ديفيد آدم
تصدَّرت النظرة العابسة على وجه كريستيانو رونالدو، نجم الكرة البرتغالية، واجهات الصحف العالمية الشهر الماضي، عندما أخرجه المدير الفني من المباراة التي أقيمت بين فريقه «مانشستر يونايتد» وفريق «نيوكاسل» قبل 18 دقيقة من نهاية شوطها الثاني. على أن هذا العبوس ليس قاصرًا على رونالدو؛ إذ قليلًا ما نرى لاعبًا يتقبَّل قرار المدير الفني باستبداله.
في بطولة كأس العالم لكرة القدم، المقامة حاليًا على أرض قطر، يمتلك اللاعبون وسيلةً أكثر اعتمادًا على البيانات، تُخوِّل لهم المطالبة بالبقاء فتراتٍ أطول على أرضية الملعب؛ فلن تمرَّ دقائق من إطلاق الحَكَم صافرة نهاية المباراة إلا وقد تلقَّى كل لاعب من منظِّمي البطولة تحليلًا مفصلًا لأدائه فيها. سوف يُطلَع المهاجمون حينئذٍ على عدد المرات التي أفلتوا فيها من دفاعات الخصم، وإنْ لم تُمرَّر الكُرة إليهم. وسوف يحصل المدافعون على بيانات توضح مدى تصدِّيهم للاعبي الفريق المنافس والضغط عليهم عند استحواذهم على الكرة.
تمثل هذه البيانات أحدث المحاولات لاقتحام الأرقام هذه اللعبة الرياضية الجميلة. والحق أنَّ تحليل البيانات يدخل حاليًا في كل شيء، بدءًا من انتقالات اللاعبين بين الأندية، مرورًا بالحصة التدريبية التي يحصل عليها اللاعبون، وصولًا إلى طريقة استهداف الخصم، وتقديم التوصيات بشأن أفضل طرق التعامل مع الكرة في أية نقطة على أرضية الملعب.
في الوقت ذاته، يخضع لاعبو كرة القدم أنفسَهم لنوعٍ من تدقيق البيانات كان يرتبط عادةً برواد الفضاء؛ فهُم يرتدون ستراتٍ وأشرطةً يمكن من خلالها استشعار الحركة وتتبُّع المواقع باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، فضلًا عن حساب عدد لمسات الكرة من كلِّ قدم. كذلك تسجل كاميرات مُثبَّتة في زوايا متعددة كل شيء بدءًا من ضربات الرأس التي يظفر بها اللاعب، بل وحتى مدة احتفاظ اللاعب بالكرة. ولفهم هذه المعلومات والاستفادة منها، تستعين معظم الفِرَق الكبرى في عالم كرة القدم حاليًا بمحللي أداء، من بينهم علماء متخصصون في الرياضيات والبيانات والفيزياء؛ نجحت تلك الأندية في استقطاب هؤلاء الخبراء، وإقناعهم بترك الشركات والمختبرات الكبرى التي كانوا يعملون بها، مثل شركة «ميكروسوفت»، والمختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات «سيرن» CERN، الذي يقع بالقرب من جنيف في سويسرا.
وفي المقابل، نجد أن الأفكار والاستنتاجات التي يخرج بها محللو الأداء تنعكس على أرضية الملعب في صورة تغييرات في طُرق اللعب. يتجه المهاجمون، مثلًا، إلى تقليل التسديدات التي يطلقونها من مسافات بعيدة، وأصبح اللاعبون في مركز الجناح يعتمدون على التمريرات القصيرة بدلًا من إرسال الكرات العرضية، كما أخذ المدربون يهتمون بالاستحواذ على الكرة في نصف ملعب الخصم – وجميعها تغييرات تكتيكية مبنية على أدلة قوية، تهدف في جملتها دعم أهداف المدرب.
يقول دانيال ميميرت، العالم المتخصص في الألعاب الرياضية بالجامعة الألمانية للرياضة في كولونيا: “البيانات الضخمة بدأت عصرًا جديدًا في كرة القدم؛ فقد غيرَتْ من فلسفة الفِرَق وسلوكها، وكذلك كيفية تحليل أساليب الفريق الخصم، وكيفية تطوير المواهب واكتشاف اللاعبين الموهوبين”.
تغطية جميع الاحتمالات
أحد أوضح الأمثلة المعروفة على الطريقة التي تتمكن بها البيانات من تغيير وجه الرياضة يأتي من لعبة مختلفةٍ تمامًا. في كتابه «كرة المال» Moneyball، المنشور في عام 2003، بيَّن مايكل لويس كيف أن المدير الفني لفريق البيسبول «أوكلاند أثليتيكس»، بيلي بِين، استند إلى الإحصائيات الخاصة باللاعبين لصنع فريق قادر على الفوز ببطولات هذه اللُّعبة بميزانية ضئيلة في عام 2002. استقطب بِين اللاعبين بناءً على بيانات مفصَّلة حول أدائهم في الملعب، بما في ذلك تلك القياسات التي كان المحللون لا يعيرونها أهمية كبيرة في السابق، مثل عدد المرات التي يتمكن فيها ضارب الكرة من الوصول إلى القاعدة.
تمتَّع بِين بمَيزة تفوَّق بها على نظرائه ممَّن حاولوا تكرار الحيلة نفسها في كرة القدم. يقول ميميرت: “كرة القدم أكثر تعقيدًا من البيسبول؛ فالبيسبول لعبة تقوم في المعتاد على التوقف ثم الاستئناف من جديد؛ حيث يحاول أحد الفريقين فقط التسجيل في كل مرة، كما أن الباحثين كانوا قد جمعوا الإحصائيات الخاصة بالبيسبول بصفة روتينية، وأخضعوها للدراسة على نطاق واسع على مدى عقود عدَّة. وعلى النقيض من ذلك، نجد أنَّ كرة القدم لعبة “هجومية”، تمتاز بالمرونة وقلة الأهداف المسجَّلة (فهي لعبة تقومُ على الكرِّ والفر، والتقدُّم والتراجع، وهكذا دواليك)؛ كما أنه من الصعب في كرة القدم تحديد اللاعبين الذين يتعيَّن عليهم أن يقوموا بأدوار معينة، فضلًا عن تحديد ماهية تلك الأدوار، وكيفية تأثيرها في أداء الفريق إجمالًا. على مدى عقود، قَصَر علماء الإحصاء المهتمون بكرة القدم اهتمامهم على عدد الأهداف التي أحرزتها الفرق، والأهداف التي استقبلتها شباكهم، ساعِين بذلك إلى إيجاد طريقة لنمذجة تلك الأهداف حتى يتمكنوا من الخروج بتنبؤات نظرية.
نسخة من هذه الطريقة لا تزال قيد الاستخدام في يومنا الحاضر، بقصد التنبؤ بنتائج المباريات. طوَّر علماء الأوبئة في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة نموذجًا رياضيًا يفترض أن الأهداف التي تسجلها الفرق والأهداف التي يستقبلها مرماهم تتوزع حول قيمة متوسطة، ونجح هذا النموذج في التنبؤ بشكل صحيح بأن إيطاليا ستهزم إنجلترا في بطولة كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم «يورو 2020». كما تمكن النموذج من تسمية ستة من بين الفرق الثمانية المتأهلة إلى الدور ربع النهائي من البطولة ذاتها.1
على أنَّ هذا النجاح ليس مفاجئًا؛ فالتوقعات الإحصائية للمباريات أدقُّ مما يتصوره الكثيرون، بحسب قول ماثيو بِن، طالب الدكتوراه في جامعة أكسفورد، وهو الذي طور النموذج آنف الذكر.
شارحًا عمله على هذا النموذج، ذكر بِن أنه “يبدأ بالرغبة في منح كل فريق نقاط قوة هجومية ودفاعية، وهي معلومات يمكن استخلاصها من عدد الأهداف الإجمالي التي سجلها كل فريق، ومدى الصعوبة النسبية للفريق الخصم الذي يواجهه. وهذا يقودك إلى هذه المجموعة الكبيرة من المعادلات المطلوب حلها لهاتين الفئتين من نقاط القوة والضعف. فإذا تمَّ لك ذلك، أصبح توقُّع نتيجة كل مباراة أمرًا يسيرًا حقًا”. وفي بطولة كأس العالم الجارية حاليًا، يشير النموذج الذي وضعه بِن إلى أن المنتخب البلجيكي (الذي وصلت احتمالات فوزه بالبطولة بحسب التنبؤات السخية إلى 14 مقابل 1 عندما كان هذا المقال في نسخته الإنجليزية ماثلًا للطبع) يمتلك أعلى الفرص لحصد الكأس، يليه المنتخب البرازيلي.
حلٌّ مثاليّ
لعل ما يثير اهتمام المدربين أكثر هو المعلومات المتعلقة بمجريات الأحداث التي تقع على أرض الملعب، ودور اللاعبين في التأثير في تلك الأحداث.
ظل محللو كرة القدم لسنوات طويلة يسجلون ذلك النوع من المعلومات، وكان النموذج الأنجح يتمثل في تجربة محاسب سابق في سلاح الجو الملكي البريطاني، يُدعَى تشارلز ريب، أمضى معظم عقد الخمسينيات من القرن الماضي في مشاهدة المباريات المقامة على الملاعب الإنجليزية، وقدم ملاحظات أساسية تخص عوامل عدة، مثل مواقع تمركز اللاعبين على أرضية الملعب، وتسلسل التمريرات. واستفاد ريب من البيانات التي جمعها في تحليل أداء الفِرق واقتراح استراتيجيات وخطط اللعب. وأثناء عمله في نادي «وولفرهامبتون واندرارز فوتبول كلوب»، ساهم ريب في استحداث طريقة لعب مباشرة وسريعة، لا تعتمد على التمريرات الجانبية، وفاز من خلالها بثلاثٍ من بطولات الدوري الإنجليزي في غضون خمس سنوات.
لا شك أن التكنولوجيا الحديثة تسهل عملية الحصول على مثل هذه البيانات وتحليلها، إلى الحد الذي جعل معظم الأندية الكبرى، وكثيرًا من فِرق المنتخبات الوطنية، حريصةً على استقدام محللي بيانات الأداء منذ أكثر من عشر سنوات. وقد أصبح لتلك البيانات استخدامات وتطبيقات تمتد طولًا وعرضًا، وصولًا إلى عمق منظومة كرة القدم. يعمل بِن، بالإضافة إلى دراسته لنيل درجة الدكتوراه، محللًا للأداء بدوام جزئي لدى نادي «أكسفورد سيتي»، وهو فريق شبه محترف يلعب في «دوري الجنوب الوطني»، وهو المستوى السادس من منظومة الدوري الإنجليزي.
يعزو عديد من المحللين قدرًا من النجاح الذي حققه مؤخرًا نادي «برينتفورد إف سي» اللندني إلى خوارزمية داخلية تتولى تقييم اللاعبين عبر الدوريات المختلفة، ومن ثم تضع يد النادي على لاعبين قيمتهم السوقية مقدَّرة بأقل من قيمتهم الحقيقية. أما فريق تحليل بيانات الأداء بنادي «ليفربول»، الذي يضم فيزيائيين سابقين بمختبر «سيرن» وجامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، فقد وضع نموذجًا يمكنه تقييم ما إذا كانت تحركات اللاعب على أرضية الملعب تزيد من احتمالات نجاحه في تسجيل أهداف. وبالشراكة مع نادي «برشلونة» الإسباني، نشر علماء الرياضة في جامعة لشبونة بالبرتغال العام الماضي تحليلًا لمدى استمرارية الفرص الناتجة عن أنواع مختلفة من التمريرات في المباريات2.
يقول بِن: “أعتقد أن أهمَّ ما نقدِّمه [في نادي «أوكسفورد سيتي»] يتمثل في تقارير ما قبل المباراة. إننا نفحص السمات المميِّزة للاعبي الفريق الخصم، ثم نأتي ببعض الرسوم البيانية التي توضح طريقة لعبهم، وتحركاتهم عند الاستحواذ على الكرة. وبناءً على ذلك، أقدِّم بعض النصائح، أو أقترح بعض التغييرات التكتيكية”. قُبيل انطلاق مباراة خاضها فريقه مؤخرًا أمام فريق لم يتعرض للهزيمة خلال هذا الموسم، حدد التحليل الذي أجراه بِن أن البيانات الإحصائية الخاصة بالظهير الأيسر لذلك الفريق تشير إلى ضعفه في التعامل مع ضربات الرأس. يقول بِن: “من هنا، اقترحت أن يتمركز مهاجمنا الرئيسي على الجانب الأيمن من الملعب”؛ وقد أحرز فريق أكسفورد الفوز في تلك المباراة.
بإمكان أي كشاف متمرس للمواهب أن يتوصل إلى تلك النوعية من الأفكار بالعين المجردة، وبسهولة بالغة، إلا أن البيانات، بحسب قول بِن، “ستكون أقل تحيزًا من الآراء الشخصية”.
لا يَلزَم أن تتولى الأندية بنفسها إنتاج البيانات الأوّلية لهذه الأنواع من التحليلات الخططية. عوضًا عن ذلك، يمكن لتلك الأندية شراء المعلومات من الشركات التجارية التي تتولى تصوير المباريات بأكواد معينة، لتسجيل نتائج ما يقرب من ثلاثة آلاف حدث رئيسي أثناء المباراة، من بينها المراوغات والتمريرات والتدخلات. وقد جَرَتْ العادة على أن تسجَّل هذه البيانات يدويًا، غير أنها تسجَّل الآن في المعتاد باستخدام نوع من تقنيات الذكاء الاصطناعي، يُطلق عليه «الرؤية الحاسوبية»، وغالبًا ما تكون هذه البيانات مصحوبةً بإحصائيات موجزة، مثل نسبة التمريرات الناجحة لكل لاعب.
نجحت جوانا ماركس، وهي طالبة جامعية تَدرُس الرياضيات في جامعة وورويك بالمملكة المتحدة، من خلال العمل مع بِن في نادي «أكسفورد سيتي» في وقتٍ سابق من العام الجاري، في تطوير نموذج لاستخدام تلك البيانات الأوّلية في تقييم مدى نجاح التمريرات لدى جميع اللاعبين في بطولة الدوري التي يشارك فيها فريق «أكسفورد»، وهو نوع من التحليل التفصيلي لا يكون متاحًا في العادة في البيانات الأوَّلية المقدمة من الشركات.
تقول ماركس: “عليك أن تأخذ في الاعتبار نوع التمريرات، فلا يصحُّ الاعتماد فقط على نسبة التمريرات الناجحة، لأن بعض التمريرات تكون أصعب من غيرها. يسهم هذا النموذج في إعداد الفريق؛ ذلك أنك إذا علمتَ أن خصمك يتميز بجودة التمريرات من بقعة معينة على أرض الملعب، فحينئذٍ يتسنَّى لك ما ينبغي الالتفات إليه”.
كان رافي رامينيني يعمل محلل بيانات بشركة «ميكروسوفت»، قبل أن ينتقل في عام 2012 إلى وظيفة مماثلة في ناديه المحلي الذي يلعب في الدوري الأمريكي لكرة القدم (MLS)، وهو نادي «سياتل ساوندرز»، الذي يقع في ولاية واشنطن. كان من بين المهام الأولى التي أُسندَتْ إلى رامينيني استخدام البيانات المستقاة من نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) بشأن المسافات التي يقطعها اللاعبون؛ وذلك لتحقيق الاستفادة المثلى من جلسات التدريب والإعداد. يقول رامينيني: “عند جمع هذه البيانات أثناء التدريب، يمكنك أن تقول إن حصة اليوم التدريبية كانت أكثر أو أقل من اللازم، وذلك يساعدك على محاولة تفادي وقوع الإصابات”.
لكن هل يصيب هذا النهجُ النجاحَ المرجوَّ حقًا؟ يقول رامينيني: “واقع الأمر أننا حققنا نجاحًا لا بأس به في بعض المواسم عندما أخَذْنا بتلك الأساليب. لكنني في الحقيقة لا أستطيع الإجابة؛ بالنظر إلى أن تفادي حدوث الإصابات هو أصعب ما يمكن قياسه قياسًا كَمِّيًا”.
غياب اليقين في هذا الصدد يُبرز مشكلةً تطال جميع المزاعم التي تتناول دور البيانات في تحقيق النجاح في المجال الرياضي؛ وهي غياب التجربة الضابطة التي من شأنها أن تتحقق من تلك الفعّالية. ومع ذلك، كان المدربون في فريق «سياتل»، حسبما قال رامينيني، يستقبلون تحليلاته بصدرٍ رحب، سواءٌ أكان ذلك في أثناء التدريبات، أو لاحقًا عند تقدير نقاط القوة لدى اللاعبين.
يقول رامينيني: “أُتيح لي الوصول إلى المدربين، بل وكان بمقدوري التحدث مباشرة إلى اللاعبين؛ وإنْ كان الأمر مختلفًا في نوادٍ أخرى. في بعض الأحيان، لا يتواصل المدرب حتى مع مسؤول تحليل البيانات”.
بعيدًا عن الكاميرات
يتزايد اهتمام محلِّلي بيانات الأداء حاليًا بما يحدث عندما لا تكون الكرة في حوزة اللاعبين، يقول رامينيني: “من بين الأمور التي قد تسمعها في تحليل بيانات كرة القدم طوال الوقت هو أننا بحاجة إلى معرفة ما يفعله اللاعب عندما لا تكون الكرة في حوزته”.
هذا يزيد الأمر صعوبة، ويرفع التكلفة؛ لأنه يتطلب كاميرات مخصَّصة لأداء تلك المهمة على وجه التحديد، لا تتولى فقط تتبُّع التحركات الرئيسية، ولكنها أيضًا ترصد اللاعبين عندما لا يشاركون في اللعبة بشكل مباشر، وتضع علاماتٍ على أماكن تواجدهم بمعدل يقترب من 25 مرةً في الثانية. يقول رامينيني إن الشركات التي تقدم هذا النوع من البيانات عادةً ما توقِّع اتفاقاتٍ حصريةً مع الدوريات المحلّية، ما يجعل الوصول إليها أمرًا صعبًا على الغير.
يقول رامينيني: “إذا قصدتَ إلى البحث عن لاعب دولي ينتمي إلى إحدى دول أمريكا الجنوبية أو أوروبا، من أجل اللعب في الدوري الأمريكي لكرة القدم، فمن المؤكد أنك لن تصل إلى البيانات التي ترصد تحركاته عندما لا تكون الكرة في حوزته”.
ظهرت في السنوات الأخيرة تقنية تتسم بدرجةٍ أعلى من الكفاءة، تعتمد على إمكانات الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بتحركات اللاعبين في المباريات المصوَّرة، حتى عندما لا تتمكن الكاميرات من التقاط تلك التحركات مباشرةً. معنى ذلك أنه يمكن لشركات البيانات استخدام اللقطات المأخوذة من المباريات المصوَّرة – والمتاحة للجميع – لإنتاج تحليلات شاملة عن أداء اللاعبين في أي مكان في العالم فيما يخص تحركاتهم بالكرة أو بدونها.
أحد هذه النماذج التنبؤية هو ثمرة شراكة بين باحثين بشركة الذكاء الاصطناعي «ديب مايند» DeepMind، المملوكة لشركة «جوجل» والتي يقع مقرها في لندن، وفريق تحليل البيانات بنادي «ليفربول» الإنجليزي3.
يقول إيان جراهام، مدير الأبحاث بنادي «ليفربول»، والذي انصرف عن منحة لأبحاث ما بعد الدكتوراه في تخصص فيزياء البوليمرات بجامعة كامبريدج من أجل العمل في إحصاءات كرة القدم: “مستعينًا بهذا النوع من التطبيقات، لك أن تبدأ الآن في طرح أسئلة بشأن الجوانب الخططية أو التصوُّرات المغايرة لأحداث المباريات”.
يقول جراهام: “إذا وقعت حادثة معيَّنة في المباراة، يمكن للنموذج إنتاج الآلاف من عمليات المحاكاة المختلفة التي تضع تصوُّراتٍ مغايرةً لما كان يمكن أن يحدث بدلاً مما حدث بالفعل. وهكذا، يكون في إمكانك البدء في الحديث عن مدى نجاح تحرك هجومي بعينه في وقت معين من المباراة”.
عادةً ما تُفضِّل الفرق المسؤولة عن تحليل البيانات في الأندية عدم مشاركة المعلومات بشأن تفاصيل العمل الذي يقومون به أو مدى نجاحه؛ وهذا ما يبرر شعور نادي «ليفربولن » بعدم الارتياح إزاء نشر هذا العمل، إلا أن ذلك كان شرطًا للعمل مع شركة «ديب مايند»”لك أن تبدأ الآن في طرح أسئلة بشأن الجوانب الخططية أو التصوُّرات المغايرة لأحداث المباريات”.
يقول جراهام: “يمتلك «ليفربول» أحد أكبر الإدارات المعنية بتحليل البيانات وأكثرها تطورًا في مجال كرة القدم؛ غير أننا نفتقر إلى الموارد اللازمة لبناء هذه النماذج بأنفسنا”. ولعلَّ ذلك ما يجعل جراهام موقنًا من أنه لا يوجد أي نادٍ آخر يمكنه القيام بذلك.
يرفض جراهام، شأنه في ذلك شأن غيره من محلِّلي الأداء، أن يَنسِب لنفسه الفضل المباشر في النجاح الذي يتحقق على أرض الملعب. يقول: “كرة القدم لُعبةٌ على درجةٍ عاليةٍ من التبايُن؛ إذ كثيرًا ما نرى فِرَقًا تخسر عندما لا يتوقع أحدٌ خسارتها، وتفوز عندما لا يُنتظَر لها أن تفوز. تكون مهمتنا أسهل من نواحٍ عدَّة عندما يقدِّم الفريق أداءً ضعيفًا، لأن التحليل الذي نجريه كثيرًا ما يُظهر العكس: أننا لعبنا بشكلٍ جيد، وأننا إذا واصلنا الأداء بالوتيرة نفسها، فسوف نكون قادرين على الفوز بالعدد المتوقع من المباريات في الموسم”.
يقول كارل تويلز، المتخصص في علوم الحاسب الآلي بشركة «ديب مايند»، إن أعمال النمذجة للتحركات البعيدة عن عدسات الكاميرات تُعد الخطوة الأولى نحو ابتكار مُدرِّب مساعِد افتراضيّ، يعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ويستخدم بياناتٍ آنيةً لتوجيه عملية صنع القرار في كرة القدم وغيرها من الرياضات. يقول تويلز: “تخيَّل أنك تملك تقنية ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل أداء الفريق في شوط المباراة الأول، ثم تقترح تغييرًا في التشكيل قد يكون له تأثير أفضل على الأداء في الشوط الثاني”.
يضيف تويلز أن هذا النهج يمكن أن يكون مفيدًا أيضًا بعيدًا عن كرة القدم، بأدائه عديدًا من المهام الأخرى، مثل نمذجة مسارات السيارات ذاتية القيادة والمشاة في شارع من شوارع مدينة مكتظَّة.
ما الخطوة القادمة؟ يؤكد الخبراء المعنيون بتحليل بيانات كرة القدم، كدأب العلماء المُجيدين عمومًا، أنه لا تزال هناك حاجة لمزيد من الأبحاث. تطمع سارة رود، عالمة البيانات السابقة في شركة «ميكروسوفت» التي تركت نادي «آرسنال» الإنجليزي العام الماضي بعد ما يقرب من عقد من العمل في تحليل البيانات لصالح النادي اللندني، في الحصول على فيض البيانات والقياسات التي تنتجها سيارة السباق عن بُعد، والتي تساعد في دعم الفِرَق لتعديل الأداء وتحسينه.
تقول رود: “ننظر دائمًا إلى سباقات سيارات «فورميولا 1»، ونقول إنه سيكون من الرائع الحصول على هذا المستوى من البيانات. ثمة جوانب كثيرة في كرة القدم لم تخضع بعدُ للقياس، أو قِيسَتْ غير أننا لم نتوصل بعد إلى كيفية ترجمة تلك القياسات إلى رؤًى وأفكار”.
لعلَّ الخطوة التالية على طريق التطوير تتمثل في التوصل إلى بيانات تُظهر اتجاهات اللاعبين، بل والكيفية التي يغيرون بها اتجاهاتهم. تقول رود: “ما زالت بيانات التتبُّع، على ما يبدو، تفتقر إلى مستوى الدقة المنشود. فما زلنا عاجزين عن تسجيل لقطات لحركات المراوغة البسيطة أو تغيير الاتجاه التي يؤديها لاعب بقصدِ إفقادِ المدافع توازنَه، أو مَنْح حارس المرمى بعض الوقت”.
حتى تحليلات البيانات التي يجريها نادي «ليفربول»، وإنْ كانت تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، يمكن أيضًا أن تتعرض للخداع إذا لم تتوفر معلومات كاملة عن مواقع تمركز اللاعبين. يقول جراهام: “قد يقول النموذج إن لاعبًا بعينه قد ارتكب خطأً لأنه كان من المفترض أن يبدأ في الركض عند تلك النقطة لكنه لم يفعل؛ إلا أن هذا الخطأ يمكن أن يكون راجعًا إلى تعثُّر اللاعب وسقوطه على أرضية الملعب”.
“محلِّلو الأداء جعلوا يتساءلون: لماذا تُسدد على المرمى من مسافةٍ كهذه، إذا كانت احتمالية إصابة الهدف لا تتجاوز 2% فقط؟!”.
وسط هذا الطوفان من البيانات التي غمرت كرة القدم الحديثة، ثمة سؤال يطرح نفسه: كيف غيَّرَتْ الأرقامُ اللُّعبة؟
يقول رامينيني: “أكبر الظن أن الانتقالات وعمليات استقطاب اللاعبين هي المساحة التي تحصل فيها على أعلى قيمة نظير ما تنفقه من مال”. يُضاف ذلك إلى مساحةٍ أخرى، تتمثل في استراتيجيات تنفيذ الركلات الثابتة، وذلك عندما يحصل الفريق على ركلة حرة بعد توقف اللعب مؤقتًا.
أحد الدروس الهامة المستقاة من تحليل البيانات هو أنه لا يحسُن باللاعب التسديد على المرمى عندما لا يكون قريبًا منه. يقول رامينيني: “إذا تابعتَ مباريات أيٍّ من دوريات العالم، لوجدتَ أن اللاعبين قبل عشر سنوات كانوا يسددون على المرمى من مسافاتٍ أبعد كثيرًا مما يشيع الآن. حدث ذلك كله لأن محلِّلي الأداء جعلوا يتساءلون: لماذا تُسدد على المرمى من مسافةٍ كهذه، إذا كانت احتمالية إصابة الهدف لا تتجاوز 2% فقط؟!”.
وأضاف رامينيني أن كثيرًا من الفرق الآن تثني لاعبيها عن محاولة إرسال الكرات العرضية المرتفعة صوبَ منطقة الجزاء، وذلك بعد أن أظهرت الإحصاءات أن غالبية تلك الكرات تمرُّ بلا جدوى، يرى رامينيني أنه مع التنامي المطَّرد في حجم البيانات المُنتَجة، فسوف تزداد أيضًا فرص العمل، ويقول: “أعتقد أن بصمات البيانات على اللُّعبة بكل جوانبها أصبحت من الوضوح بحيث لا يوجد سبيلٌ للعودة إلى الوراء”.
.
رابط المصدر: