يظل أكثر ما يميز الحرب الروسية الأوكرانية هو الطابع الشخصي الذي ترك بصمته على المشهد العام؛ ففي كل مرة يتعقد الموقف السياسي أو العسكري بين بلدين يحتكم الخبراء والمحللون وعلماء السياسة دائمًا إلى قواعد المصالح الخاصة بكل بلد أملًا منهم في الوصول إلى استنتاجات حقيقة بشأن مستقبل الصراع، غير أن الحالة الراهنة ربما تكون أدرجت لمسة جديدة على الحرب ومصيرها وكل ما يحدق بها من تحولات، المقصود هنا، هو الطابع الشخصي للرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين” بصفته صاحب قرار شن الحرب وكل ما يحمله في نفسه من أيديولوجية وأفكار وأهداف وطموحات يسعى إلى تحقيقها، وكيف اندمج هذا الطابع على الحرب وأثر عليها وأدرج فيها متغيرات كثيرة.
من هذا المنطلق، تنعكس إرادة “بوتين” بطبيعة الحال على من يُمكن وصفه بأنه أحد قطع الشطرنج في يد الشريك الأكبر “بوتين”. والحديث هُنا يدور عن الرئيس البيلاروسي “ألكساندر لوكاشينكو”، وطبيعة الدور الذي يلعبه في الحرب، وكيف يرتبط هذا الدور بالصلة الشخصية التي تجمع ما بينه وبين الرئيس الروسي؟! والأهم من كل هذا هو البحث عن إجابة لتساؤلات حول فرضية إعلان بيلاروسيا انضمامها الرسمي تحت لواء الدولة الروسية؟ والنتائج المترتبة على هذه الفرضية وكيف من الممكن أن يتغير المشهد العام للحرب؟
الوحدة في عقل القائد: أيديولوجية لا تموت
لطالما كانت مسألة الضم الرسمي لبيلاروسيا تحت لواء دولة الاتحاد الروسي موضع جدل منذ تولي “فلاديمير بوتين” الحكم لأول مرة، بل إنه من الممكن القول إنه مثلما كانت أوكرانيا حاضرة دائمًا في ذهن “بوتين” بوصفها جزءًا لا يتجزأ من بلاده كان الشيء نفسه أيضًا ينطبق على بيلاروسيا؛ فبالعودة إلى صيف 2002، عبّر “بوتين” عن رؤيته بأن اقترح إجراء استفتاء على الوحدة بين البلدين بحلول مايو 2003.
وفي الوقت نفسه، قدم بوتين ثلاثة خيارات لتطوير التكامل بين البلدين؛ “أولًا: الاندماج الكامل في دولة واحدة، ثانيًا: تشكيل اتحاد مماثل للاتحاد الأوروبي، ثالثًا: العمل على التوحيد على أساس أحكام المعاهدة الحالية بشأن إقامة دولة الاتحاد”. وتسببت هذه المقترحات في إثارة غضب لوكاشينكو الذي أحس بالاستياء لأنه حتى “فلاديمير لينين” و”جوزيف ستالين” لم يُفكرا في إعادة ضم بيلاروسيا مرة أخرى إلى الاتحاد الروسي ولو حتى بشكل جزئي.
لكن هنا يطرح سؤال نفسه، هل تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في قتل أحلام “بوتين” تجاه بيلاروسيا؟ عند هذه النقطة يُعاد إلى الأذهان عدد من العبارات ذات الصلة التي قالها “بوتين” نفسه في محطات مختلفة من عُمر الصراع الجاري في أوكرانيا. في مقاله التاريخي، 12 يوليو 2021، الذي أنذر “بوتين” من خلاله العالم بضرورة تحقيق أحلامه في استرداد حقوقه المشروعة من أوكرانيا؛ كان من المفترض أن تكون أوكرانيا هي موضع الحديث الرئيس لـ “بوتين” في مقاله، غير أن الأمر لم يخلُ كذلك من ذكر بيلاروسيا وشعبها بطريقة تعكس بالضرورة الإجابة عن سؤال كيف ظل “بوتين” متمسكًا برؤيته الوحدوية مع بيلاروسيا منذ فترة بدايات سنوات توليه الحكم وصولًا للحظة الراهنة؟
فقد اشتمل مقاله على عدد من العبارات المؤيدة لهذا السياق، من ضمنها: “كُلًا من الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين هُم ورثة روسيا القديمة التي كانت أكبر دولة في أوروبا”. واسترسل فيما بعد مستخدمًا لفظة “الأمة الروسية الكبيرة” التي يتفرع عنها ثلاثة شعوب هُم الروس، والبيلاروسيون، والأوكرانيون. وفي خطابه بتاريخ 21 فبراير 2022 عندما أعلن الاعتراف باستقلال جمهوريتي “لوهانسك ودونيتسك”، وضع “بوتين” رؤية إطارية شاملة لأيديولوجيته، مؤكدًا للعالم أجمع أن أوكرانيا ليست دولة وأنها بلد حصل على أراضيه من روسيا عن طريق الخطأ الفادح الذي ارتكبه قياديو روسيا السابقون في حق بلادهم أولًا وقبل أي شيء.
وذلك في إطار عام نفهم منه أن “بوتين” يؤمن بأن المبدأ نفسه يسري أيضًا على بيلاروسيا. وخلال زيارة أجراها “لوكاشينكو” للشرق الأقصى الروسي، أبريل 2022، قال له “بوتين”: “نحن لا نفرق بشكل خاص بين أين تنتهي بيلاروسيا وأين تنتهي روسيا. قد يبدو الأمر غريبًا اليوم، فنحن دائمًا شعب واحد، أوكرانيا وبيلاروسيا وروسيا”.
إذًا، نفهم من كل ما سبق أن هناك العشرات من الدلائل على أن فكرة توحيد الشعوب الثلاثة لاتزال قائمة في ذهنية “بوتين”، بل ربما أنها تكون هي الهدف الأسمى الذي يطمح إليه “بوتين” في شكل نهائي لحدود الدولة الروسية التي يفترض أن تضم بين حدودها “بيلاروسيا، أوكرانيا، أوسيتيا الجنوبية، ترانسيستريا”.
ومن الناحية الأخرى وبالانتقال إلى موقف الرئيس البيلاروسي من رغبات “بوتين”، نجد أن موقف “لوكاشينكو” مر بمراحل متعددة؛ بدءًا من الرفض الشديد وصولًا إلى الاعتراف بوحدة شعبي البلدين والتأييد التام لكل خطوات موسكو. مثال على ذلك، تصريحه في ديسمبر 2019 خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى الاقتصادي الأوراسي عندما واجه “لوكاشينكو” نظيره الروسي بتصريحات شديدة الوضوح قائلًا إن بلاده لن تكون أبدًا جزءًا من دولة أخرى حتى لو كانت هذه الدولة هي روسيا نفسها. مُضيفًا “لا تنوي موسكو ومينسك إنشاء برلمان واحد، وليست هناك أي خطط لتعميق التكامل السياسي”.
لكن بمتابعة مسيرة “لوكاشينكو” المهنية وطريقته في الحكم التي لم تخلُ من عنف استخدمه الرئيس البيلاروسي في قمع شعبه والتشبث بالحكم لأطول فترة ممكنة، يصبح من السهل ملاحظة الأسباب الكامنة وراء رفضه الانضمام لروسيا. وهذا الشيء غني عن التعريف، إن “لوكاشينكو” الذي شهدت مسيرته المهنية الانتقال من مراحل كثيرة متعددة بدأها كمزارع ورجل ريفي بسيط يعرف في قرارة نفسه المعنى الحقيقي للفقر، وتدرج فيما بعد في مراحل وظيفية كثيرة لا تخلو من عناء وكد واجتهاد حقيقي، وصولًا إلى منصب الرئيس، لن يكون من السهل عليه أبدًا التخلي عن فكرة احتفاظه بلقب “الرئيس” الذي حارب لأجله الجميع وبضراوة.
غير أن إجمالي هذا الامتعاض والرفض الدائم من جانبه كان كفيلًا بالذوبان حد الاختفاء تمامًا بمجرد اندلاع احتجاجات 2020 ضده، والتي أعقبت الانتخابات الرئاسية وكادت أن تطيح به شخصيًا من الحكم لولا التدخل والدعم السريع والعاجل الذي قدمته له موسكو، بشكل وضع “لوكاشينكو”، في الوقت الراهن وإلى الأبد، تحت وطأة سداد ديونه إلى “بوتين” الذي باتت له فضائل لا تعد ولا تحصى على شريكه الأصغر، بشكل يقود معه الأمر إلى إمكانية فتح مجالات جديدة للتساؤل عن إمكانية إعلان اندماج رسمي تدخل بموجبه بيلاروسيا في إطار دولة الاتحاد الروسي.
وذلك خاصة في ظل المتغيرات السياسية الدولية التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية، بشكل يضع البلدين أمام مرحلة من التعاون غير المسبوق يصير معها من الجائز القول إن بيلاروسيا تعد ضمنيًا قطعة فعلية من أرض روسية خاضعة للسيادة الروسية، ولم يتبقَ على إتمام الأمر سوى الخطوة الأخيرة، وهي التصريح العلني به.
بمعنى أدق، يفرض المشهد الراهن بكل ما فيه من معطيات المزيد من المصداقية على احتمالات إعلان بيلاروسيا انضمامها إلى دولة الاتحاد الروسي. وحقيقة الأمر، لم تعد هناك المبررات القوية التي تحول دون طرح نموذج اندماج مُشابه لنمط الجمهورية العربية المتحدة التي تشكلت بين مصر وسوريا في 1958 بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. مع الأخذ في الحسبان أن هناك معاهدة للاندماج بين البلدين تُسمى معاهدة إنشاء الدولة الاتحادية، التي تم توقيعها في يناير 2000؛ بكل ما تشتمل عليه هذه المعاهدة من اتفاقيات وبنود تعمل على تفعيل درجة التقارب والاتحاد بين البلدين.
وعلاوة على ذلك، فإن الدولة البيلاروسية بوجه عام هي دولة ذات اقتصاد يعتمد بشكل كامل على روسيا. وليس من الممكن التعويل على الرفض الشعبي البيلاروسي لهذا القرار؛ بالنظر إلى أن روسيا أيضًا أثبتت أنه دائمًا ما يكون في مقدورها كبح جماح أي غضب شعبي ضد الرئيس، والمواقف السابقة خير دليل على ذلك.
ماذا لو أصبحت بيلاروسيا رسميًا جزءًا من الاتحاد الروسي؟
ليس هناك شك في أن أي حرب لعبة تقوم في الأساس على فكرة المفاجآت، بحيث يظل كل طرف يسعى بكل ما يملك من قوة إلى ابتكار أكبر قدر ممكن من المفاجآت التي يباغت بها أعداءه. وفي السيناريو الراهن، أي سيناريو إعلان بيلاروسيا –رسميًا- انضمامها لروسيا، ربما لن تمثل هذه الخطوة مفاجأة جذرية للغرب؛ نظرًا إلى أن روسيا تستخدم بالفعل الأراضي البيلاروسية. غير أن المفاجأة الحقيقية ستكون في البصمة التي ستتركها هذه الخطوة على المشهد العام للحرب من حيث جوانب عدة، نناقش أبرزها في النقاط التالية:
● ستكون الدولة الروسية، بوصفها الدولة الأكبر في العالم من حيث المساحة، اكتسبت المزيد من التوسع الممتد على مسافة 207,600 كيلو مترات إضافية. وهو الشيء الذي من شأنه وضع روسيا في مرتبة جديدة من حيث الدول الأسرع نموًا، جغرافيًا، في العالم.
● سينقل ذلك خطوط التماس والمواجهة بين الشرق والغرب، المتمثل في روسيا من جهة، وسائر الدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا من جهة أخرى. لاسيما وإن كانت الثلاث دول التي تمتلك حدودًا مباشرة مع بيلاروسيا “ليتوانيا، ولاتفيا، وبولندا” جميعها أعضاء في حلف الناتو، وجميعها دول داعمة لأوكرانيا في الحرب من الدرجة الأولى.
● سيتحتم على أي دولة تتوسط في حل النزاع التفكير في توسعة حجم المنطقة الأمنية العازلة بين روسيا والغرب على حساب الأراضي الغربية وليس الأراضي الروسية ذات الحساسية الاستراتيجية للكرملين.
● سيترتب على ذلك منح روسيا الحق في مطالبة حلف الناتو بتنفيذ المزيد من التراجع للخلف على حساب أراضيه.
● ستكتسب هذه الخطوة أهميتها من الناحية السياسية بشكل يفوق الناحية العسكرية؛ إذ إنها خطوة ستمثل شوكة في وجه الناتو وقواعده الأمنية الأوروبية، وأي دولة أخرى ترغب في الانضمام إليه مثل فنلندا والسويد.
● سيترتب على ذلك خلق نقاط ارتكاز عسكرية جديدة لروسيا في بيلاروسيا تسمح للأسلحة الاستراتيجية الروسية بمسافة أوسع تسمح بالوصول إلى جنوب أوروبا.
● سيصبح من الممكن لروسيا نقل ذخائرها النووية إلى الأراضي البيلاروسية بأريحية شديدة، خاصة بعد القرار الأخير بتعليق العمل على اتفاقية “نيو ستارت”.
● تخفيف الحصار الأوروبي على مدينة كالينيجراد التي يستخدمها الغرب كورقة ضغط في وجه روسيا.
● سترفع هذه الخطوة من احتمالات انفصال إقليم ترانستسيريا في مولدوفا، وهي الخطوة التي سيكون من شأنها خلق أوراق ضغط عسكرية في يد روسيا تقترب أكثر فأكثر من أوروبا، بشكل يجعل من الضروري إعادة تشكيل النظام الأمني الأوروبي وفقًا للمعطيات الروسية على الأرض، كأمر واقع.
● سيشكل الجيش البيلاروسي إضافة للقوة العسكرية الروسية من حيث القوة البشرية فقط، وليس من حيث القدرات؛ نظرًا لأن القدرات العسكرية البيلاروسية في الأساس قدرات روسية.
● سيعني ذلك، إعلان الأراضي المنضمة حديثًا من بيلاروسيا قرار التعبئة العسكرية الجزئية تماشيًا مع القرار الذي سبق وتم الإعلان عنه في موسكو.
● ربما تمثل الأراضي البيلاروسية نقطة انطلاق، في المستقبل، للقوات الروسية تسمح لها بمحاولة إعادة الكرة والهجوم على العاصمة الأوكرانية كييف. وربما أيضًا، تمثل نقطة انطلاق لتحقيق مكاسب عسكرية في أوكرانيا من جهة الشمال، تكون أقل أهمية من العاصمة الأوكرانية لكن يظل الحصول عليها يحمل دلالة رمزية عسكرية كبيرة لروسيا.
وختامًا، تظل الحرب هي لعبة المفاجآت، وتظل جميع التقارير والتحليلات المرتبطة بها هي مجرد استنتاجات تقوم على أساس قياس المقدمات والنتائج أملًا في الوصول لاحتمالات، ربما تُصيب أو لا.
.
رابط المصدر: