهة إسرائيلية غربية موحدة تجاه إيران ووكلائها، فيما يمكن أن نصفه بـ “حرب الخلاص الإسرائيلية من إيران”.
وخلال هذه الآونة، سوف تُقدم إسرائيل على إحداث المزيد من الأضرار بإيران لاستفزازها وإجبارها على مهاجمتها بقوة، ما يعني دخول القوات الدولية الحليفة لإسرائيل على خط الصراع، وفي الوقت نفسه ستحاول تل أبيب إقناع تلك القوى بأهمية اتخاذ خطوة تجاه البرنامج النووي الإيراني وملفي الصواريخ الباليستية والمسيرات، وبالتالي الاستعداد لإحداث أضرار بالغة بهذه البرامج بتعاون إسرائيلي مع الحلفاء، أو على الأقل التمهيد لضرب إسرائيل وحدها مواقع نووية وصاروخية داخل إيران في ظل وضع وحالة لن تترك فيها الدول الحليفة إسرائيل وحدها، وأيضًا مع إدراك إيراني كامل لهذا الأمر.
وقد تعتقد إسرائيل أن مثل هذه العمليات سوف يعقبها رد إيراني واسع أيضًا ولكنها ستكون مستعدة له على غرار التحالف الغربي الإسرائيلي لإسقاط الصواريخ والمسيرات الإيرانية القادمة من الشرق والجنوب في أبريل الماضي قبل وصولها مواقع إسرائيلية. وتقتنص إسرائيل أيضًا الفرصة مع مرور إيران ببرهة حساسة داخليًا تتمثل في إعادة ترتيب البيت الداخلي والاستعداد لمرحلة ما بعد خامنئي داخليًا، وهي في الواقع مرحلة لا تريد فيها إيران أية اضطرابات داخلية أو صراعًا واسعًا في الجبهات الخارجية، علاوة على خشية طهران جديًا من تأثير توسع الصراع على اقتصادها وبالتالي حالة الاستقرار السياسي الداخلية.
وقد انعكست هذه السياسة الإيرانية الساعية للتهدئة منذ اندلاع عمليات “طوفان الأقصى” العام الماضي، في نفي إيران اشتراكها في هذه العمليات ومنعها وكلائها من التصعيد ضد إسرائيل أو القوات الأمريكية والأجنبية في المنطقة.
الاستنتاج
وعليه، فإن الهدف الإسرائيلي الرئيس من وراء اغتيال “هنية” على الأراضي الإيرانية ومن قبلها توجيه عملية ضرب القنصلية في دمشق هو جر إيران لمواجهة تقود في النهاية إلى تخلص إسرائيل من البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين بشكل أساسي، أو على الأقل تعطيل الأول لسنوات طوال والحد من قدرات الثاني؛ لضمان منع تهديد طهران جديًا لإسرائيل، خاصة مع صراع النفوذ الذي ينخرط فيه الطرفان منذ عقدين على الأقل بعد انهيار حكومة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في عام 2003.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82167/