بدت الاستجابة العاجلة من قبل بعض الدول العربية لمساعدة سورية في مواجهة تداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد في 6 فبراير الجاري، لافتةً على أكثر من صعيد؛ فقد أرسلت الإمارات وعُمان والأردن ومصر والجزائر والعراق والسلطة الفلسطينية مساعدات عاجلة، وشرعت السعودية في تجهيز حملة تبرعات لإرسالها إلى سورية، وأجرى عدد من قادة هذه الدول، بمن فيهم عاهل البحرين، اتصالات بالقيادة السورية للتعبير عن تضامنهم مع الشعب السوري، وإظهار استعدادهم لتقديم المزيد من الدعم الإنساني.
وبطبيعة الحال، فقد أعاد الحراك الإغاثي والدبلوماسي العربي، إلى الواجهة مرة أخرى، السؤال عما إذا كانت هذه الاستجابة مدخلاً ملائماً لعودة الاتصالات العربية مع دمشق، وفاتحة لاستعادة العلاقات السياسية والاقتصادية بين دمشق ومحيطها العربي، في ظل ممانعة أمريكية وغربية تبدو مُتصلّبة في مجملها حتى الآن؟
ويندرج الحراك العربي والدولي الراهن تجاه سورية في نطاق ما يسمى بـ “دبلوماسية الكوارث” في العلاقات الدولية، وهو نمط من أنماط الدبلوماسية المرنة والناعمة، لها أدواتها الخاصة، ويتيح للفاعلين الدوليين ابداء التضامن مع بعضهم البعض للتخفيف من تداعيات الكوارث الكبيرة، عبر تقديم المساعدة التي تصل إلى حد المشاركة المباشرة في إدارة الكارثة. ويفتح هذا الأمر، نظرياً على الأقل، المجال أمام تحييد الحسابات السياسية للقوى المختلفة والتركيز، بدرجة أكبر، على الجانب الإنساني.
ومع هذا، يبدو الحراك صوب دمشق، حتى الآن، وكأنَّه صراع بين موقفين مُتعارضين: الأول، يدعو إلى رفض التعامل مع النظام السوري مهما كانت الأسباب وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية وبعض القوى الغربية الأخرى مثل فرنسا؛ والثاني، يُطالب بضرورة التعاطي مع الواقع السوري بناءً على مقاربات جديدة تُعطي الأولوية لتحسين ظروف السوريين قبل أي اعتبار آخر، ويقود هذا الاتجاه الكثير من الدول العربية، وبعض الدول الأوروبية.
والسؤال الآن، ليس أي الاتجاهين سينتصر، لأن أطرافه لا يعتبرون أنفسهم في حرب بكل تأكيد، بل ما إذا كانت دبلوماسية الإغاثة، الآخذة في التوسُّع، ستؤسس لمسارات جديدة للملف السوري في المرحلة المقبلة؟
التحرّك العربي باتجاه دمشق: فرصة لتعديل التوازن الاستراتيجي
يمكن رد الاستجابة العربية، الأوسع نطاقاً حتى الآن، لكارثة الزلزال في سورية، إلى السياق الذي بدأت تظهر فيه بوادر انفتاح عربي أكبر على دمشق، بالتزامن مع تحرك تركي موازٍ وإن بدا أكثر حذراً وتمهُّلاً. ويبدو أن الحراك العربي تجاه سورية هذا جاء تعبيراً عن إدراك رسمي تبلور منذ فترة وشكَّلت الكارثة الأخيرة فرصة لإظهاره في صورة مواقف أكثر وضوحاً، ولعل المتابع لما يمكن تسميته “مخاض عودة العلاقات العربية السورية” سيلاحظ أنّ ثمّة خلاصات قد توصل لها الإدراك السياسي العربي، جرى الإفصاح عنها في مناسبات ومواقف عديدة، ويتمثل أبرزها في الآتي:
أولاً، الصراع الجيوسياسي الدولي الدائر بين القوى الكبرى يبدو أنه سيكون طويل الأمد، وأطرافه لا تضع أي وزن لمتطلبات الأمن القومي العربي؛ فجميع اللاعبين لهم نفوذ وتدخلات في الساحة السورية باستثناء العرب الذين يَبدون خارج اللعبة، ودورهم ينحصر فقط في حصد النتائج السلبية للصراع السوري والتنافس الدولي حول هذا البلد العربي، وليس مطلوباً، ولا مرغوباً من العرب الاستمرار في مراعاة أي حسابات تُخرجهم من اللعبة.
ثانياً، استمرار الأوضاع السورية على هذه الوضعية يعني وضع العرب أمام ثلاث خيارات كلها سيئة:
1. إعطاء الفرصة للوجود الإيراني ليُكرِّس نفسه مجاناً دون أي مقاومة عربية، وانتظار تحوّل سورية إلى محمية إيرانية بالكامل، بحيث يُصبح من المستحيل تغيير هذا الوضع الذي سيتحوّل بالتبعية إلى نقطة ضعف مهمة للنظام والأمن العربيين.
2. الاستمرار في هذا الوضع يعني تكريس حالة الانقسام والتجزؤ في المنطقة، والتي بدورها ستؤدي إلى خلخلة البناء العربي ورفع مناسيب الخطر بداخله.
3. إخراج سورية نهائياً من الحسابات العربية وتركها للمشاريع الخارجية تقرّر مصيرها، وهذا مسار لن يقبله أي سياسي عربي عاقل لما له من تداعيات مستقبلية خطرة على الأمن العربي.
لقد وضعت كارثة الزلزال المدمر، على مأساويتها، كلّ من يبحث عن حلول منطقية للمسألة السورية أمام واقع مختلف يتطلب معه البحث عن مقاربات جديدة تتضمن أساليب وأدوات مختلفة، كما انطوت على فرص للعرب وللنظام السوري يمكن اقتناصها من أجل خلق مسار يعلو فيه الإنساني على السياسي، وعلى نحو يُمهِّد فعلياً لإعادة سورية إلى حاضنتها العربية. فقد أتاحت كارثة الزلزال للعرب فرصة موازنة الأدوار الأخرى في سورية، عبر ملامسة قلوب السوريين وعقولهم، وبطريقة سيكون مفعولها أكبر بكثير من قدرة الخطابات التي تستخدمها ماكينات بعض الجهات الإعلامية في التحريض ضد العرب؛ أما نظام الأسد، فإنه سيستفيد من تسيير قوافل المساعدات العربية، باعتبارها ستُشكِّل قاطرة لمواقف دولية مترددة حتى الآن في اقتحام ميدان العلاقة مع دمشق، بعد طول نفور.
تخلخل الموقف الغربي
على الرغم من إصرار واشنطن على رفض تخفيف العقوبات على دمشق، فإن تصريحات مسؤولي الإدارة الأمريكية الأخيرة تبدو وكأنها فتحت ثغرة في جدار التصُّلب الأمريكي، من خلال الإعلان أن قانون “قيصر” لا يمنع تقديم المساعدات الطبية والإغاثية إلى سورية. وقد أكَّدت الخارجية الأمريكية أن واشنطن ستواصل تقديم المساعدات للسوريين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة عبر المنظمات غير الحكومية في الميدان وليس عبر الحكومة السورية.
وعلى الأرجح فإن الولايات المتحدة ستحاول إقامة نوعٍ من التوازن بين عقوباتها ورغبة الأطراف الإقليمية والدولية في تقديم المساعدة للمتضررين في سورية، ولا يستبعد أن يؤدي تصاعُد موجة التعاطف مع الضحايا السوريين إلى دفع واشنطن باتجاه البحث عن مسوغات لتخفيف العقوبات على دمشق، عبر تفعيل بعض الاستثناءات الواردة في قانون قيصر التي تتيح للرئيس الأمريكي اللجوء إليها في حالات معينة.
ويعكس التغيُّر الذي ظهر في الموقف الأوروبي تجاه كارثة الزلزال تخلخلاً ما في الموقف الغربي إزاء سورية، إذ يبدو أن أحد أصدقاء دمشق في الاتحاد الأوروبي أشار لها بطلب “تفعيل آلية الحماية المدنية” لإمكانية تقديم مساعدات عاجلة، وتسمح هذه الآلية باتخاذ القرارات بسرعة إبان الأزمات الكبرى التي تستدعي رد فعل على مستوى الاتحاد، وقد أُنشِئَت هذه الآلية عام 2021، بهدف تقديم دول الاتحاد المساعدة لمواجهة الكوارث الطبيعية، سواء كانت الدولة المتضررة عضواً في التكتل الأوروبي أم لا. وقد أكد الاتحاد الأوروبي استجابته للطلب السوري بتقديم المساعدات الإغاثية والإنسانية، مؤكداً أن العقوبات التي فرضها على دمشق ليس لها تأثير في قدرته على المساعدة.
ويبدو أن استجابة الاتحاد الأوروبي كان الهدف منها الموازنة بين مواقف الدول الداعية للانفتاح على دمشق (مثل المجر، واليونان، وقبرص، وسلوفاكيا، وحتى إيطاليا)، وبين الدول الرافضة لأي شكل من أشكال التعاطي مع النظام السوري (فرنسا على سبيل المثال). ويمكن قراءة هذا التطور على أنه خرق، بشكل أو بآخر، لقانون “قيصر” وأخذ مسافة عن الموقف الأمريكي، ويبدو أن الدول الأوروبية الداعية لتطبيع العلاقة مع دمشق قد سجلت نقطة لصالحها واستثمرت كارثة الزلزال لتقوية موقفها، وقد يجد الاتحاد الأوروبي نفسه مُضطراً لتقديم مرونة أكبر في التعامل مع الملف السوري مستقبلاً.
خلاصة واستنتاجات
مع أن التحرك العربي إزاء سورية اتخذ طابعاً إنسانياً في ظل كارثة الزلزال التي ضربت عدة مناطق في هذا البلد، فإن هذا التفاعل الذي عبّر عنه تحريك قوافل المساعدات براً وجواً ينطوي على بعد سياسي لا ينبغي إغفاله، وهو أنَّه آن الأوان لأن تعيد الدول العربية موضعة علاقاتها مع دمشق بعيداً عن الاصطفافات الدولية الراهنة، وأن سيف “قانون قيصر” الذي تلوح به الإدارة الأمريكية لا يجب أن يُشكِّل حاجزاً أمام عملية إعادة تنظيم الإقليم، وفرض العرب أنفسهم فاعلاً جيوسياسياً مؤثراً في مواجهة مشاريع جيوسياسية إقليمية ودولية أخرى، لا تخدم العرب، دولاً وشعوباً، وتأتي على حسابهم في أغلب الأحوال.
ويتيح الحراك العربي صوب دمشق فرصة لتطوير رؤية عربية واقعية وأكثر جرأة في العمل مع سورية، تدمج بين متطلبات الشعب السوري واحتياجاته الملحة، ولا يُخفي كثير من العرب حقيقة رغبتهم في إدارة الكارثة بهدف تغيير المسارات التي لم يكن لهم فيها حضور في سورية، والتي نتج عنها بالتبعية اختلال في موازين القوة سمح لقوى من خارج المنطقة بالتأثير فيها، واختراق المنظومة العربية، وتهديد أمنها.
في المقابل، ثمّة فرصة أمام النظام السوري لتحويل هذه النافذة المتاحة إلى مسار بنّاء يُعاد فيه دمج سورية في محيطها العربي، والبناء على دبلوماسية الإغاثة الراهنة، من خلال إظهار تفهُّم أكبر للمصلحة العربية، التي لا تتعارض مع مصالح سورية في النهاية، بل تقوي القدرات التفاوضية السورية على مختلف الجبهات، ومع الأصدقاء قبل الأعداء.
.
رابط المصدر: