البنية الحجاجية.. خطبة الزهراء (ع) مثالا

خطبة عصماء كانت هي الشرارة لما هو ات، وحجر الاساس لما سال من دم طاهر، بدأ مباشرة بعد ان اطلقت فكانت بؤرة ومركزا ودستورا للحق الذي سلب، وللدم الذي اسفك، ونقصد بها خطبة السيدة الزهراء التي بينت فيها حقها في ارض فدك اولا، وفيها دلالة وتأكيد في حق زوجها…

بقلم: أ.م.د. خالد عبد النبي الأسدي- أ. د. مسلم مالك الاسدي

ملخص البحث

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين على نعمائه، والصلاة والسلام على مظهر آلائه وصفوة أنبيائه، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

لا يخفى على أدنى طالب علم شخصية تاريخية انقاد لها الوجود وقرن الله رضاه برضاها وغضبه بغضبها، سليلة خير خلقه من بدو من حضر، وقد تربت في أحضانه طوال مسيرتها الحياتية وهي تُفرغ عن لسانه إذا نطقت، لذا كان اختيار الخطبة الفدكية الغراء لبيان الوشائج الكلامية المتراصة والمترابطة بينها وبين خطب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، جاء البحث بتمهيد تخلل شذرات من حياة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام، ومن ثمَّ جاء المبحث الأول بعنوان: الحجاج البلاغي، تبيَّن من خلاله القوة البلاغية التي تتمتع بها السيدة الزهراء عليها السلام.

وبعده جاء المبحث الثاني بعنوان: الحجاج اللغوي، الذي اتضح في أثنائه استعمال السيدة الزهراء للألفاظ التي تبعث على التأمُّل والروية لمقاصدها. من خلال حركة الأفعال المباشرة وغير المباشرة.

ثم أختتم البحث بخاتمة تبينت من خلالها أبرز النتائج.

هذا ونسأل الله تعالى أن يوفقنا ويأخذ بيدنا خدمة للدين والوطن والمذهب، وأن يُثبتنا على ولاية محمد وآل محمد إنَّه سميع مجيب.

والحمد لله رب العالمين..

المقدمة:

بزغ فجر الاسلام في ربوع مكة، ونشر اشعته الذهبية على أركان الحرم، ومقام ابراهيم والحجر، وطارت نسمات الحق بأجنحة من نور نحو افاق البسيطة، تحمل نور الله بيد محمد واله وصحبه المنتجبين، ليدخل السلم والطمأنينة في قلوب طالما اعتراها الجدب والهم والالم، لحاجتها لسد جوع في المعتقد والدين، قلوب وانفس احتاجت الى مخلص فكان محمد، واحتاجت الى تابع ووصي يكمل المسيرة فكان علي (عليه السلام) وأم وسيدة ومثال يعكس نور محمد (صلى الله عليه واله وسلم) نفسه فكانت فاطمة، التي خطفها الموت سراعا وتطلبها بعد ابيها في بضعة اشهر، الامر الذي جعلها قليلة النتاج كبيرة الأثر، فيما سطر بعدها من تاريخ مضرج بخيط دم سال ولم ينقطع دم مقدس كان منارا لكل ثائر لأجل لحق وطالب بالمساواة.

وهذا يضعنا الان امام شيء من نتاج تلك المرأة؛ خطبة عصماء كانت هي الشرارة لما هو ات، وحجر الاساس لما سال من دم طاهر، بدأ مباشرة بعد ان اطلقت فكانت بؤرة ومركزا ودستورا للحق الذي سلب، وللدم الذي اسفك، ونقصد بها خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام) التي بينت فيها حقها في ارض فدك اولا، وفيها دلالة وتأكيد في حق زوجها وابن عمها ووصي ابيها بخلافة محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، وتقلد امرة المؤمنين الذين اجتمعوا بأطيافهم كافة تحت منبرها لسماع خط محمد وألفاظ محمد وبضعة محمد واسلوب محمد، ينساب بصوته الهادر يجادل ويستقصي ويعطي دروسا وعبر لمن قد تكون نفسه وقدمه قد زلت عن الطريق، فاحتاجت الى رادع وموجه، فكانت الزهراء (عليها السلام) هي الموجه والمرشد، بخطبة عصماء ظاهرها ومطلبها فدك وباطنها واساسها الاسلام، وما سيصيبه اذا ما عطلت الحقوق، واختلفت الاهواء، وأُشربت النفوس للكسب ولشهوة المال والسلطة والجاه.

وكل هذا جاء وفق كلام إنماز بلون خطابي حجاجي يهتم بعرض المسألة والدليل والمحاججة مع من لا يتقبله من المستمعين بأسلوب شيق جمع فيه الحجاج والجدل والمحاورة والخطاب المباشر مع الاقتباس المباشر مرة من الآي الكريم، وامتصاصه مرة اخرى لخدمة الغرض المطروح.

وبسبب كل ما تقدم ولما انماز به هذا الأثر من كمال توجه الباحثان لمحاولة دراسة كل ذلك بوساطة هذا البحث الموسوم بـ البنية الحجاجية خطبة الزهراء عليها السلام مثالا، لمحاولة توجيه وسبر اغوارها عن طريق بعض آليات الحجاج وعناصره الاساسية.

وتبعا لمقتضيات الموضوع فقد اشتمل البحث على تمهيد بينا فيه موضوع الخطبة وسبب القائها واهم العوامل التي استدعت خروج سيدة النساء وكوثر ال محمد الى العلن لتوجيه الناس، وبعدها نمر سراعا لبيان ماهية الحجاج ومفهومه.

وفي المبحث الاول سوف نتطرق لدراسة مفهوم الحجاج البلاغي، من صورة تشبيهية حجاجية، فاستعارية فكنائية، وفي المبحث الثاني نتحدث عن الحجاج اللغوي بنوعية الاستلزام الحواري، ومن ثم نظرية افعال الكلام ثم خاتمة نبين فيها اهم النتائج فقائمة بالمصادر والمراجع، هذا ولابد من الاشارة إلى ان الباحثين قد اعتمدا لدراسة الخطبة على مانقله ابن ابي طاهر المعروف بابن طيفور (ت، 280) كونها قد نقلت من خلاله بأسانيد معتبرة لم تخرج في رجالها عن ابي الحسين زيد بن علي بن زيد بن علي بن الحسين يبلغ به فاطمة (1).

التمهيد:-

أولا: حياة السيدة فاطمة (عليها السلام) في سطور.

الزهراء فاطمة؛ بنت رسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله سلم) بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية (2) سيدة نساء العالمين البضعة النبوية والجهة المصطفوية، أم أبيها بنت سيد الخلق، زوجة الوصي الامام علي (عليه السلام) وأم الحسنين (3) انتقلت إلى الرفيق الاعلى بعد وفاة ابيها بمدة لا تتجاوز الاربعة اشهر (4).

جمعت (عليها السلام) العلم والحلم والصدق والامانة واحقاق الحق ورفض الباطل والظلم، كانت بنت ابيها وزوجة زوجها سايرت النهضة المحمدية بكل احزانها وافراحها، كانت شاهدة على اعظم انتصارات، ومشاركة في الحزن على من قبروا من اهلها في بطون الفلوات، استمرت مواسية مشجعة هادية مهدية، مثلت وعكست حياة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وعلي (عليه السلام) خير تمثيل حتى اصبحت مثالا يضرب لمن اجتمعت فيه الصفات وللامرأة الفاضلة، التي لم تشوب حياتها شائبة المنغصات، ولم تنتقص منها الادران المحيطة شيئا؛ لصفائها ولعصمتها التي اكتسبتها وراثة وعملا فكانت بإجماع الامة سيدة نسائها وحاملة لواء الطيبات منها، سائرة بالحق متسلحة بالشرف والعفة والعلم والحكمة، لم تخرج لغاية دنيوية، بل لعلاج ارواح تعشقت الحياة بأردانهم فأصبحوا يحلمون بالرفعة والترفع، واصبحت الوجاهة، وأطايب الحياة مطلبا، واصبحت اعواد محمد وعرقه وتعبه وجهاده المكنون تتعاصفه الأهواء، وتتقلبه العواصف، فكانت السد الذي يعيق؛ والدليل الذي يجلي الظلمة، والمشكاة التي تنير السبل، فشمرت عن مكنون فؤادها وخرجت لأمة أبيها علَّهم يرعوون وللخير يزرعون وللحق يعود الزرع.

ولكن هيهات فالجرح كبير، والهم منتشر والحسد قد استحكم، والشيطان قد زرع بذوره وسقاها، فنمت في ارض صالحة، تنتظر من يغرسها وينمي الغرس فتلقفها المسلمون متوشحين بشيء من روح الجاهلية ورغبة بتوزيع المجد والمكارم وللرفعة، فما لآل هاشم ان يفوزوا بالحسنين النبوة وامامة الامة وخلافتها دون سائر بيوتات مكة ووجاهاتها وأغنياها كل هذه اجتمعت لتحقق الصبوة عن حق اساسه (الخلافة) وحق آخر (فدك) التي اتت في حكم المتوسطة بين قضية اكبر واثرها احكم وأخطر ولكن مقياس الاولى على الثانية، فرض سلب الاثنين معا حتى تنخفض اصوات المعترضين وتتلاشى ولكن للحق لسان لا يخبو مهما استوحش سالكيه، فكانت فاطمة هي اللسان الذي سطر كلمة الحق على اعواد محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ومنبره الثر منه جاءت تعاليمه ومنه سارت بحبل الله الموصول لسان محمد فـ لسان فاطمة جوهرة الاسلام وعقيدته السمحاء وتعاليمه المائزة عدلا ورحمة ومساواة.

الحجاج:

الحجاج من الحجة وهي ((البرهان وقيل الحجة هي ما دفع به الخصم، وقال الازهري الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وحاجه محاججة وحجاجا، نازعه الحجة وهو رجل محجاج أي جدل والتحاج والتخاصم وجمع الحجة: حجج وحجاج وحجة يحجه حجا غلبه)) (5)، فالبرهان والجدل والظفر بهذا الجدل هي المقاييس الاساسية التي يقوم عليها هذا المفهوم، وغايتها جميعا اقناع المتلقي بالمفاهيم والاطر التي يؤمن بها الباث ولكنه اقناع لا يستلزم القوة او العداوة بل يتطلب وسائل اخرى منها الاستدلال والتعليل والاستعانة بالأخبار والمواقف السابقة، وما جادت به المخيلة من اثار لروائع الكلام.

فالحجاج يحدد بحسب شروطه السياقية أو استعماله التخاطبي المتمثل في التفاهم والتنازع والجدل والغلبة بعدها عمليات محددة مؤطرة بمعانيها الفكرية والتواصلية (6) وهذا المفهوم نراه نفسه يعود حديثا فيعرفه بيرلمان بأنه ((جملة من الاساليب تضطلع في الخطاب بوظيفة حمل المتلقي على الاقناع بما تعرضه عليه أو الزيادة في حجم هذا الاقناع معبرا أن غاية الحجاج الاساسية إنما هي الفعل في المتلقي على نحو يدفعه إلى العمل أو يهيئه للقيام بالعمل)) (7).

ولكن هذا الاقناع يرتبط ارتباطا وثيقا بالمتلقي فهو رهن لمشيئته الامر الذي يفرض الزاما على الباث ان يغير من الشكل او الاسلوب الذي انتجت فيه الرسالة او العمل في كل مرة، تبعا لطبيعة ومقام المخاطبين (8)، وهذا الامر يؤدي إلى ان الخطاب الحجاجي خطاب خاص مجاله اللغة الطبيعية يهدف إلى استمالة المتلقين للحصول على تأييدهم أو تغيير اعتقادهم حول قضية ما دون اللجوء إلى الالزام او الاضطرار (9) وهذا الامر يحتاج الى باث متمكن من آلياته المعرفية وملكته اللغوية بحيث يستطيع الولوج بشفرات اللغة الخاصة التي تجمعه بالمتلقي الى اخوار سحيقة مما يظنونه أو يعتقدوه حتى يحصل على مراده.

المبحث الأول: – الحجاج البلاغي

يرى ارسطو أن البلاغة هي (الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع في اي موضوع كان))(10) اي انه يقصر وظيفتها على الاقناع لذا ترتبط بلاغة ارسطو بالمحاججة والتطبيق الملائم لها هو فن الخطابة الذي يهدف إلى الإثبات والاقناع بوساطة الخطاب (11)، فالبلاغة دراسة كيفية اقناع السامعين بأن يفكروا ويتصرفوا بطريقة ما وعند تتبعنا ما جادت به قريحة السيدة فاطمة (عليها السلام) من هذه الاساليب البلاغية التي ارتبطت بغاية اساسية هدفها الاول هو اقناع المستمعين بحقها بما استملكت من ارث والدها بصفته الدنيوية، وبالوجاهة الالهية التي اكتسبها بفعل رباني وثانيها حق بعلها وزوجها وابن عم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ووصيه بخلافة المسلمين والمسير لحياتهم ولشؤونهم الحياتية والدينية والمقيد لرقابهم بعهد قريب وبيعة لا تنقض اخذت بعد مسيرة ظافرة وحجة عامرة لا شرف بقعة في البسيطة (مكة المكرمة) عوامل مجتمعة وفرت روحانية للحدث لا يمكن ان تنسى او تتناسى.

كل هذا تحركت ضمن فلكه السيدة فاطمة (عليها السلام) مستعملة في سبيل ايصال مفهومه لجملة من العناصر اللغوية ومنها العناصر التي كان للمجاز وعناصره المتنوعة شرف المشاركة فيها ومن تلك العناصر الاستعارة، التشبيه، الكناية، والتي استعملت لغاية حجاجية همها احقاق الحق وخلب الالباب واستمالة القلوب وتصوير المشهد وعمل فجوة وتوتر بين الواقع والخيال وخلخلة كل ذلك بما يخدم النص والقضية لذا سيحاول الباحثان تتبع كل ذلك في الخطبة الفدكية وكما يلي:

أولاً: الصورة الاستعارية والحجاج:

الاستعارة ((مجاز بلاغي فيه انتقال معنى مجرد إلى تعبير مجسد، من غير التجاء إلى أدوات التشبيه أو المقارنة))(12)، أو هي ((استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي))(13) اسلوب بلاغي بياني اصبح بعد ان كان خاملا في باكورة النقد العربي مدار ابداع واهتمام ولاسيما بعد ظهور اصحاب البديع وتفننهم في استعماله وادخاله في نتاجهم الادبي حتى اصبحت الاستعارة ركنا اساسيا تقاس من خلالها اجاده الشاعر وتمكنه، ولكنها مثلها كمثل البقية من الاساليب الفنية دخلت دوائر النقاد واخذت تتأرجح بين فلك نزعتهم الدينية او الذوق الفني والمدرسة التي يتتبعوها والطريقة التي يفضلونها في القول فكانت عند بعضهم بؤرة النص(14).

وذهب اخرون الى الهجوم عليها والحض منها وطلب الوضوح فيها والتقييد بما فرضته اللغة من علاقات يجب ان تراعى (15)، ولكنها بعد ان ماجت الفلسفة اليونانية وغيرها في جسد المنظومة الثقافية العربية والانفتاح الكبير والتلاقح بين القديم والحديث وظهور حركات عقدية فقهية كثيرة اثقلت بظلالها ذوق النقد واسالت في جنباته مداد اقلامها وادخلت فيه شيئا من روح المنطق والفلسفة، فساحت الاستعارة في ركب الجرجاني؛ لتكون الاستعارة منتظمة لديه بروح حجاجية تقوم على مفهوم الادعاء، فهي عنده ليست حركة في المعاني والدلالات وهي ليست بديعا بل هي طريقة من طرق الاثبات الذي يقوم على الادعاء (16)، اي انها مبحث بلاغي تغير وجهة المتلقي بالاستجابة لما يطرحه الباث وتحقق له شيئا من الاذعان والانقياد لما هو في صدد تمريره للمخاطبين، فالاستعارة عملية ذهنية تقوم على التقريب بين الموضوعين، بالنظر الى احدهما من خلال الاخر، فتكتسب اثرها من خلال التأثير الذي تحدثه في المتلقي في سياق معين فتكون أكثر إثارة لانتباه المتلقي وأكثر قدرة على التأثير فيه بقدر ما تحقق من غرابة وانحراف عن العادي المألوف (17).

ولو تتبعنا النص الزاهر للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، نجدها تتخذ هذا الاسلوب البلاغي بصفته الحجاجية لتمرير شيء من مفاهيمها ونظرتها الخاصة بما آل اليه سبل الاسلام من انكسار ظهرت اولى بوادره بعد وفاة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فكيف السكوت على قوم جثمان نبيهم وولي امرهم، وعمود دينهم مسجى، وهم بصدد تقسيم ميراثه وفق سبيل واحد يحقق المراد وتأويل وضع على اقيسة خاطئة قد تفرد اصحابها وساروا وماجوا واصبحت بحكم التفاهم والمصالح امرا مسلما قارا لا يمكن نقضه فتحركت الزهراء (عليها السلام) الهويناء لتصحيح سبل القوم ولإرجاع الحق الى اهله، ولا نقصد بالحق فدك لأنها في الحقيقة رمز لما هو اكبر واوسع واعم واهم خلافة المسلمين ومن هو الشخص الاحق بها وفق مدلولات تتضمنها الخطبة واشارات تتلاحق ومضاتها سراعا بين الفينة والاخرى من خلال درر الكلام الذي احتوى على خطين وسياقين في الاصل اتفق عليهما الخطيب وسامعيه تقول عليها السلام (18):

((ايها الناس اعلموا أني فاطمة وابي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) أقول عودا وبدوا ولا اقول غلا ولا أفعل ما افعل شططا لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليكم عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فان تعزوه وتعرفوه تجدوه ابي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم ولنعم المعزى إليه (صلى الله عليه واله وسلم) فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم أخذا بأكظامهم داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة))، للتأثير في المتلقي قاربت (عليها السلام) بين الصدع في الاصل يستعمل في الزجاجة ونحوها (19) كسر بسيط لا يمكن اصلاحه ذكر في كتاب الله العزيز بمعنى التبليغ استعارة (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (20)استعارته الزهراء بمفهومية القرآني واللغوي فصدعت بالأمر للقوم للتبليغ والتكلم بالجهر (21) والاعلام والانذار على وجه التخويف من الخروج عن سنة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) والتفنن في مجانبة الحق والتعالي عليه.

والاخذ بالمعنى اللغوي بإشارة محاججة كيف لقوم يخلفون محمد وبطانتهم قد صدع اغلبهم بدعوته صدعا لا يمكن اصلاحه في العقيدة وفي اموالهم وجاههم وامارتهم التي ازالها وبنى عليها دين جديد يدعو الى المساواة والحرية ثم كيف تصفوا قلوب هؤلاء ويرجعون الحق لآل محمد وقد خطف سيف خليفة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) اغلب رقابهم واجبرهم على الدخول في الدين رهبة لا رغبة، طلقاء غير احرار، كلها صورة استعارتها الزهراء لإدخال القوم في منظومة منتظمة وخلخلة الثابت الذي وضع كالبؤرة التي سيقف عليها الدين ومن يقود وينفذ تعاليمه، الثابت الذي وضع بمشورة بعض الطلقاء، لتشير الزهراء الى ابيها اولا اخذة بالميل عن سنن المشركين ولأنكم الان تأخذون كلامهم كسند لأول تشريع لدين مابعد محمد عليه افضل الصلاة فأين انتم من محمد ومن افكاره ودعواه ونذره واسلامه؟ وطريقه الواضح المبين للحق والمسدد بحبل متين موصول من الارض (بيت النبوة) ومهبط الرسالة والوحي إلى اعمام السماء وعرش الرب تبارك وتعالى.

وقولها (عليها السلام) (22):

((فلما اختار لنبيه دار انبيائه ومأوى اصفياه ظهر فيكم حسكة النفاق وسمل جلباب الدين ونطق كاظم الخاوين ونبغ خامل الاقلين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللعزة فيه ملاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا واحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم هذا والعهد قريب والكلم رحيب والجرح لما يندمل)).

بدأت السيدة الزهراء في هذا المقطع بالحركة الثانية التي انزاحت في تراتبيتها فجادت بالزمنية، من ما تفاضل به الرسول على قومه وما جادت به تعاليمه الممتدة الى السماء عليهم من فضل دين وذر الرماد على فكر متأصل الجذور لعبادة اصنام واتباع شيطان، فانتفى كل ذلك مادام المصطفى ينشر زهوه وتعاليمه ولكن كل هذا انتفى ما ان سجي النبي في لحده، وقبل ان يدفن في قبره الطاهر فظهرت حسكة الشيطان حقده وعداوته استعارة حجاجية استعارتها الزهراء هي ونبغ كاظم الغاوين الساكت والساقط الذي لا نباهة له (23) ولا دور في نشر الاسلام او الذوت عنه واستعارت له الغواية من الشيطان لأنه يوسوس بها وسواسا تحول الى نطق تجاوز فيه تعاليم استاذه ثم تستعير لفظة (وهدر فنيق المبطلين) الهدر صوت الفحل في حنجرته فأصبحت اصواتهم هادرة بعد ان كانت خاملة لا تتجاوز وسوسة الشياطين (النفاق).

وكل ما تقدم من استعارات تتوشح بمسحة حجاجية تنمي عن واقع ثقافي واجتماعي فرضه الاسلام فالمبطلون والصحاب النفاق انتكست راياتهم ومرتبتهم واصبح همهم هو العيش على الهامش وتتبع الاحداث المتسارعة لدولة الاسلام ولكنهم استغلوا الوقت والفراغ وحالة الحزن الذي اصابت امة وليده تحاول ان تنشئ لنفسها كيانا لتهدر اصواتهم كهدير الفحل ولتتحول الوسوسة والنفاق إلى فعل ولتركب الموجه فيتحول المهمش الى منظر وقائد وحامل للواء والمتحكم بالمقاليد، وليصبح الطلقاء ادعياء حق، واصحاب مكانة فرضها الواقع الجديد الذي امتد بجذوره الى استرجاع همة الرجال واعادة روح الجاهلية بثوب جديد، يجمع بين جلباب الدين، ونفس الشياطين، كل هذا توضحه الزهراء (عليها السلام) اولا ثم لتزيد المحاججة وتعود لنقطة اساسية بؤرتها الزمن شيطانكم (روحكم الجاهلية) عادت ونبيكم لم يقبر فتقاسمتم ارثه وروح دولته ومدارها الرحيب ووليدها الذي لم يشتد عوده فارجعتموها جاهلية بأفعالكم وسلبتم اهل بيته مكانتهم التي اقرها الله في دستوره ومتن كتابه الكريم وخلدها محمد (عليه افضل الصلاة والتسليم) بيده وافعاله ووصاياه.

ومنها ايضا قولها عليه السلام متوجهة بكلامها للأنصار (24):

((انتم…… الخيرة التي اختيرت لنا اهل البيت قاتلتم العرب وتحملتم الكد والتعب وناطحتم الامم وكافحتم البهم لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأمرون حتى إذا دارت بنا رحى الاسلام ودر حلب الايام وخضعت ثغرة الشرك وسكنت فورة الافك وخمدت نيران الكفر وهدأت دعوة الهرج واستوسق نظام الدين فانى حزتم بعد البيان واسررتم بعد الاعلان ونكصتم بعد الايمان بؤسا لقوم نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم)).

تصف الزهراء الاستعارة بسلوك جديد يتمثل بدر حلب الايام فالدرة التي ترتبط في ذهن العربي بالخير الجيد الذي استعارت له الدر (الحليب) سائل يغطي عند وروده الماء وما توظفه هذه اللفظة من اثر في ذهن العربي ولكنه ماء يغذي الروح والبدن (الايمان –معنوي) (المال –مادي) والمفردتين ترادفتا معا في لفظة الدر ثم تسحب كل مدلولاتها للأنصار فهاهو الخير قد ورد وهاهو الدين قد استقام وهاهو الخير قد قدم وكل هذا تحقق بكم وبسيوفكم التي اشرعت بوجه دولة الشياطين، ولكن العجب انكم نكصتم ايضا، وشرعتم تتلقفوها بينكم ولكن ثقافة القدم والثابت (الهجرة والصحبة الاولى) كنمط ثقافي سائد تليد (قديم) متحكم، فرض اثره وامرة فساد مرة اخرى، وذهبت هبتكم ومنعتكم وثقافة التجديد التي اشرعت سيوفكم يوما من اجلها وتابعتم القوم في طريق يخالف ما تعاهدتم عليه مع محمد (غدير خم)، ومن قبله الرضوان وغيرها اماكن اصبحت ثوابت للعهد ولإقامة الدين ولنصرته.

ثانيا: الصورة التشبيهية والحجاج

يعرف التشبيه بأنه ((صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته؛ لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكن إياه))(25)، أو هو ((الدلالة على مشاركة أمر لأمر آخر في معنى من المعاني))(26).

فهو محاولة بلاغية جادة تستعمل لصقل الشكل، وتطوير اللفظ، وتقريب المعنى من الذهن، بتجسيده حيا، ومن ثم فهو ينقل اللفظ من صورة إلى صورة اقرب على النحو الذي يريده المصور، فإن أراد صورة متناهية في الجمال والأناقة شبه الشيء بما هو أرجح منه حسنا، وإن أراد صورة متداعية في القبح والتفاهة شبه الشيء بما هو أكثر رداءة منه صفة (27)، فالتشبيه صفة اقناعية تستغل من لدن الباث لعمل تداخل حجاجي بين الواقع وما يصوره للمتلقي اخذا بمخيلته الى اسحاق رحيبة ماورائية تحقق مبتغاه اولا ولكن بصيغة غير مباشرة بل بشكل متدرج كحباب الماء النازل حالا بعد حال فيتلقفها الباث بين حقيقتها الاولى والفجوة التي احدثها التشبيه، وهنا يكون المتلقي منتظرا عقلة لتجميع الشتات وملء كل ذلك بمعان ربما تكون هي المطلوبة او لا فتحدث فورة حجاجية اخرى تطلبت اول الامر واستمر اثرها مع مختلف عناصر العملية الابداعية.

وعند تتبع حجاجية التشبيه في النص الفدكي نجدها (عليها السلام) تقول (28):

((وأنتم الان تزعمون ان لا ارث لنا أفحكم الجاهلية تبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون أفلا تعلمون بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية اني ابنته أيها المسلمون أاغلب على أرثي))، الصيغة الحجاجية التي انار التشبيه ظلمتها فاسند بشيء من المعنى للموقف فالشمس تجلي ظلمة تقصدتها السيدة الزهراء شمس الاسلام ظلمة الجاهلية تتحركان متقارنتان مرة تظهر الاولى لتخفت بنور الثانية التي تعود الى ديدنها الاول ولكن هذه المرة عادت بسيوف وقدت نارها ورفعت شعلة التغيير والنور والطريق المبين شعلة الانصار اصحاب البيعتين، هذا مع ما في النص من خلخلة للمواقع ولده الاستفهام الذي تكرر بصيغة التعجب المفصول بالاستفهام الانكاري مع دلالة اشارة طبقية انتم حماة الدين وسيوفه الضاربة عرفتموه منذ كان وليدا مشكاة صغيرة يشع منها النور فكيف بكم تسيرون مهمشين تابعين؟ بعد ان سطع نوره كالشمس، واحكامه التي ارثتني لمحمد فكيف تسلبوني ذلك وبتعاليم محمد التي تتبعتموها وجعلتموها ميقاتا لأعمالكم وسنة تتبعتموها في حياتكم ودستورا لا ينتقض وملاذا لا يعدم وطريقا بينا لا يمكن الحياد عنه.

ومنها ايضا قولها (عليها السلام) (29):

((ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها ثم أخذتم تورون وقدها وتهيجون جمرتها وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي واطفاء أنوار الدين الجلي واهمال سنن النبي الصفي تشربون حسوا في ارتغاء وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء ويصير منكم علي مثل حز المدى ووخز السنان في الحشا وانتم الان تزعمون أن لا ارث لنا)).

في النص اكثر من تشبيه مبطن بعتب ومحاورة وطلب استرجاع للأحداث فتشبيه الدنيا بالدابة النافرة التي سلست قياتها وسكنت واصبحت لينة وانقادت بسيوف امد الله بنصالها وعضد ساعد حامليها وسدد خطاهم وآزرهم في الشده وووفقهم لوهد حمية الجاهلية لتعودوا مرة اخرى لوقدها طالبين الامارة عرجا بحكم الجاهلية، موقدين نيرانها التي خبت جمرها تحت الرماد وتسرّون اشياءكم شيئا بعد شيء لهضم حقنا خوفا من غائلة العرب، وكلام المؤمنين وخوفا على انفسكم من تهمة المروق عن الدين، والرمية خارج السنن، والعهود التي مازال عبق عطرها منتشرا ومازالت اجنحة الاسلام ترف فوق اعواد المنابر وفي افنية المساجد معيدين حرابكم نحونا سرا بلسانكم مرة وبأفعالكم اخرى، ولكنكم وتحت ما تشعرون به من تهميش وطبقية انمارت كبار المهاجرين بقيادتها اصبحتم لهم تبع ولكن في صف اوطى وفي مكان لا يرتقي لما انتم عليه من الحق فأصبحتم خارجين باثنتين حقكم وحقي تنازلتم عن الاول ثم وخزتم جنبي بنصال رماحكم وبمدى سيوفكم وهنا التشبيه الاخر وتقصد به اللسان فهامشيتكم وخوفكم من ثائرة العرب جعلتكم منكفئين عن الحق متتبعين الباطل مانعين الحق لا لتستثمروه لأنفسكم بل لمن قومتموهم بسيوفكم وبمن استضعفكم سابقا واراد ان يشف وجودكم.

ثالثا: الصورة الكنائية والحجاج:

الكناية فن من الفنون التي من شأنها منح النصوص الشعرية غنى دلاليا، عن طريق ما تحتويه من تكثيف للمعنى الذي تضمنه في طياتها، لذلك عرفها الجرجاني بقوله: ((هي أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكنه يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه))(30)، وهي أيضا عدول عن التصريح بالمعنى إلى ما هو أجمل منه وأليق؛ لخدمة أغراض تتصل بالأدب ورهافة الحس وبالمعنى(31)، فالكناية ذات دلالتين تقوم كل منهما في إنتاج معنى أولي مباشر يمكن تشبيهه بالواجهة، وآخر عميق ناتج عن فكرة اللزوم التي تحصل بعد التركيز في الغرض الذي يرمي إليه المتكلم(32)، ولهذا عدت الكناية أبلغ من التصريح؛ لقدرتها على الإثبات والتوكيد، وإيجاب الصفة للشيء، بما هو شاهد في وجودها(33)، وعند تتبعنا للنص الفدكي لخطبة السيدة الزهراء (عليها السلام) نجدها تمور بمفاصل هذا العنصر البلاغي والمتحرر ضمن مدار المعاني الثانوية التي كانت هي البؤرة المتطلبة من لدن السيدة فاطمة (عليها السلام) تقول (34):

((واسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقائق الشياطين وطاح وشيظ النفاق وانحلت عقد الكفر والشقاق وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القد أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه واله وسلم))).

النص بجمعه يشير لنور الاسلام الذي نشر اشعته البيضاء على البسيطة واسفر الحق عن وجهه الناصع مختالا ينشر تعاليمه البيضاء واياديه المباركة، ناطقا بقول محمد وسنته المباركة ومنتدبا طريقه المبارك سائرا بكتابه وبتعاليمه الغناء التي انتشرت بجهود من النفر البيض الخماص كناية عن صفاء قلوبهم وزهدهم الذي اوقف عودهم وجعلهم خماصا عبادة وزهدا نفر اقاموا دولة العدل التي بها تفكهون، كل هذا يظهر ثم تعود السيدة لتتكلم في المكان الذي ولد فيه كل ذلك لقد ولد في المهمشين وقادهم نحو المجد والخير وولد لهم الكيان الذي اصبحوا عليه وبه يقتدون وبه يفاخرون العرب فكيف بكم قد تناسيتم كل ذلك وانكفئت حالكم وسرتم في ركب السلطان منادمين طالبين للإمارة والجاه ومن هذا الباب قولها (عليها السلام)(35).

((وطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللعزة فيه ملاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا واحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم هذا والعهد قريب والكلم رحيب والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)).

يكني النص عن الفتنة التي اصابت المسلمين بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) بل قبل ان يدفن في مرقده الطاهر المقدس ويقصد بالفتنة اجتماع (السقيفة) وتقسيم الادوار، وتسير خلافة المسلمين وابعادها ان صاحب الحق، وعن صاحب العهد، وبطل الحرب، وصاحب التنصيب يوم غدير خم ونقصد (الامام علي (عليه السلام) فالجرح مفتوح ولما يندمل لقرب العهد به، كناية عن عظم الامر وشدته، وكل ما في النص تحريض على من ساق الناس للبيعة واستغل الظرف لأخذها ترهيبا وترغيبا وعرفا وحقا بالأقدمية والصحبة وبمباركة من كبار المسلمين وبعض المتنفذين الطامعين بالمرتبة وبعض اصحاب النفاق ممن اضطرتهم الاسباب لركوب الموجة وتتبع هدى الاسلام رهبة لا رغبة، فيكون لسان حال الزهراء (عليها السلام) يقول: كيف بكم ايها الانصار وقد خرجتم مناها خماصا لا ناقة لكم فيها ولا جمل ولا دور، سلبت منكم الامارة وقبلها بيعة في اعناقكم لمن هو أحق، ولمن هو منصب تنصيبا ربانيا كل هذا اراده النص مستعملا السلم الكنائي المتعدد والتي اصابت التفكير ونقطة عقولهم وجوهرها فالأحداث المتتابعة والاخطاء المقترفة كلها توالت وكنتم فيها متفرجين بعد ان كنتم في الدور الاساس وفي ركن ركين وفي طليعة الناس والمسلمين فكيف بكم اصبحتم في مقام التهميش ليس لديكم غضبة لله وللحق الذي سلب امام ناظريكم؟.

وقولها (عليها السلام) (36):

((فجعل الله الايمان تطهيرا لكم من الشرك والصلاة تنزيها لكم عن الكبر والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق والصيام تثبيتا للإخلاص والحج تشيدا للدين والعدل تنسيقا للقلوب وطاعتنا نظاما للملة وإمامتنا أمانا للفرقة والجهاد عزا للإسلام والصبر معونة على استيجاب الأجر والأمر بالمعروف مصلحة للعامة وبر الوالدين وقاية من السخط…. ولا تموتن إلا وانتم مسلمين وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء)).

يتحرك النص بكناية حجاجية تهدف لخدمة غرض الامرة بالمؤمنين التي اسندت للأسد الغالب قبيل الانقلاب، وقبيل عهد من وفاة نبي الرحمة امرة لو اسندت لأصحاب حقها لانتفت الفرقة التي اصابت جسد الاسلام في وقت الحدث وستصيبه سراعا وتجعله متصدعا لخروج نفر من الاصحاب عن الطريق المعبد الذي وضع حجره محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ودعا الى انمائه وتتبع سبيله تطلعا لخليفته وحامل لواء الحق والطريقة ثم ختم المقطع بالخشية من لدن العلماء لله تعريضا بكم فأنت العلماء وانتم اولى بخشية الله وانتم الاوصياء على دينه فكيف بكم وما تفعلون؟ احب المال والجاه يخرجكم من سبيله وهل تدارستم القرآن فأخرجتم حقنا وازحتمونا تأويلا بالنص وخروجا عن العرف وتسننا بالأحكام وتمهيدا لسلب الحقوق فكيف بكم ذلك وانتم وإنّ أرباب العلم وأتباعه الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه اولا، فما الذي جرى الان تأولون الحديث، وتخرجونه من مواضعه خدمة لنفر على حساب اهل الحق واصابه

المبحث الثاني: الحجاج اللغوي

توجهت الدراسات اللغوية الحديثة، نحو الوظيفة التوصيلية للغة، وبعدها الاجتماعي متجاوزة بذلك النص وأنظمته خارج سياقها الحاضن، الامر الذي اتاح للمقاربة التداولية للغة إمكانية الربط بين العلامة اللغوية وبين موضوعها وبين مستلمها والتركيز على مدى حرية حركة الادلة اللغوية في علاقاتها بالعملية التوصيلية والتي تكون اقطابها محط الاهتمام الرئيس، ونقصد بها الباث ومقاصده والرسالة وظروفها السياقية التي اسهمت في تشكيلها ومن مستمع يستغل هذه لظروف السياقية لتكوين معنى قصد المتكلم وفهما للرسالة (37)، فالمستوى اللغوي للحجاح يهتم بالاختيارات اللفظية التي يعمد اليها الباث لغاية حجاجية فيحل اللفظ المحدد مكانا معينا ليقود المتلقي إلى غاية ما ويعتمد تركيبا دون آخر ليقنعه بأمر ذي علاقة وطيدة بالخطاب في كليته (38).

وهذا هو صلب ما تهتم به الخطابة وباثها فهي في الاساس وسيلة اقناع تتحرك مساراتها بنبرة خطابية يحتوي كلامها على مستويين الاول البنية اللفظية التي يوردها الباث والثاني المعنى المتطلب لبعض المفردات والتي يحتويها الخطاب والذي يظهر من خلاله بينا مرة وخفيا اخرى تتعاوره عوامل عديدة، منها الصوت ومده وعلوه وانخفاضه مع حركات الخطيب وسكناته ولكن هذا تنتفي بعض اساساته كون الخطبة وصلت الينا كتابية خارجة عن مفهومها الشفاهي الذي كان بالإمكان وضع تصورات جديده تجمع بين المادة اللغوية والهياة التي اختارها الباث للقول، ونظرا لهذا العائق سيعمد الباحثان على دراسة واستحضار الجانب اللغوي للحوارية التي امتازت بها الخطبة (لان الحوار تفاعل في الاساس بين قطبين الاول معتقد (الخليفة ومريديه وانصاره) والاخر معترض (فاطمة وبعلها وبني هاشم وبعض الانصار ونسائهم اللاتي خرجن معها)، فيسعى كل منهما الى اثبات احقيته بالقضية التي يطرحها ومصدر حججهم الاساس كتاب الله المقدس دستور الارض وحجة الخلق وكلام الرب، كل هذا ولد التفاعل في الخطبة وتوالي حركاتها واختلاف اسلوبها بالانتقال بين طبقات المسلمين، مع التأكيد على أن الغالبية من المستمعين كانت تعاني من هامشية فالزهراء كيان ممثل لمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) وبقيته في ارض الرب لا يمكن اغضابها مهما كانت مكانة المغضب، فالكل شعر بين يدها بالدونية وسمح لها بالإلقاء والتقدم رغم التهميش الذي كانت تعانيه المرأة لمدة كبيرة كان زمن الخطبة داخله فيها، فالزهراء (عليها السلام) اختارت الحوار وانتقال الدور بين فئة واخرى تحدتهم بما لديهم من خير، وما حدث لهم من انحراف عن الطريقة في تلك اللحظة الفارقة من حياة الامة اختارت الحوار لأن الاخير هو المظهر الاكثر فاعلية للتواصل الحجاجي به ينسجم الخطاب ويتفاعل به الناس وتبرز بوساطته العلاقات البشرية بكل زخمها وحمولاتها الاجتماعية والنفسية (39) وعند تتبع ما جادت به الزهراء من هذا الفن نجدها تقول (40).

((انتم عباد الله نصب أمره وحملة دينه ووحيه وامناء الله على انفسكم وبلغاءه إلى الامم زعيم حق له فيكم وعهد قدمه إليكم وبقية استخلفها عليكم كتاب الله اناطق والقرآن الصادق والنور الساطع والضياء اللامع بينة بصائره منكشفة سرائره منجلية مغتبطة به أشياعه قائدا الى الرضوان اتباعه مؤد إلى النجاة استماعه به تنال حجج الله المنورة وعزائمه المفسرة ومحارمه المخدرة وبيناته الجالية وبراهينه الكافية وفضائله المندوبة ورخصه الموهوبة ورائعته المكتوبة… فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون وأطيعوا الله ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء)).

في النموذج السابق حوارا بين ذوات مختلفة يجمعهما رابط متوتر يكاد ينقطع هو الدين؛ حوار بين الانا (فاطمة الزهراء) (عليها السلام) ومركزيتها التي وفرت لها التوجيه والعرض واصدار الحكم كونها تتمتع بصفات انقطعت في خدنها عن الكل (ابنة النبي المختار وهالة العصمة قد تقمصت بها والمكانة التي وضعت بها واكتسبتها وراثة عملا كلها ولدت لديها قدره عرض الفكرة بمركزية واصدار الحكم مع الحوار الذي صدر لمخالجة النفوس المستمعة علها ترجع عن الطريق المنحدر الذي قدر لها وسبيلها لذلك كتاب الله واهل بيته اهل العصمة وحبل النجاة هذا مع التنبيه في نهاية المقطع على مفرده (انما يخشى الله من عباده العلماء) تنبيها لهذه الفئة التي استقى اصحاب الشأن منهم عدم التوريث وان معاشر الانبياء لا تورث مع التأكيد كثيرا على احكام القرآن ودوره فهو البؤرة والمركز الذي اقامت الزهراء عليها السلام حجتها ودفاعها الاساسي عن حقوق استقطعت بالتأويل والعرف الاجتماعي ووصاية علماء الطريقة ومفسري السنن واصحاب الفكر، فالنص يجمع في طياته طبقات مجتمعية الخليفة وحاشيته وعامة الناس ممن تتبعوا امراؤهم دون اثر او راي فهم بحكم المهمش بين اقطاب النزاع والعلماء الذين وضعوا لمن تقدم اول تشريع اسلامي بدون وجود المشرع الاول (النبي المختار صلى الله عليه وعلى آله الاطهار) تشريع يكاد يكون هو المتحكم بما الت اليه دولة الاسلام منذ اسست على نظام الخلافة ولحد الان.

ثم يظهر الخطاب المباشر بقولها (41):

((أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم} فَإنْ تَعْزُوه وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أبي دُونَ نِسائِكُمْ، وَأخا ابْنِ عَمَّي دُونَ رِجالِكُمْ، وَ لَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إلَيْهِ صَلى الله عليه وآله. فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ صادِعاً بِالنِّذارَةِ، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأكْظامِهِمْ، داعِياً إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، وَيَنْكُتُ الْهامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُرَ، حَتّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأسْفَرَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدّينِ، وَخَرِسَتْ شَقاشِقُ الشَّياطينِ، وَطاحَ وَشيظُ النِّفاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإْخْلاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبيضِ الْخِماصِ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ}.

فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله بَعْدَ اللّتَيّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجالِ وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ وَمَرَدَةِ أهْلِ الْكِتابِ، {كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ}، أوْنَجَمَ قَرْنٌ لِلْشَّيْطانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَذَفَ أخاهُ في لَهَواتِها، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ، وِيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِداً في أمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رِسُولِ اللّهِ سِيِّدَ أوْلياءِ اللّهِ، مُشْمِّراً ناصِحاً، مُجِدّاً كادِحاً ـ وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ القِتالِ، فَلَمَّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دارَ أنْبِيائِهِ وَمَأْوى أصْفِيائِهِ، ظَهَرَ فيكُمْ حَسيكَةُ النِّفاقِ وَسَمَلَ جِلبْابُ الدّينِ، وَنَطَقَ كاظِمُ الْغاوِينِ، وَنَبَغَ خامِلُ الأَقَلِّينَ، وَهَدَرَ فَنيقُ الْمُبْطِلِين.)).

حوار مباشر مع عامة الناس، تتحرك فيه صبغة الحجاج لتورد زخما محتوى في نصه على اسس وبؤر مركزية تتحرك ضمنها الشخصيات حسب تسلسلها ومكانتها الربانية اولا وافعالها التي غطت على الجموع الجالسة وكانت منقذه لهم من الظلال، بدأ بمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) الذي سرعان ما تنتسب اليه الزهراء وترتبط باسمه انه ابي دونكم، وهذا الامر جعلني متقدمة على الكل في حمل هذا الشرف وفي الانتساب لرجل له دين كبير في اعناقكم فبماذا كرمتم وفادته واكرمتم ابن عمه اكرمتموه بسلب الحقوق ومسايرة من استقاها وتلقفها كالكرة،وهذا الحديث يستمر بالتحرك ضمن الشخصيات سواء بجانبها الايجابي والسلبي همها الاول عرض الافكار وتحقيق الغاية الاسمى والاقناع بوجود خطا واضح ولكنه خطأ يحتاج لتمهيد للعامة وبيان التجاوز في الحكم للخاصة وتنبيه اصحاب التأويل بمرد دعواهم واجتهادهم ازاء النص الواضح الذي امامهم مع التنبه للهيمنة التي فرضتها الزهراء على الموجودين عامة، متسلحة بسلطة المركز وبالهالة التي فرضتها الدوحة المحمدية على الجميع وبالأفعال البطولية لزوجها اسد الله الغالب، وفي المقابل نجد النسب العادي والتوجس من الفعل والفرار من القتال لدى البعض حوادث تجعل من انتقى في درجه اسفل ومرتبة اقل لا تخوله التحكم بمقادير الامور وهنالك من هو في درجة ومكانة لا يمكن تهميشها وسلب حقها لاجتماع كل الصفات الاسلامية فيها.

ثم نجد الحوار ينتقل للمتحكم الاول والمتسيد الذي توفرت له الشروط والشرائط ليتحكم بمقاليد الامور ونقصد به الخليفة الأول، تقول (عليها السلام) (42):

((أاُغْلَبُ عَلى ارْثِيَهْ يَا ابْنَ أبي قُحافَةَ! أفي كِتابِ اللّهِ أنْ تَرِثَ أباكَ، وِلا أرِثَ أبي؟ -لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا-، أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتابَ اللّهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ اذْ يَقُولُ: -وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ-، وَقالَ فيمَا اخْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيَي بْنِ زَكَرِيّا عليهما السلام اذْ قالَ رَبِّ -هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِياًّ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ- وَقَالَ: -وَاُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّه- وَقالَ: -يُوصِكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيْنِ- وقال: -انْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والْأَقْرَبِبنَ بِالْمعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ-. وزَعَمْتُمْ أَلَا حِظوَةَ لِي، وَلا إرْثَ مِنْ أبي ولارَحِمَ بَيْنَنَا أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أخْرَجَ مِنْها أبِي؟ أمْ هَلْ تَقُولونَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثَانِ، أوَ لَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ واحِدَةٍ؟! أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمّي؟ فَدُونَكَها مَخْطُومَةً مَرْحُولَةً، تَلْقاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَالزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيامَةُ، وَعِنْدَ السّاعَةِ يخسَرُ المبطلون، وَلا يَنْفَعُكُمْ إذْ تَنْدَمُونَ، -وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ-)).

تستقيم حوارية الزهراء الحجاجية بخلخلة الافاق والزمن والعودة بخليفة المسلمين الى الوراء كثيرا ناسبة له الى ابيه دون اسمه وكنيته ولقبه دلالة على امرين: انك تنتسب الى هذا الرجل الذي لم يتبتل قلبه للإيمان واخذت بعض دينه، ومارست طقوسه قبل ان تسلم، وهنالك رجل هو ارفع مرتبة واقدم صحبة وفي رقبتك عهد وبيعة له قريبة الزمن لم يدر عليها الحول ولم يجف عبقها واثرها المائز الذي مازال يخالج خواطر المسلمين، وثانيها نسبته الى ابيه لأنه وارثه والمتحكم في تركته وشؤونه فكيف بها وهي ابنة محمد لتدفع عن حقها وعن ميراثها الذي خلفه اليها فهي وحيدته وكوثر نوره وبضعة قلبه.

ثم تنتقل حوارية الحجاج الى التهميش المتعمد للأساس الحاكم الذي جعل نبراسا وميزانا من لدن الجميع ليكون ميلادا لتشريع وقانونا ساريا لا يحيد عنها احد كتاب الله ودستوره الجامع الذي لا يأتيه الباطل ولا يمجه السامع ولا يفترى عليه احكامه ظاهرة لا تدحض ولا ترد مع التأكيد على الذكر من امثلة وقصص سابقة توارث فيها الانبياء بعضهم من بعض حكما ونبوة وميراثا، وبعدها ينتقل الحوار للوعد والوعيد فالدنيا زائلة ببهجتها والاخرة مقبلة بجنتها ونارها، والحكم فيها يومئذ لله جل وعلاه وهنا تبدا مرحلة التوجه للغيبيات وذكر ما هو قادم ومقدر فالحكم لله، والمهمش في هذه الدنيا مقدم في الاخرة باعتقاد اغلب المسلمين، ومن اتكئ وصادر حق آخر، سيقف امام سلطان عادل لا يخاتله الباطل ولا ينفع في حضرته الخطابة والتأويل مع التأكيد على مكانة محمد واله في تلك الوقعة والمقام والتكريم الذي خصهم به الله فهم في رتب عنده مقدمة تفوق في مقدراتها موقعهم في نفوسكم وكل هذا تكلمت به الزهراء وهي في موقع المبرز لسلطتها التي اكتسبتها عرفانا وجاها ربانيا وعصمة من زلل وخطا وهذا الامر ليس بخاف عن احد من الجالسين الامر الذي مكنها من تمرير افكارها واعرافها دون ان تتعرض لأي نوع من المعارضة والانكار، بل سار الجميع لطلب الصفح والدعوة الى ارجاع الحق ولكن هيهات فالحق الاول ترتبط فيه حقوق لا يمكن التنازل عنها فسرعان ما حدث النكوص وسريعا ما عادت حمية الشعور بالهامشية والفجوة التي يشعر بها الجميع فالتكريم بالنبوة والامامة لابد ان تقابله لدى العرب شيئا يقارب المتباريين فكانت الخلافة حقا عرفيا يجب ان يؤول ويحجب عن الهاشميين والا فازوا بالدارين واصبحوا في طبقة المتسيد المثال في عرف الجمع وفي عرف امة استقت واشترت ارواحها واعرافها وحاضرها بما جاء به محمد عن الله، فالزهراء حججها الدامغة تتحرك ضمن مدار الدين والعزف على وتر جنة ونار وحجج من كتاب الله لا يمكن دحضها بينما القوم تتحرك بالأعراف القبلية والجاه الذي لا يمكن التنازل عنه بل يجب ان يكون متحركا ضمن بيوتات قريش من المهاجرين حصرا ومن المقربين واصحاب الجاه والمتنفذين قولا ومالا وفعلا حتى تتقارب موازين القوة والجاه، ولا تتفاضل قبيلة على اخرى ضمن رقعة مكة وحواريها.

ولكن هذا سيدخلنا في اشكالية ما المقدم للأنصار والاصحاب ولمن عضد الدين وساير الاسلام وبايع البيعتين اذا كانت النبوة قد تمركز نورها في قريش بشخص محمد والولاية بعلي وها هي الخلافة تخرج في مركز ثقلهم الى نفر من قريش على الرغم من مطالبتهم بالسبق والمداورة بينهم وبين المهاجرين (43) لنجدها عليها السلام تذكرهم بما الت اليه احوالهم اولا وأخر قبل السقيفة وبعدها حجاج عتاب وحوار استرجاع لماضي كانوا فيه اعزة يشحذون سيوفهم لنصرة الحق ويهرقون دمائهم في سبيله فما الذي حدث الان تقول (عليه السلام)(44):

((يا مَعاشِرَ الْفِتْيَةِ، وَأَعْضادَ الْمِلَّةِ، وَأنْصارَ الْإِسْلامِ! ما هذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي؟ وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِي؟ أما كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله علبه وآله أبِي يَقُولُ: “اَلْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ”؟ سَرْعانَ ما أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذا إهالَةً، وَلَكُمْ طاقَةٌ بِما اُحاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلى ما أَطْلُبُ وَاُزاوِلُ!

أَتَقُولُونَ ماتَ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وآله؟! فَخَطْبٌ جَليلٌ اسْتَوْسَعَ وَهْيُهُ، وَاسْتَنْهَرَ فَتْقُهُ، وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ، وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ لِغَيْبَتِهِ، وَكُسِفَتِ النُّجُومُ لِمُصِيبَتِهِ، وَأَكْدَتِ الْآمالُ، وَخَشَعَتِ الْجِبالُ، وَاُضيعَ الْحَرِيمُ، وَاُزيلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَماتِهِ. فَتِلْكِ وَاللهِ النّازلَةُ الْكُبْرى،….

أيْهاً بَنِي قَيْلَةَ! أاُهْضَمُ تُراثَ أبِيَهْ وَأنْتُمْ بِمَرْأى مِنّي وَمَسْمَعٍ، ومُبْتَدأٍ وَمَجْمَعٍ؟! تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وتَشْمُلُكُمُ الْخَبْرَةُ، وَأنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالأَداةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّةُ؛ تُوافيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغيثُونَ، وَأنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفاحِ، مَعْرُفُونَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ أَلا قَدْ أرى أنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إلَى الْخَفْضِ، وَأبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضِّيقِ بِالسَّعَةِ، فَمَجَجْتُمْ ما وَعَيْتُمْ، وَدَسَعْتُمُ الَّذِي تَسَوَّغْتُمْ، {فَإنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأْرْضِ جَمِيعاً فَإنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}. ألا وَقَدْ قُلْتُ ما قُلْتُ عَلى مَعْرِفَةٍ مِنّي بِالْخَذْلَةِ الَّتِي خامَرَتْكُمْ، وَالغَدْرَةِ التِي اسْتَشْعَرَتْها قُلُوبُكُمْ، وَلكِنَّها فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْثَةُ الْغَيْظِ، وَخَوَرُ الْقَنا، وَبَثَّةُ الصُّدُورِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ.)).

تبدأ الزهراء تكريما للأنصار وتذكيرا لهم بوقفتهم وجهادهم تذكيرا لتقبل ما هوآات ولمحاججتهم بما هم عليه الان فهل هم انصار الله وانصار الرسول مثلما كانوا عندما هبوا سراعا لنصرته في جل حاجته الى ناصر ومعين فاكرموه واستقبلوه بالترحاب والتهليل وتقاسموا معه الاهوال وامتزجت دماؤهم بدمه الطاهر في مواقع كثيرة لاتعد ولا تحصى فكيف بكم وقد خفضت دروعكم، واستكنتم للدعة ومسكم شيء من الضعف وشاركتم في ابعاد صاحب الحق عن حقه طمعا بمكانته التي كنتم قد تعاهدتم على حفظها فما بالكم قد اخلدتم الى الدعة وركنتم على الذل وقبلتم بالتهميش الذي ابعدكم عن مقدمة الناس وسطوة القرار، فلا انتم تتبعتم النبي فيما اوصى ولا انتم شاركتم في الحق والمنصب المتطلب من لدن الجميع كما تعاورت عليه اعرافكم واصبحتم طبقة ثالثة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) واله والنبوة والولاية والمهاجرين الاولين من قريش وظفرهم بخلافة المسلمين وانتم انصار محمد خرجتم خلو اليدين ليس لكم فيها سوى الصفة (النصرة) التي وسمكم بها محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، ثم نلاحظ في الختام تعود الزهراء لوضع شيء من الترجيح لهذه الفئة اصبتم بالخذلة والدعة لهول الموقف ولضعف الحجة وللتفرقة التي اصابتكم في موضع الجمع وفي وقت الحاجة لرص الصف فأضعتم الاثنتين الوعد والعهد الملزم والبيعة التي لنا في رقابكم وما كان لكم من دور ربما كنتم ستلعبوه كما تفرضه اعرافكم ولكنكم خرجتم من كل ذلك دون شيء يذكر.

ثانيا: افعال الكلام:

تعد هذه النظرية من اهم تكوينات التداولية كونها خرجت من مكنونات الفلاسفة وما فرضوه من اسس اسبطرت مسيطرة كثيرا على مفاهيم الواقعية اللغوية المتعلقة بدورها الوصفي للأشياء والتي ضيقت بدورها على مجالات اللغة الواسعة (45) فانطلقت هذه المدرسة من خلال أطروحة المدرسة التحليلية الانكليزية (أوستن وسيرل) معارضة ومفندة للنظرية السوسيرية، التي اقرت بأن اللغة هي مجرد نقل للمعلومات فأوستن يرى أن الكلام العادي يتضمن متكلما ومتلقيا وملفوظا كما توجد هنالك عدة افعال يمكن ربطها بالمتكلم لا يصدر اصواتا فقط من خلال كلامه ولكنه ينجز بعض الافعال مما تصدر عنه هذه الاخيرة بعض الحجج التي من شأنها أن تقنع المتلقي (46) بما يصدر اليه من فعل وامر تضمنه قول الباث وبذلك يصبح الحدث الكلامي الابداعي في النص فضاء يتيح ظهور أهمية الفعل التأثري في الحقل التداولي إذ أن ظهور قوة الفعل الانجازي متوقفة على حدوث الفعل التأثري (47)، وهذا الامر يتطلب وجود متلق لديه القدرة على تأويل الخطاب والقدرة على توصيف عمل اللغة التي تنساب على صفحة خاطره وتدغدغ عواطفه مرة وتتحكم بمكنونات عقله اخرى فيحاول ان يستوعب كل ذلك وهذا الامر يمكن قياسه لو اننا شهدنا شفاهية الخطبة ومدلولاتها عندما القيت في محفل المسلمين باختلاف طبقاتهم ولكننا تلامسنا معها كتابيا الامر الذي سيضعنا امام تأويل الفعل الأثري من خلال ما نقله الراوي او من خلال ما احتوته الخطبة من هذه الافعال بمختلف انواعها ومنها:

فعل كلامي غير مباشر

وهي الافعال التي تبين التزاما للمتكلم يبني بوساطتها موقفا ما (48) بصورة غير مباشرة تحتاج من المتلقي الى الانكفاء على استعمال آليات التأويل للوصول الى كنه ما يريد المتكلم ايصاله كقولها عليها السلام (49):

((فَدُونَكُمُوها فَاحْتَقِبُوها دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، باقِيَةَ الْعارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ وَشَنارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بِنارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. فَبعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلُونَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}، وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ، {فَاعْمَلُوا إنّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ)).

يبدأ النص بالعرض المتضمن لمعنى المتوافق بين الملقي والمتلقي ولكنه عرض بوصف لسوء ما اخذوا منها ولككنا ندخل توكيدا لما تقدم من اوصاف من خلال البنية الاستفهامية التي حققت بنية اخبارية من خلال توافقها مع الفعل الكلامي(تفعل، وسيعلم، وانتظروا) الاول مع الاستفهام الذي لا ينتظر اجابة لما هو مستفهم عنه بل هو حامل لصيغة التعجب من الاقدام على الفعل والاخر ما اقتبس من النص القرآني بان الحاكم العادل هو الله والاعلام سيكون مؤجلا لما هو ات من مستقبل الايام او الى ان تستوفي النفوس مقدارها وترتفع لبارئها والانتظار للعذاب المتحقق بفعل الترك للنصرة والخيانة للعهد والميثاق وكل هذا وفره الفعل الحجاجي والاستفهام بسبب ما ولداه من خلخلة للنص في الزمنية وفي طرح السؤال وعدم الرغبة بسماع الاجابة وهذا ما يحسب للسيدة الزهراء التي وجهت للمخاطب سؤالا لا اجابة عليه ووجهت الحوار الى الوجهة التي تريد لمعرفتها بالقبض النفسي التي يحسه الانصار بعدما تخلوا عن دورهم الدفاعي وعن النصرة التي طاروا بها شعاعا والتصقت بها شخوصهم واصبحت سمة يوسمون بها فأتى الاستفهام هنا ليجبرهم على تكوين اجابة لسؤال تعجبي اجابت عليه السائلة قبل ان تشرع عقولهم بوضع اسس ومفاتيح لما هم بصدد رده وهنا برزت دلالة الاخير على الالزام والاستعلاء فيه ومن ثم التأثير.

ومنها ايضا قولها عليها السلام (50):

((فَخَطَرَ فِي عَرَصاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ الشيْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ. ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً، فَوَسَمْـتُمْ غَيْرَ اِبِلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ، هذا وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمّا يَنْدَمِلْ، وَالرِّسُولُ لَمّا يُقْبَرْ، ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، -ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ-. فَهَيْهاتَ مِنْكُمْ، وَكَيْفَ بِكُمْ، وَأَنَى تُؤْفَكُونَ؟ وَكِتابُ اللّه بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أُمُورُهُ ظاهِرَةٌ، وَأَحْكامُهُ زاهِرَةٌ، وَأَعْلامُهُ باهِرَةٌ، وَزَواجِرُهُ لائِحَةٌ، وَأوامِرُهُ واضِحَةٌ، قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، أرَغَبَةً عَنْهُ تُرِيدُونَ، أمْ بِغَيْرِهِ تَحْكُمُونَ، -بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً-، -وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ-. ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا الاّ رَيْثَ أنْ تَسْكُنَ نَفْرَتُها، وَيَسْلَسَ قِيادُها ثُمَّ أَخّذْتُمْ تُورُونَ وَقْدَتَها، وَتُهَيِّجُونَ جَمْرَتَها، وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتافِ الشَّيْطانِ)).

يبدأ النص بحركية الفعال التي تصف حركية الشيطان وتجعله مشخص للجميع دائر في ازقة المدينة وبين بيوتات الناس مخرجا لافكاره التي مثلتها مجازا براسه لوصف فعله ولوصف حالهم وما يمر على صفحة قلوبهم من مسحة من حسد للمكانة التي انشدت للعلويين ولأهل بيت محمد عند الله وفي نفوس المسلمين فدارت الدوائر لتضييق الفجوة واعادة الاعتبار للنفوس التي احست بنفرة التهميش واصبحت تتوالى في تتبع القوم حتى مع وجود مفتاح الحقوق، والمفرق بين الحق والباطل والعوذ الاول للناس من الانزلاق في فتنة تلقفها الشيطان ليفتك بالجمع وليفرض نفرته بين الناس وليعيد سطوته عليهم بعد ان انزوى ردحا من الزمن بعيدا خابئة نيرانه مكلوما جسده مقطوعا هذر لسانه منتفيا فعله منكسفا ضوءه لوجود مصدر اشعاع ونور الله على البسيطة محمد (صلى الله عليه واله وسلم).

الافعال الخطابية مباشرة:

وفيها يكون الفعل الكلامي مطابق في اللفظة والدلالة المتطلبة منها ولا يوجد فيه انزياح يذكر عن الاصل الذي وضع له ويتمثل هذا النوع بقولها (عليها السلام)(51):

((مَكْدُوداً في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِداً في أمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رِسُولِ اللّهِ سِيِّدَ أوْلياءِ اللّهِ، مُشْمِّراً ناصِحاً، مُجِدّاً كادِحاً ـ وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ القِتالِ.)).

يسجل النص جملة من الاحداث الواقعية بوساطة افعال الكلام او خروجاتها اللغوية (مكدودا، مجتهدا) لتأكيد دلالة العمل لبعلها الامام علي عليه السلام واصفة لما التزقت به من صفات جسدت لديه معاني الاباء والعظمة والشده ووفرت له الريادة والانمياز بين الرجال ثم تتحرك لوصف حالهم بحقيقة وواقع رفاهية العيش والدعة والامن وتلقف الاخبار كلها شواهد على تعكس الجانب الاخر من المفارقة بينهم وبين علي (عليه السلام) وكأننا امام نوع من المقارنة بين الثبات في الاولى والنكوص عن الفعل في الثانية مع التأكيد على النكوص في النزال والهرب من المعارك لبعض من تقلدوا المناصب في سلم العهد الجديد (52) كما تنقل كتب التاريخ وتسطر على صفحات اديمها، وصف حال للعهد ولما سطره بحقيقة لا خافية فيها ولا انزياح بل هي حجة دامغة لمن تطلب قراءة الواقع وللسامعين تحت منبرها من المسلمين.

الخاتمة:

بعد ان وصل البحث لخاتمة المطاف تبين للباحثين جملة من النتائج كان اهمها:

1- اكدت الزهراء كثيرا على احكام القرآن ودوره فهو البؤرة والمركز الذي اقامت عليه (عليها السلام) حجتها ودفاعها الاساسي عن حقوق استقطعت بالتأويل والعرف الاجتماعي ووصاية علماء الطريقة ومفسري السنن واصحاب الفكر فعملت على مجادلتهم من خلاله وبنصوصه التي تكررت كثيرا في الخطبة.

2- انمازت الخطبة بطريقة جميلة في المحاججة همها الاساس بعثرة الزمن بين عصرين ومخاطبة كل فئة من الفئات المخاطبة بما كان عليه اولا وبما اصبح عليه الان ولماذا وتمثل كل ذلك بالتدرج المدروس وبالاسلوب المحكم.

3- حولت السيدة الزهراء البلاغة وعناصرها من معناها الجمالي الي معناها العملي والخاص بـكيفية اقناع السامعين بأن يفكروا ويتصرفوا بطريقة ما وعند تتبعنا ما جادت به قريحة السيدة فاطمة (عليها السلام) من هذه الاساليب البلاغية التي ارتبطت بغاية اساسية هدفها الاول هو اقناع المستمعين بحقها بما استملكت من ارث والدها بصفته الدنيوية، وبالوجاهة الالهية التي اكتسبها بفعل رباني وثانيها حق بعلها وزوجها وابن عم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ووصيه بخلافة المسلمين والمسير لحياتهم ولشؤونهم الحياتية.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M