بقلم : محمد عوده الأغا – باحث في الشأن الإقليمي
لكل وحدةٍ سياسيةٍ في النظام الدولي مظهر وسلوك تنفرد به عن غيرها؛ بسبب موقعها الجغرافي –بالإضافة لعوامل أخرى تتعلق بالنظام السياسي، والتركيبية الديموغرافية وغيرها-، وهذا ما يسبب التباين الكبير بين الوحدات السياسية في مقومات القوة التي تمتلكها، ويحدد طبيعة علاقات الدولية، والدور الذي تؤديه كل وِحدةٍ على مسرح الحياة السياسية إقليمياً ودولياً.
بالنسبة لإيران فهي تنتمي لفئة الدول ذات الطموح الإقليمي، وهي دول لا تؤهلها قدراتها الكلية مثل (الموقع والحجم والموارد والمعرفة)، للَّعب على المستوى العالمي، لكنها تمتلك الطموح والقدرات الإقليمية.
فمنذ بروز إيران كوحدة سياسية، ظلت سياستها الخارجية مرتبطة بطبيعة الموقع الجغرافي الذي تشغله؛ لأن موقعها يضعها بالتماس مع دول عربية وإسلامية، لها ثقلها ووزنها السياسي والاقتصادي والاستراتيجي.
وبالنظر لموقع إيران بالنسبة لدول الجوار، نجد أن هناك دائرتين جغرافيتين رئيستين تشكلان محط الاهتمام الإيراني إقليمياً، الأولى تتمثل في دول جنوب القوقاز، وتقع شمال إيران، أما الثانية فتتكون من دول الخليج العربي، وتقع جنوباً، وتكمن أهمية هاتين المساحتين بالنسبة لإيران بسبب ما تمتلكانه من امتداد ثقافي مذهبي يتمثل في المذهب الشيعي، وثروات اقتصادية تتمثل في احتياطي النفط والغاز الطبيعي، وعناصر جيوستراتيجية تهم العالم بأسره، وتجعل التحرك فيها يخضع لحسابات دقيقة جداً.
دول جنوب القوقاز:
انطلقت السياسة الإيرانية تجاه منطقة جنوب القوقاز متأثرةً بعدة اعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية، وتمكنت إبران من بناء علاقات متميزة مع دول المنطقة لاسيما مع أرمينيا، التي وسعت علاقاتها وتعاونها معها حتى وصلت مرحلة الشراكة في كثير من المجالات، على النقيض من العلاقة مع أذربيجان، التي اتسمت في معظم المراحل بالتوتر وعدم الاستقرار؛ بسبب القضايا والمشاكل بينهما وخصوصاً قضية تقاسم ثروات بحر قزوين، والأقلية الأذرية في إيران، ورغم ذلك سعت ايران للانفتاح تجاه أذربيجان بهدف استثمار ثرواتها النفطية.
وقد خضعت علاقات ايران مع دول جنوب القوقاز لتأثير التنافس الإقليمي والدولي وصراع النفوذ، ومحاولات الهيمنة والحصول على أكبر مشاريع استثمارية اقتصادية في هذه المنطقة، وربما كان الصراع العسكري الأذربيجاني-الأرميني الأخيره أبرز الأمثلة على مواقف إيران وسياسياتها تجاه المنطقة.
وتكمن أهمية منطقة جنوب القوقاز في رغبة إيران تعزيز مصالحا الاقتصادية وإيجاد أسواق للصادرات الإيرانية، وتعزيز الأمن والإستقرار الإقليمي والحيلولة دون نشوب نزاعات ذات بعد عرقي تنعكس على أمن واستقرار إيران الداخلي.
وترى إيران في نسج العلاقات مع دول منطقة جنوب القوقاز خروجاً من العزلة السياسية المفروضة عليها ومجالاً للتحرك واثبات المكانة وقدرتها على العمل السياسي والدبلوماسي الخارجي.
منطقة الخليج العربي:
اكتسبت منطقة الخليج العربي أهمية جيوستراتيجية مميزة منذ مراحل تاريخية بعيدة على كافة الأصعدة، الأمر الذي أبقاها دوماً مُتَأثِّرةً بالمتغيرات الدولية المتسارعة، ولذلك، نجد أن الوجدان الإيراني مرتبط بالخليج العربي، لما يمثله من قيمة إستراتيجية بالنسبة للعالم، وقد دُعم التوجه الإيراني نحو الخليج من خلال الإطلالة الجيوستراتيجية على مضيق هرمز، وطول الساحل الإيراني المواجه للخليج، وهذا ما يفسر السيطرة الإيرانية على الجزر الإماراتية الثلاث (طمب الكبرى وطمب الصغرى، وجزيرة أبوموسى) القريبة من مضيق هرمز، والتي تمثل قيمة استراتيجية كبيرة، وإضافة لذلك، فإن إيران تشترك مع قطر في حقل غاز “الشمال” والذي يعد ثروة اقتصادية كبيرة.
ترى إيران في منطقة الخليج البوابة الأوسع للحصول على الهيبة الدولية، فقد اثبتت إيران مراراً أن لها القدرة على التأثير في سير الأحداث في منطقة الخليج، وتهديد المصالح الغربية من خلال إغلاق مضيق هرمز والتلويح باستخدام القدرات العسكرية الصاروخية ضد المراكز الحيوية وخصوصاً المنشآت النفطية.
وقد أجبرت إيران المجتمع الدولي على قبول الجلوس معها في مفاوضات حول برنامجها النووي، والتي أفضت لتوقيع اتفاق تتعهد فيه إيران بالتزامات حيال برنامجها النووي، مقابل رفع العقوبات عنها، ولم تنص هذه الالتزامات على وقف البرنامج النووي، بل استمراره بصورة لا تؤدي لتطوير أسلحة نووية، ولم يكن هذا الاتفاق ليتم لولا قدرة السياسة الخارجية الإيرانية على استثمار موقعها الجيوستراتيجي المطل على منطقة الخيج العربي، حيث اثبتت مراراً أنها تمتلك قدراً كبيراً من التأثير في مجريات الأحداث خصوصاً وأن تأثير تحركاتها امتد من خلال منطقة الخليج العربي لتصل لعدة مناطق حيوية في اليمن وسوريا ولبنان.
وبرغم الاهتمام الإيراني بالجوار الجغرافي، إلا أنها أولَت الاهتمام أيضاً لمناطق التأثير والتأثر، والتي تتعلق بأمنها القومي، لذلك جعلت العالم الإسلامي كله ضمن أولويات اهتمامها، بهدف كسر العزلة الاقتصادية والسياسية التي فُرضت عليها خصوصاً بعد نجاح الثورة الإيرانية بإسقاط حكم الشاه، وبروز الطموح الإيراني الذي هدد التفرد الغربي في استغلال ثروات المنطقة.
لهذا سعت ايران في مشروعها الى انتزاع دور إقليمي تراه ايران حقا لها، من يد الولايات المتحدة الأمريكية، القطب العالمي الأوحد والمؤثر في منطقة الشرق الأوسط، باستغلال غياب المشروع الإقليمي العربي، وتخبط السياسة الأمريكية في حسابات المنطقة، إذ تقدم إيران مثالاً جديداً في نظام العلاقات الدولية عن كيفية انتزاع القوة الإقليمية لدور يناسبها دون أن تستظل طموحاتها بدولة عظمى.
رابط المصدر: