مهند مصطفى
عادت الحكومة الإسرائيلية إلى مشروعها بتغيير البنية الدستورية في إسرائيل. ويكمن الاختلاف بين محاولتها هذه المرة عن المرة السابقة في تنفيذها للتغييرات بشكل تدريجي وليس بصورة شاملة، إذ تعمل الحكومة على تشريع قانون يُحد من بند “المعقولية”، ما يمنح السلطة التنفيذية صلاحيات اتخاذ قرارات إدارية من دون رقابة الجهاز القضائي. وقد صعّدت حركة الاحتجاج نشاطاتها ضد التغييرات الدستورية، وازدادت ظاهرة رفض الخدمة والعصيان العسكري، مما يؤشر على عودة الأزمة السياسية من جديد في إسرائيل.
تناقش هذه الورقة عودة أزمة التغييرات الدستورية، وتداعياتها على الوضع الإسرائيلي الداخلي والخارجي، وعلى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وسيناريوهات الخروج من الأزمة.
عودة التغييرات الدستورية
بعد توقف المحاولة الأولى للحكومة في إحداث ثورة دستورية في إسرائيل تُغير فيها قواعد اللعبة والعلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية من جهة والسلطة القضائية من الجهة الأخرى، انطلقت في أبريل الماضي مباحثات بين الحكومة والمعارضة تحت رعاية رئيس الدولة إسحاق هرتسوغ من أجل التوصل إلى اتفاق على التغييرات المطلوبة، والتي باءت بالفشل بعد جهود استمرت شهوراً. بعد فشل محاولة التوصل إلى اتفاق مشترك حول التغييرات الدستورية، عادت الحكومة الإسرائيلية إلى مشروعها في إحداث تغييرات دستورية، ولكن هذه المرة بشكل تدريجي.
من متابعة تقدُّم المباحثات في بيت رئيس الدولة يتضح أن الطرفين لم يُعوّلا على هذه المباحثات من أجل التوصل إلى اتفاق بينهما، بل راهنا على كسب الوقت؛ فرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أراد كسب الوقت لإضعاف الحماس الموجود في حركة الاحتجاج، والتي وصلت ذروتها بعد إعلانه إقالة وزير الدفاع يوآف غالنت، والتفكير في كيفية التعامل مع ظاهرة رفض الخدمة العسكرية، وإعادة التفكير من جديد حول الطريقة التي يمكن من خلالها تمرير التغييرات الدستورية التي يطالب بها شركاؤه في الائتلاف الحكومي، وأغلب أعضاء حزب الليكود. أما المعارضة فقد راهنت على أن المباحثات سوف تسهم في إسقاط التغييرات الدستورية من جدول أعمال الحكومة، وكانت تُعوِّل على نتنياهو بأن يفعل ذلك بشكل هادئ ومن دون ضغط من شركائه في الحكومة. وقد تبين أن رهان الطرفين لم يكن صحيحاً.
لقد تعلمت الحكومةُ الدروسَ من التجربة السابقة من طريقة إجراء التغييرات الدستورية، وبدلاً من أن تذهب إلى تغيير شامل، فقد قررت الذهاب إلى تغييرات تدريجية تعمل فيها على إحداث تغيير واحد كل مرة، حتى تسحب البساط من ادعاء حركة الاحتجاج والمعارضة أن هناك مشروعاً لتغيير النظام السياسي الإسرائيلي والمسّ بديمقراطيته. وقد بدأت الحكومة بالعمل على تغيير مبدأ “المعقولية”، وهو مبدأ قضائي تستند له المحكمة العليا في إلغاء قرارات أو تعيينات أو إجراءات حكومية هي من حيث الشكل قانونية وتدخل ضمن صلاحيات الحكومة، ولكن قد تلغيها المحكمة باعتبار أن القرار فيه من عدم “المعقولية” ما يتطلب إلغاءه. لذلك تهدف الحكومة من تغيير هذه المبدأ إلى تقليص صلاحية المحكمة العليا في استخدامه لإلغاء قرارات حكومية أو إجراءات للسلطة التنفيذية.
وقد بدأت الحكومة بهذا التغيير من أجل إرجاع أرييه درعي، رئيس حركة “شاس” الدينية، إلى الحكومة، بعد أن ألغت المحكمة العليا في عام 2022 قرار تعيينه وزيراً في الحكومة بحجة المعقولية بسبب اتهامه بقضايا مالية (فقد اتهم درعي بالفساد عام 1999، ودخل السجن عام 2000 لمدة ثلاث سنوات). ولكن المعارضة تعتقد أن الأمر لن يتوقف عند درعي لإرضاء حركة شاس، بل قد يتعداه إلى نية الحكومة القيام بإجراءات إدارية تشمل إقالة كبار الموظفين، وتعيين بدائل عنهم مقربين من الحكومة أو حتى أعضاء في أحزابها، والذي ربما تمنعه المحكمة العليا تحت طائلة المعقولية. مرّ القانون لتعديل بند المعقولية بالقراءة الأولى في الكنيست في 10 يوليو الجاري (بأغلبية 64 نائباً هم أعضاء الائتلاف الحكومي مقابل معارضة 56 نائباً)، ومن المتوقع إقراره في القراءة الثانية والثالثة الأسبوع المقبل.
تَعتبر المعارضة وحركة الاحتجاج أن مبدأ “المعقولية” يقع في جوهر النظام الديمقراطي الإسرائيلي، فهو واحد من الوسائل التي تستعملها المحكمة العليا من أجل كبح جماح قرارات حكومية تعسفية أو غير منطقية. وبالنسبة للمعارضة فإن إقرار قانون يخفف من حجة المعقولية وصلاحيات المحكمة باستعمالها، يشبه إلى حد كبير “قانون التغلب” الذي أرادت الحكومة تشريعه من أجل منع المحكمة العليا من إلغاء قوانين يُسنها الكنيست وتتعارض مع القوانين الدستورية (قوانين الأساس) في إسرائيل. والأهم من كل ذلك، فإن المعارضة وحركة الاحتجاج تدرك أن إقرار هذا القانون يعني مُضيّ الحكومة نحو إقرار قوانين أخرى بنفس الطريقة كل مرة، ولذلك فإن انعدام الثقة في نوايا الحكومة من جهة، وخطورة قانون المعقولية من جهة ثانية، أدتا إلى تصعيد حركة الاحتجاج.
توسعت حركة الاحتجاج في الأسبوع الأخير مع إقرار القانون بالقراءة الأولى (التمهيدية)، وبدأت تنضم إلى حركة الاحتجاج قطاعات خدمية واقتصادية متعددة، مثل الأطباء الذي هددوا بترك المستشفيات في حال أُقِرّ القانون، وهناك ضغط يُمارس على نقابة العمال (الهستدروت) لإعلان الاضراب الشامل في الاقتصاد الإسرائيلي عشية إقرار القانون نهائياً، ولكنْ يبقى الاحتجاج داخل الجيش هو الأكثر تأثيراً وخطورة.
تنامي رفض الخدمة العسكرية
في أعقاب إعادة الحكومة طرح التغييرات الدستورية، عادت من جديد مظاهر رفض الخدمة العسكرية، وبخاصة في صفوف الطيارين في الاحتياط، والذين يعتمد عليهم سلاح الجو الإسرائيلي بشكل كامل، إذ تشير مصادر في هيئة الأركان إلى أن ظاهرة رفض الخدمة والعصيان العسكري هي أشد من المرة السابقة. حاولت الحكومة خلال الفترة السابقة نزع شرعية رفض الخدمة العسكرية، وضغطت على المؤسسة العسكرية بعدم التساهل مع مظاهر رفض الخدمة، بيد أن الأمر لم يُجْد نفعاً، فظهرت حركة رفض الخدمة في صفوف الطيارين بشكل أكثر منظَّم مما كان في السابق، إذ أصدر 106 طيارين في الاحتياط في 15 يوليو عريضةً قالوا فيها إنهم يرفضون الخدمة في مواقعهم إذا استمرت الحكومة بمشروعها للتغييرات الدستورية، وأغلب الموقعين على العريضة هم طيارون وطيارون مساعدون، والباقي ضباط في سلاح الجو في وظائف مختلفة. وأعقب هذه العريضة الجماعية إعلان 20 طياراً بشكل مستقل عن رفضهم الانضباط في الخدمة في حال أقرت الحكومة قانون المعقولية.
في السياق نفسه، أعلن 220 من الأفراد في الاحتياط والجنود السابقين في وحدة “متكال” الخاصة أنهم سيرفضون الخدمة في الوحدة إذا استمرت الحكومة في مشروعها. وشملت الاحتجاجات أيضاً منظومة السايبر الهجومية في الجيش الإسرائيلي، فقد قال أحد أفراد وحدة الاحتياط في منظومة السايبر الهجومية: “من ناحيتي، عندما أعلن بأني لن أذهب للاحتياط هو مثل نزع جزء من هويتي، ولكن ليس هناك خيار آخر، أنا مضطر لفعل ذلك وإلا فإني سأخون الدولة، وأخون قيمي وقيمها”. ويشير الباحث والصحفي رونين برغمان إلى أن هذه الوحدة، التي أعلن عدد من منسوبيها رفض الخدمة، هي المسؤولة عن تطوير نظام السايبر في الجيش الإسرائيلي، كما أعلن القائد السابق لوحدة الكوماندوز البحرية (الوحدة 13)، العقيد احتياط نيفو ارز، وهي واحدة من أهم الوحدات الخاصة في الجيش الإسرائيلي، عن عدم تنفيذه أمر استدعاء الاحتياط بسبب التغييرات الدستورية.
ومع أن الجيش يحاول إخفاء حجم رفض الخدمة العسكرية في صفوف الوحدات الخاصة، وأضرارها على جهوزية الجيش الإسرائيلي ومتانته، فقد اعتبر رئيس هيئة الأركان هرتسي هليفي أن ما يحدث في الجيش يهدد تماسكه الداخلي، وأنه على عكس المرة السابقة سيتعامل بصورة أشد مع هذه المظاهر.
من جهة ثانية، تُمارِس حركة الاحتجاج المدنية والعسكرية ضغوطاً على وزير الدفاع غالانت من لاتخاذ موقف شبيه بموقفه السابق عندما أعلن عن خطورة التغييرات الدستورية على الأمن القومي الإسرائيلي، ولكنْ يبدو أن غالانت لن يتخذ الموقف نفسه هذه المرة، وذلك لسببين: أولهما، أن الحكومة لا تنفذ تغييرات شاملة كما كان في السابق، وليس لديه مبرر لفعل ذلك، وثانيهما أن غالانت نفسه يؤيد هذه التغييرات بهذه الطريقة، كما أنه استطاع أن يكسر موقف الصمت في المؤسسة العسكرية المتفهمة لرفض الخدمة العسكرية نحو التعامل معها بشكل أشد. ومع ذلك، هناك اعتقاد بأن نتنياهو لا يثق بعدم رضوخ غالانت للضغوط من قوات الاحتياط، وبخاصة مع تزايد تقارير الجيش غير المعلنة عن التفسخ الذي بدأ يحدث في الجيش على مستوى الأفراد والوحدات.
وقد اتخذ غالانت مجموعة من الخطوات لمواجهة العصيان العسكري، مع التوضيح أن خياراته قليلة، لأن الحديث هنا عن جنود وضباط احتياط متطوعين وليسوا في التشكيل النظامي، فلا يوجد قانون يعاقبهم على عدم الانصياع للخدمة، ويمكن إجمال هذه الخطوات على النحو الآتي:
- تجنيد قيادة المؤسسة العسكرية لمعارضة العصيان العسكري، وبخاصة رئيس هيئة الأركان الذي وصف العصيان بأنه يهدد أمن إسرائيل ووحدة الجيش. فبدل موقف التفهم كما كان في السابق، يظهر موقف المعارض وحتى نزع الشرعية عن حركة الاحتجاج بوصفها “غير شرعية” على حد وصف غالانت، مما اضطر جنرالات متقاعدين في سلاح الجو إلى إصدار بيان دعم احتجاج الطيارين رداً على توجه نزع الشرعية.
- إجراء حوار مع الرافضين أو قادة الوحدات من أجل منع رفض الخدمة، والضغط على الجنود في هذا الصدد.
- التفكير بإطاحة بعض قيادة الاحتجاج داخل الجيش من ضباط الاحتياط، ولكن هذه الخطوة ستكون الأخيرة.
التداعيات الداخلية والخارجية للأزمة
يمكن الإشارة إلى مجموعة من التداعيات الداخلية والخارجية لتجدد أزمة التغييرات الدستورية في إسرائيل:
أولاً، العلاقة مع الولايات المتحدة: وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن الحكومةَ الإسرائيلية الحالية بأنها “الحكومة الأكثر تطرفاً” في تاريخ إسرائيل، وجاء هذا التصريح على خلفية سياسة الحكومة القمعية في الضفة الغربية، وعودة التعديلات الدستورية، وتَعتبر الولايات المتحدة أن نتنياهو أخلف بوعده لبايدن بعدم إجراء تغيير دستوري من دون إجماع واتفاق مع المعارضة. لذا فضّل البيت الأبيض دعوة رئيس الدولة إسحاق هرتسوغ إلى القاء بايدن في البيت الأبيض في 18 يوليو، بدل نتنياهو، وهي رسالة إلى الحكومة الإسرائيلية بأن سياساتها الحالية تتعارض مع توجهات الإدارة الأمريكية، وأن إسرائيل قد تتحمل مسؤولية ذلك على أكثر من صعيد. وقد تحدث نتنياهو وبايدن هاتفياً يوم 17 يوليو، ودار حديثهما حول التغيير الدستوري الحالي، ويبدو أن بايدن ضغط على نتنياهو بهذا الشأن، وكان نتنياهو قد وعده بالتوصل إلى إجماع حول التغييرات الدستورية خلال عطلة الكنيست في الصيف، ولكن لم تشر المصادر إذا ما كانت تشمل التغيير الحالي. وقد دعا بايدن نتنياهو لزيارة واشنطن، وفق بيان مكتب نتنياهو، ولكن يبدو أن الأمر جاء من أجل محاولة التأثير عليه بعدم المضيّ بالتغييرات الدستورية، وقد وعد نتنياهو بايدن بأن التغيير الحالي سيكون الأخير من دون إجماع، فيما أكد بيان البيت الأبيض أن اللقاء لا يعني إلغاء القلق الأمريكي من سياسات الحكومة. كما أن بايدن أراد من لقاء نتنياهو تقليل النقد عليه داخلياً لأنه يتجاهل نتنياهو، والذي وصل ذروته بدعوة رئيس الدولة بدل نتنياهو وأيضاً للتشاور في قضايا مهمة، مثل الأوضاع في الضفة الغربية والملف الإيراني. وثمة تقارير في الصحافة الإسرائيلية رجحت أن حديث بيان البيت الأبيض عن “لقاء” من دون تحديد مكانه وزمانه، يعني أن بايدن سيلتقي نتنياهو في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في الخريف، أي أن اللقاء ليس دعوة رسمية إلى البيت الأبيض، ما يعني استمرار موقف الإدارة الأمريكية من سياسات حكومة نتنياهو.
ثانياً، على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية: ستؤدي التغييرات الدستورية إلى التأثير في الجيش الإسرائيلي في جانبين: الأول، رفض الخدمة العسكرية الذي قد يتحول إلى عصيان عسكري إذا أقر قانون المعقولية بشكل نهائي، وهو ما سينعكس على جهوزية الجيش الإسرائيلي؛ والثاني، تآكل وحدة الجيش الداخلية بين الجنود الذين يرفضون الخدمة وأولئك الذي يؤيدونها، وهو استقطاب يتقاطع مع وحدات الجيش المختلفة، بين تلك الوحدات التي ينتمي أغلب الجنود المحتجين لها ووحدات ينتمي لها جنود من قواعد اجتماعية اقتصادية مؤيدة للحكومة.
ثالثاً، على الاقتصاد الإسرائيلي: يهدد التغيير الدستوري الحالي الاقتصادَ الإسرائيلي، فقد اشترطت الشركات الائتمانية الحفاظ على تصنيف إسرائيل الائتماني الدولي، بالتوصل إلى إجماع حول التغييرات الدستورية، وأن عدم الالتزام بهذا الأمر سوف ينزع الثقة بالحكومة الإسرائيلية. فضلاً عن ذلك فإن بدء التغييرات من دون اتفاق وغياب الثقة سوف يعيد مشكلة الاستثمار الدولي في إسرائيل، وبخاصة في مجال “الهايتك”، فضلاً عن خروج شركات من السوق الإسرائيلي، وتراجع قيمة الشيكل أمام الدولار التي تتأثر بما يحدث في إسرائيل من الناحية السياسية.
سيناريوهات أزمة التعديلات الدستورية
بناءً على ما سبق، يمكن الإشارة إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل أزمة التعديلات الدستورية في إسرائيل:
السيناريو الأول: إقرار التغيير الدستوري الحالي
ينطلق هذا السيناريو من أن الحكومة سوف تستمر في تشريع قانون تعديل المعقولية في الجهاز القضائي، ولن ترضخ لحركة الاحتجاج الإسرائيلية ومظاهر العصيان العسكري في الجيش. ينطلق هذا السيناريو من الاعتبارات الآتية:
- التراجع عن تشريع قانون تعديل بند المعقولية سوف يُفقد الحكومة شرعيتها في صفوف اليمين الإسرائيلي، وبخاصة أن الحديث عن قانون واحد فقط، وهو أقل مما يطلبه جمهور اليمين الداعم للحكومة فيما يتعلق بالسلطة القضائية.
- الخوف من تفكك الحكومة إذا تراجعت عن تشريع قانون تعديل بند المعقولية، لأن القوائم المشاركة في الائتلاف الحكومي تطالب نتنياهو بتنفيذ وعده باستئناف التغييرات الدستورية في دورة الكنيست الصيفية، كما وعدهم بذلك عندما جمّد التشريعات القانونية في دورة الكنيست الشتوية. فإذا قرر نتنياهو التراجع عن إقرار قانون تعديل بند المعقولية فيمكن أن تعلن قوائم في الحكومة، مثل “عظمة يهودية” أو “الصهيونية الدينية” أو حركة “شاس”، عن تركها للحكومة.
- قدرة الحكومة على تنظيم صفوف اليمين من أجل الخروج في مظاهرات مؤيدة للتغييرات الدستورية كقوة موازية للاحتجاجات المعارضة، وذلك لتفنيد الادعاء أن الشعب كله ضد التشريعات.
- العمل على محاولة احتواء رفض الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، والضغط على المؤسسة العسكرية لاتخاذ خطوات حازمة ضدها، فضلاً عن المجهود الذي بذلته الحكومة لنزع الشرعية عن رفض الخدمة، واعتباره تهديداً للأمن القومي وتماسك الجيش، مثلما ظهر في تصريحات نتنياهو في افتتاح جلسة الحكومة في 16 يوليو التي هاجم فيها الضبط والجنود واتهمهم بالعصيان ومخالفة القانون والديمقراطية.
السيناريو الثاني: إلغاء التغيير الدستوري الحالي
ينطلق هذا السيناريو من أن نتنياهو سوف يخضع لحركة الاحتجاج التي تتوسع يوماً بعد يوم، ولضغط الولايات المتحدة أيضاًن بما يؤدي إلى تجميد قانون تعديل بند المعقولية. وينطلق هذا السيناريو من الاعتبارات الآتية:
- انتشار العصيان ورفض الخدمة العسكرية في الجيش، وبخاصة في وحداته الخاصة بصورة أكبر مما كان في السابق، وهو العامل الذي دفع نتنياهو إلى تجميد التغييرات الدستورية في المرة السابقة.
- التخوف من تجدد الأزمة السياسية داخل الحكومة باستقالة وزير الدفاع، ما قد يؤجج الاحتجاج. فنتنياهو لا يزال يشك في إمكانية صمود غالانت أمام الضغوطات القادمة من المؤسسة العسكرية، والتي تحذر من التداعيات الأمنية لرفض الخدمة العسكرية.
- دخول قطاعات خدماتية واقتصادية للاحتجاج، الأمر الذي سيفاقم الأزمة الداخلية من جهة، ويُهدد مكانة الاقتصاد الإسرائيلي على المستوى الدولي، وتصنيفه الائتماني.
- تدهور العلاقات مع الإدارة الأمريكية، وبخاصة أن نتنياهو كان قد وعد الإدارة الأمريكية بالتوصل إلى اتفاق مع المعارضة حول التغييرات الدستورية.
السيناريو الثالث: التوصل إلى اتفاق مع المعارضة حول التغيير الدستوري الحالي
ينطلق هذا السيناريو من إمكانية توصل الطرفين إلى اتفاق حول تغيير قانون المعقولية نحو صيغة مُخففة تُرضي الطرفين. ويعتمد هذا السيناريو على العوامل الآتية:
- الخروج من المأزق الحالي يكون من خلال التوصل إلى اتفاق حول التغيير المقترح، بحيث يخرج الطرفان راضيين عن الصيغة المتفق عليها.
- مصلحة المعارضة تتمثل في التوصل إلى اتفاق من أجل منع الحكومة من تشريع القانون، لعلمها أنها لن تجمّده مرة أخرى.
- من مصلحة الحكومة التوصل إلى اتفاق لتفادي التداعيات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه تحقيق أول تغيير دستوري من ضمن تغييرات وعدت بتنفيذه.
- الحفاظ على الوعد الذي قطعه نتنياهو للإدارة الأمريكية، والتصريحات التي قالها للعديد من وسائل الإعلام الأجنبية بأنه سينفذ التغييرات باتفاق مع المعارضة.
السيناريو المُرجَّح
تعتقد الورقة أن السيناريو الأول هو السيناريو المرجح، فالسيناريو الثالث المبنى على التوصل إلى اتفاق حول التغيير الدستوري المقترح يتطلب وقتاً للتوصل إليه، في حين أن الدورة الصيفية للكنيست تنتهي في نهاية شهر يوليو، وتجميد التشريع الحالي والتوصل إلى اتفاق حوله يحتاج إلى وقت طويل قد يؤدي إلى تأجيل التشريع لدورة الكنيست في شهر أكتوبر المقبل، وهو يعني بالنسبة لنتنياهو خضوع ثان لحركة الاحتجاج من دون أي مقابل. كما أن تجربة المباحثات في بيت رئيس الدولة، التي استمرت لأشهر لم تُفضِ لاتفاق، ومن الصعوبة التعويل على أسبوعين للتوصل إلى اتفاق، لاسيّما أن حالة غياب الثقة هي السائدة بين الحكومة والمعارضة.
أما بالنسبة للسيناريو الثاني فهو صعب التحقق لأنه سيؤدي إلى تفكك الحكومة، ونهاية شرعيتها في صفوف اليمين، وبخاصة أن الحكومة عملت خلال الأشهر الماضية على تنظيم صفوف اليمين من أجل التحضير لتغييرات دستورية في الدورة الحالية للكنيست. فضلاً عن ذلك، فإن إلغاء التغيير الدستوري يُظهر الحكومة بأنها ضعيفة ولا تلتزم بوعودها، ليس فقط لجمهورها وإنما للشركاء في الائتلاف الحكومي، وهي تعطي مبرراً لحزب “عظمة يهودية” للخروج من الحكومة، وهو الذي ظل في الحكومة بعد أن وعد نتنياهو رئيس الحزب ايتمار بن غفير بتجديد التغييرات في دورة الصيف، ولن يستطيع بن غفير، على سبيل المثال، قبول تجميد التغيير الدستوري المقترح أو تأجيله.
لذلك يبقى السيناريو الأول الأكثر ترجيحاً، فهو يحافظ على تماسك الحكومة، كما أن الحكومة سوف تُسوِّقه على أنه تنازل منها، فهي لم تُحدث تغييرات شاملة وواسعة، بل تغييراً عينياً، بمعنى أنها ستسوق للمجتمع الدولي أن هذا التشريع لا يمسّ النظام الديمقراطي في إسرائيل. وفي النهاية، بالنسبة لنتنياهو فإن الأضرار الناتجة عن تجميد التشريع المقترح أو إلغائه أكبر من تشريعه، ويعول نتنياهو على تجاوز حالة الاحتجاج الشعبي في فترة الصيف التي يدخل فيها الكنيست في إجازة لمدة ثلاثة أشهر تقريباً، كما يعول على احتواء العصيان العسكري من خلال إجراءات ينفذها وزير الدفاع بالتعاون مع رئيس هيئة الأركان.
استنتاجات
تتجه إسرائيل، في حالة أقر الكنيست قانون تعديل بند المعقولية، إلى أزمة داخلية هي الأخطر في تاريخها، أزمة تهدد وحدة المجتمع وتماسك الجيش. وسيؤدي تشريع القانون إلى تنامي الصراعات والشروخ داخل المجتمع الإسرائيلي بطريقة قد تؤدي إلى نتائج مقلقة بالنسبة لإسرائيل تتمثل في الإضرار بقدرات الجيش الإسرائيلي والاقتصاد، وهجرة شرائح اجتماعية قوية في المجتمع الإسرائيلي إلى الخارج، ولكن الأهم أنها سوف تزيد الاستقطاب لدرجة الكراهية بين المجموعات المختلفة في المجتمع. فالثقافة السائدة في النقاش العام هي ثقافة عنيفة، وتتأثر بالسجال السياسي بين الفريقين في الكنيست ولجانها الذي أصبح عنيفاً (من الناحية الكلامية) بصورة لم يشهده الكنيست من قبل.
.
رابط المصدر: