مرة أخرى تعود البنوك الأمريكية لتتصدر مشهد الإخفاقات المصرفية، التى تعكس ملامح خفية لاقتصاد عالمى مأزوم، يناور بكل ما لديه من روشتات علاج كى يستوعب ما يجابهه من تحديات. هذه المرة دخل بنك «فيرست ريبابليك» دائرة الضوء الأحمر، فمنذ بداية الأسبوع الماضى يتكبد خسائر سوقية متتالية، فيما يشير التشخيص المبدئى لمشكلاته أنها بدأت مباشرة بعد إفلاس بنك «سيليكون فالي» فى مارس الماضى، عندما واجه تعثرا كبيرا فى توفير السيولة، وصنف حينها بين البنوك المتوسطة «الآيلة للسقوط». مما دفع «جى بى مورجان» أكبر البنوك الأمريكية لقيادة خطة شملت مساهمة (11 بنكا)، لانتشاله من مأزق تهاوى سهمه بنسبة وصلت إلى 90% فى فترة قصيرة للغاية.
تحالف البنوك الأمريكية الأحد عشر أودع من قبل بحسب الخطة، (30 مليار دولار) فى حساب «فيرست ريبابليك» لاحتواء الأزمة مؤقتا، بينما حاولت إدارة البنك زيادة رأسماله وعمل مستشاروه على التأكد من أن هناك مشترين محتملين لأسهمه الجديدة، إذ سيستخدم تلك الزيادة فى دعم الميزانية العمومية. لكن ما تسرب للمراقبين عبر مصادر صرحت لوكالة «رويترز»؛ أن مستشارى «فيرست ريبابليك» أخفقوا خلال الأيام الأخيرة فى الوصول لمستهدفهم، بعد إجراء اتصالات وتقديم عروض لأربعة من البنوك الأحد عشر المقرضة، لشراء بعض أصول البنك فجاءت الإجابة سلبية. حيث أحال هؤلاء الأمر؛ إلى أنه دون دعم حكومى لا يرون وفق تقديرهم سبيلا للمضى قدما فى تلك الصفقات المشكوك فى جدواها مستقبلا. لم تلبث تلك الاتصالات إلى أن وصلت للأسواق ومعها نتائجها، مما أحدث صدمة أدت إلى تسارع انهيار سهم البنك، فاقم المشهد التقارير التى أوردتها شبكة «سى إن بى سي» الأمريكية، عندما نقلت عن مسئولين حكوميين أنهم غير مستعدين حاليا للتدخل فى عملية إنقاذ «فيرست ريبابليك».
فى إجراء روتيني؛ تم إيقاف التداول على أسهم البنك مرات عدة خلال نهاية الأسبوع، بعد فقده 30% من قيمته خلال اليوم الأخير وحده، وكان معرضا لما هو أسوأ، واستقر عند فقدان 80% من قيمته فى مجمل تعاملات الأسبوع. إدارة البنك تذرعت بأن سبب الأزمة وهذا الإخفاق الحاد خارج عن سيطرتها، فى حين يرى المساهمون أن الإدارة تتحمل وزر ما جرى، بعدما نشرت تقريرا أفصحت فيه أن (100 مليار دولار) من الودائع خرجت من البنك فى الربع الأول من هذا العام، ليمثل التقرير جرس إنذار بأن البنك لديه مشكلة سيولة كبيرة، مما تسبب فى عمليات البيع السريع لأسهم البنك وسقوطه فى تلك الدائرة المغلقة. هذا الترنح المفاجئ أخرج للنور بعضا من تفاصيل الأزمة، التى بدأت كغالبية البنوك الأمريكية فى سياقها التقليدى، عندما قام «فيرست ريبابليك» بشراء السندات الحكومية الأمريكية لفترات طويلة، قبل بدء سيناريو رفع الفوائد فى مارس 2022، استنادا إلى أن هذه السندات تعد الأكثر أمانا وعوائدها طويلة الأجل. لكنها وعلى نحو غير متوقع تراجعت قيمتها بعد رفع الاحتياطى الفيدرالى أسعار الفائدة لمعالجة نسب التضخم، حينها أصبحت هناك سندات فى السوق بعوائد أعلى.لذلك عندما جاءت أزمة البنوك فى مارس الماضى، أصبح تسييل هذه السندات سريعا له مردود عكسى، إذ ستأتى بسيولة خادعة غير مكتملة القيمة، ولا يمكنها تغطية عمليات السحب السريعة من الودائع الأصلية.
كشفت وثائق الإفصاح لبنك «فيرست ريبابليك»، أن صافى الخسارة للبنك من السندات المتاحة للبيع فى عام 2022 نحو (470 مليون دولار)، مقابل خسارة قدرها (44 مليون دولار) فى العام السابق. كما شملت الخسائر أيضا تكبد السندات المحتفظ بها حتى تاريخ الاستحقاق فى عام 2022 نحو (4.77 مليار دولار)، مقارنة بمكاسب حققها البنك فى عام 2021 بلغت (1.12 مليار دولار).
بعد ذيوع تلك الأرقام الصادمة أصبح من غير المعروف ما هو الترتيب الذى سيحوزه بنك «فيرست ريبابليك»، فى قائمة الفشل المصرفى الأمريكي. فحتى الآن مازال بنك «سيليكون فالي» يحتل المرتبة الثانية لأكبر حالات الفشل المصرفى، بعد سحب عملائه (42 مليار دولار) فى يوم واحد، قبل أن تهرع الجهات التنظيمية الحكومية والفيدرالية فى محاولة لإنقاذ ما تبقى منه. فيما مازال بنك «واشنطن ميوتشال» يحتل المرتبة الأولى منذ انهياره فى أزمة عام 2008 العقارية. وقد أشار المحللون الأمريكيون الأقرب لمصادر اللهب، إلى أن مجلس الاحتياطى الفيدرالى حذر البنوك خلال السنوات الأخيرة مرارا من عدم كفاية أنظمة إدارة المخاطر، كما أسندوا وقوع مثل تلك الصدمات لآلية «الأموال الساخنة»، بالنظر إلى نسب الودائع غير المؤمنة التى وصلت فى البنوك الأمريكية لمستويات قياسية فى الآونة الأخيرة.
المثير أن أهل الخبرة من الاقتصاديين لم يتوافقوا على حلول أو أمصال حماية من تكرار مثل هذا المشهد مستقبلا، ففيما لم تغب بعد عن الذاكرة حالة بنك «سيليكون فالي» التى لم تقف عند الحدود الأمريكية، مازال الجدل وعدم اليقين سائدا بين الشركاء الكبار. فى المملكة المتحدة بعد انهيار بنك «سيليكون فالى»، بيع فرع المجموعة فى لندن إلى «إتش إس بى سى» فى صفقة إنقاذ، مما جعل محافظ بنك إنجلترا «أندرو بايلي» يدخل على خط التشخيص للأزمة، عندما انتقد بشدة قرار السلطات الأمريكية تغطية ودائع «سيليكون فالى» التى تتجاوز (250 ألف دولار) بقواعد التأمين الفيدرالية على الودائع.
فى مقابل تأكيد وزيرة الخزانة الأمريكية «جانيت يلين» أن تلك الآلية من شأنها توفير حماية لمدخرات المودعين فى حالة انهيار مصرف أصغر آخر. هذا سجال لاثنين من أكبر مديرى السياسات المصرفية على مستوى العالم، ختم بايلى حديثه بأنه «علينا أن نكون متنبهين للغاية، نحن فى فترة من التخوف والتأهب الشديدين، وسنواصل ذلك». هذا حديث يؤكد دون شك؛ أن اليقين مازال غائبا.
نقلا عن جريدة الاهرام السبت 29 أبريل 2023
.
رابط المصدر: