د. مظهر محمد صالح
١– السياسة النقدية ابان الكساد العظيم ١٩٢٩
ادى الانكماش المستمر والهبوط الحاد في المستوى العام للأسعار ابان الكساد العظيم بجعل الفائدة الحقيقية على الثروة السائلة بان تكون اعلى ما يمكن، وهذا ولَّد ما يعرف بفخ السيولة liquidity trap وفاقم من مشكلات الكساد يوم انخفض الناتج المحلي الاجمالي الامريكي الى النصف وزادت البطالة لتبلغ نسبة ٣٣٪ من قوة العمل الامريكية، فلجأت السياسة الاقتصادية الكينزية في الولايات المتحدة بمبدأ اطلق عليه New Deal في عهد روزفلت ويتمثل بتبني دور السياسة المالية التوسعية التي عملت على توسيع الطلب الفعال او الانفاق الكلي الفعال عبر سياسة الاشغال العامة وتوليد فرص مستجدة للإنفاق او الصرف الذي يولد بدوره طلباً مشتقاً وبصورة مضاعفة داخلا لاقتصاد ساعد على النهوض بالموارد المعطلة وتحريك دورة الانتاج والدخل والاستخدام ومحاربة البطالة.
فمن اخطاء السياسة النقدية عام ١٩٢٩ أنها لم تستخدم وسائلها التوسعية كالتيسير الكمي QE، التي كان يجب ان تتبعها على غرار ما تم من منح قروض بفائدة منخفضة قاربت الصفر في ازمة القرن الحادي والعشرين الاقتصادية من خلال دور البنوك المركزية التوسعي وخصم الاوراق المالية بأقل الخصوم ومنح القروض للمصارف نفسها على غرار ما جرى (ابان الازمة المالية العالمية ٢٠٠٨ وما بعدها)، اذ لم تحصل الودائع الا على فائدة اسمية (سالبة) لتشجيع الافراد على الانفاق الاستهلاكي والاستثماري. وهذا ما فعلته اليابان ومنطقة اليورو.
وكذلك اميركا التي جعلت الفائدة قريبة من الصفر على الايداعات، ويأتي كل ذلك من منطلقين الاول: ان اتساع الفائدة الحقيقية بسبب تعاظم القوة الشرائية على الثروات النقدية امر يزيد من درجة تقلص الانفاق وانخفاضه كقوة طلب جراء (فخ السيولة) لكون الفائدة الحقيقيةreal interest rate تضفي عائد ضمني على جراء الاحتفاظ بالثروة النقدية السائلة (المحتفظ بها) وهي افضل من الاستثمار العيني ومن ثم توليد اثر ثروة ضمني موجب positive wealth effect بسبب اللاتضخم وارتفاع قيمة العملة ما يسبب استمرار الكساد يقتضي علاج مضاد وهو الفائدة الاسمية السالبة لتدفع كمكافاة سالبة الى الفائض المالي (اي الاخذ منها).
والثاني، هو ضرورة توفير ائتمان بكلفة فائدة صفرية او قريب منها وذلك لبث النشاط الاقتصادي بأقل التكاليف ورفع قوى الطلب وروافعه العالية للمستثمرين كقوى عجز ولكن راغبة في الانفاق الاستثماري.
حقيقة، هذا هو جوهر اخفاق السياسة النقدية في عام ١٩٢٩ في انقاذ الاقتصاد الغربي وتبنى جون كينز في كتابه الشهير النظرية العامة التي جسدها بكتابه الذي صدر عام ١٩٣٦. انها سياسة مالية مرنة تعظم من الطلب او الانفاق الفعال لتشغيل الدورة الاقتصادية وظل يطلق على الكينزيين بالماليين Fiscalists وليس بالنقوديين.
٢– تأملات في الركود والكساد بعد الحرب الثانية
في الجناح الجنوبي من منزل بلير Blair House اتخذ الرئيس هاري ترومان، الذي امتدت ولايته بين العام 1945 والعام 1953 مكتبا مؤقتاً له مجاورا للبيت الابيض، حيث سُئل يومها، ما الفرق بين الركود والكساد في الاقتصاد؟ وهل حقا ان الركود يعني الاصابة بالزكام والكساد يعني مرضاً مزمناً طويل الاجل؟
تبسم ترومان صامتاً في سره متسائلا قبل ان يجيب: «يخيل لي ان الامور الاقتصادية اخذت تمضي في مجرى جديد بعد ان وضعت الحرب الثانية اوزارها، فبعيداً عن هموم الركود الاقتصادي، عليَ ان أمهد الطريق لتبتعد بلادنا عن الكساد ومشاقه في تكاثر البطالة وتدني الازدهار». هنا انتبه الرئيس على وقع السؤال ليجيب من فوره: «الركود هو عندما يخسر جارك فرصة عمله، والكساد هو عندما تخسر انت بنفسك فرصة عملك».
الركود الاقتصادي يعني تدهورا في نمو الناتج المحلي الاجمالي ويمتد لفصلين متعاقبين، الامر الذي يدعو البنوك المركزية الى خفض الفائدة لتحفيز الطلب على السلع والخدمات والاستثمارات معا، ومن ثم تحفيز النمو وخفض مستويات البطالة في حين يصل الاقتصاد الى مراحل الكساد عندما يتخطى التدهور في النمو الاقتصادي ثلاثة فصول او أكثر. اذ يؤشر الكساد هبوطاً حاداً في الانفاق الكلي والانتاج معاً. ونتيجة لذلك تهبط الارقام القياسية للسوق المالية وتنحدر الكثير من الشركات الى الافلاس، وترتفع معدلات البطالة بين العمال.
وهنا تذهب الحكومات الى تبني برامج تحفيزية من خلال توسيع مجالات الانفاق الحكومي والسماح لعرض النقد بالتوسع. ولكن يبقى اللغز لماذا سُئل الرئيس ترومان عن الفرق بين معنيي الركود والكساد؟ في نهاية الحرب الاولى التي كان ترومان جنديا فيها، بدأ عمله في السوق مع شريك في محل لبيع المواد المستعملة، ولكن تعرض في العام 1921 الى خسارة نجمت عن ظاهرة الركود التي ضربت البلاد آنذاك ولم يستطع ترومان تسديد ما بذمته من ديون حتى العام 1934.
والاغرب انه في نهاية الحرب العالمية الثانية وعند توليه الرئاسة، انتقلت اميركا وعلى نحو مضطرب من اقتصاد الحرب الى اقتصاد السلام متعثرة بشيء من الركود وهو الامر الذي تزامن بتسريح جماعي للجنود القدامى، فضلا عن التباطؤ الذي شهدته مصانع السلاح وتسريحها لآلاف العمال. وبهذا اشتدت مخاوف الرئيس من ان تنزلق البلاد الى الكساد الاقتصادي ليكون مماثلا للكساد العظيم في العام 1929.
ختاما، تم تجديد البيت الابيض في العام 1948 يوم اشارت التقارير الهندسية الى ان مقر الرئيس قد أصبح متهالكاً بعد مرور 130 عاماً على تشييده ما اضطر الرئيس ترومان الى ان يأخذ الجناح الجنوبي من (منزل بلير) المجاور للبيت الابيض. وعلى سبيل المصادفة الموضوعية اصطحبني مضيفي في منزل بلير Blair House نفسه في ربيع العام 2015 ليطلعني على الجناح الجنوبي للرئيس ترومان، وقد تمعنت حينها بالنظر الى الطاولة التي شغلها الرئيس واستطردت في سري قائلا: «هنا جرى التفريق حقاً بين الركود والكساد».
رابط المصدر: