تعد سياسات التجارة الخارجية إحدى السياسات الاقتصادية الهامة التي تستخدمها الدولة لتحقيق أهدافها الوطنية بجانب السياسات المالية والنقدية والاستثمارية؛ فتتأثر بهم وتؤثر فيهم، فضلًا عن ارتباطها ارتباطًا وثيقًا بالسياق العالمي والأوضاع الاقتصادية الداخلية لأبرز الشركاء التجاريين. وقد شهد عام 2022 الأزمة الروسية الأوكرانية التي انتقلت تداعياتها إلى الاقتصاد المصري من خلال التأثير على عمليات التجارة الخارجية، ثم ألقت بآثارها على كافة المتغيرات الاقتصادية المحلية. فكيف أدارت الدولة سياساتها التجارية خلال عام 2022 وماذا حققت؟
بيئة التجارة الدولية في ظل الأزمات العالمية
خلفت أزمة جائحة كورونا وأزمة الصراع الروسي الأوكراني أزمة اقتصادية واسعة الأبعاد؛ إذ طالت معدلات الإنتاج العالمية، وأدت لارتفاع المستوى العام للأسعار، وأخلت بسلاسل الامداد العالمية، فضلًا عن توليد ضغوطات في أسواق الغذاء والطاقة وانعكس ذلك كله على حركة التجارة الدولية. ويلاحظ ارتفاع درجة تأثر التجارة الدولية بالأزمة الروسية الأوكرانية بدرجة أكبر من تأثير الأزمة على العوامل الاقتصادية الأخرى. فمع فرض عقوبات اقتصادية على روسيا تأثر بالتبعية شركاؤها التجاريون، وكذلك أدى ضرب مواطن الإنتاج في أوكرانيا، وعرقلة حركة النقل إلى التأثير على الشركاء التجاريين لأوكرانيا. وقد ترتب على أزمات التجارة الدولية تهديدات في الأمن الغذائي لعدد من الدول خاصة الدول النامية التي ترتفع فيها نسبة الإنفاق على الغذاء، ويتوقع أن تمتد كافة تلك التأثيرات في المدى المتوسط والطويل.
وتشير التقارير الدولية إلى أن حصص روسيا وأوكرانيا في التجارة الدولية منخفضة نسبيًا؛ إذ تصل نسبتهما إلى 2.5% من حجم التجارة العالمية وما يقدر بنحو 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 2021، وعلى الرغم من ذلك فإنهما موردان رئيسيان لعدد كبير من السلع الأساسية والاستراتيجية على رأسها الغذاء والطاقة، فبلغت الإمدادات العالمية من كلا الدولتين من القمح 25%، والشعير 15%، وزيت عباد الشمس 45%، والوقود 9.4%، والغاز الطبيعي 20% عام 2021. ويتبين من ارتفاع تلك النسب أن عددًا كبيرًا من الدول يعتمد على الصادرات الروسية والأوكرانية، وتأتي مصر على رأس تلك الدول. فعلى سبيل المثال، يأتي أكثر من نصف وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا. وبجانب السلع الأساسية والاستراتيجية، فإن الدولتين طرفي النزاع من أهم الموردين للسلع الأولية التي تدخل ضمن مدخلات إنتاج عدد كبير من السلع الصناعية مثل المعادن والأسلاك والنيون، ومع الاضطرابات المطولة في الدولتين يتعطل توريد تلك السلع عالميًا، ويتضرر عدد كبير من الصناعات، وكذلك تتعطل تجارة السلع النهائية بالتبعية. وتشير توقعات منظمة التجارة العالمية إلى تراجع التجارة الدولية بنسب 2.2% عام 2022، مع توقع تعظيم نسبة التراجع في الآجال الأطول.
ولقد كان لتتابع الأزمات الدولية، بدءًا من جائحة كورونا ثم الصراع في أوكرانيا، تأثير على مستقبل العولمة وحرية التجارة، وأشارت المنظمات الدولية إلى أن العالم أصبح مجزأ مما يقلل من المكاسب المحققة للجميع، واتجهت الدول إلى التكتلات الإقليمية حتى وإن كان بشكل غير معلن، من خلال الاعتماد على بدائل الواردات لخلق سلاسل إمداد إقليمية أكثر استقرارًا. وعلى الرغم من فعالية ذلك الخيار في المدى القصير، إلا أنه قد يؤدي إلى تقييد المنافسة وتقليل فرص الابتكار وتراجع الناتج الإجمالي العالمي على المدى الطويل، وإن كنا نرى فعالية ذلك بالنسبة للاقتصادات الصاعدة.
وضع الميزان التجاري خلال العشرة أشهر الأولى من عام 2022
نشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء النشرة الشهرية لبيانات التجارة الخارجية التي أشارت إلى تسجيل الصادرات المصرية نحو 42.8 مليار دولار خلال الفترة (يناير – أكتوبر 2022)، في مقابل 34.7 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من عام 2021. وعلى الرغم من ارتفاع قيمة الواردات بين فترتي المقارنة، فإن الوضع الإجمالي للميزان التجاري ظل كما هو مسجلًا عجزًا بما يقرب من 37.9 مليار دولار، وإن كان تحسن قليلًا بنحو 19 مليون دولار خلال العشرة أشهر الأولى من عام 2022. ويرجع ذلك إلى ارتفاع قيمة الواردات بما يزيد على 8 مليارات دولار خلال الفترة (يناير – أكتوبر 2022)، مع ملاحظة تأثير ارتفاع معدلات التضخم عالميًا ومحليًا على قيم التجارة.
سياسات التجارة الخارجية المصرية
تتسم سياسات التجارة الخارجية المصرية بارتباطها بشكل وثيق ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تنفذه الدولة بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والذي يرتكز على مبادئ منظمة التجارة العالمية، والالتزامات المفروضة في ضوء الاتفاقيات الإقليمية والثنائية التي تدخل مصر طرفًا فيها. وتقوم تلك المبادئ والالتزامات بشكل عام على مبادئ التجارة الحرة، وتحرير سعر الصرف، وتشجيع الصادرات وترشيد الواردات، وعلاج العجز في ميزان المدفوعات، وتطوير الإطار المؤسسي المنظم للتجارة الخارجية. وتهدف تلك المبادئ إلى إصلاحات ومعالجة الاختلالات الداخلية، فضلًا عن تعميق التكامل مع الاقتصاد العالمي. إلا أنه من جهة أخرى يلاحظ أن الأزمات المتتابعة التي شهدها الاقتصاد العالمي أفرزت عددًا من الممارسات الدولية المخالفة لقواعد التجارة الحرة، وسعت كل دولة إلى تحقيق أهدافها القومية أولًا وتعزيز أمنها الاقتصادي في ظل الظروف العالمية المضطربة، وصار الحديث حول تبني السياسات الحمائية عالميًا.
وقد عكست السياسة التجارية لمصر خلال فترة الأزمات التزام الدولة بالقواعد الدولية المنظمة وبما يحقق الأهداف القومية للدولة، فبدلًا من المفاضلة بين سياستي الإحلال محل الواردات وتشجيع الصادرات، تم العمل على إصلاح عددٍ من الاختلالات الرئيسية في منظومة التجارة الخارجية. فعلى سبيل المثال، تم إعلاء هدف تعميق المنتج المحلي وتوطين الصناعة المحلية، والذي من شأنه أن يؤدي إلى تخفيض فاتورة الواردات ويعالج الخلل في الميزان التجاري. إلا أنه من جهة أخرى، تم تحريك قيمة العملة ورفع سعر الصرف. ووفقًا للنظريات الاقتصادية فإن ذلك يؤدي إلى زيادة تنافسية الصادرات وارتفاع كميتها، وانخفاض تنافسية الواردات وتراجع حجمها، وذلك بشرط مرونة السلع الداخلة في التجارة. وفي الحالة المصرية، يلاحظ انخفاض مرونة الواردات نظرًا لكونها سلعًا أساسية، فضلًا عن انخفاض مرونة عرض الصادرات، ومن ثم فإن الأثر الإجمالي لانخفاض قيمة العملة المحلية لم يكن في صالح الميزان التجاري المصري، ولم يتم معالجة ذلك إلا من خلال زيادة الإنتاج لتوليد فائض يمكن تصديره، مع الأخذ في الاعتبار معايير الجودة.
وعملت الدولة على تطوير منظومة رد أعباء الصادرات بصفة خاصة منذ عام 2019، بما يحفز المصدرين من خلال أشكال مختلفة من الدعم المقدم. ولا يزال هذا البرنامج بحاجة للمزيد من التطوير بصفته البرنامج الوحيد المقدم لدعم المصدرين بشكل مباشر، ويجب أن يتضمن البرنامج تحقيق أهداف توسيع أسواق التصدير، ورفع القيمة المضافة للصادرات، وزيادة المكون التكنولوجي للمنتجات المصدرة، فضلًا عن ضرورة مراجعة الإطار المؤسسي للمبادرة بصفة خاصة الجزء المتعلق بتنظيم العلاقة بين وزارتي المالية بصفتها الجهة الممولة، ووزارة التجارة والصناعة بصفتها الجهة المنفذة. وعلى صعيد الواردات، فقد تم اتخاذ إجراءات من شأنها تفعيل منظومة التسجيل المسبق للشحنات وحوكمة منظومة التجارة الخارجية، وإحكام السيطرة على جودة وأسعار الواردات، وقد جاء على رأس تلك الإجراءات إلغاء العمل بمستندات التحصيل، ولكن مع التطبيق الفعلي لهذا القرار تبين تأثيره على عرقلة استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج، الأمر الذي أدى إلى تباطؤ العمليات الإنتاجية وانعكاس ذلك على الإنتاج والتشغيل والتصدير وحصيلة الضرائب وارتفاع المستوى العام للأسعار في وقت زيادة حدة أزمة التضخم، فتم إلغاء العمل بهذا القرار وفتح الاستيراد بمستندات التحصيل في ديسمبر 2023.
استشراف عام 2023
على الرغم من استمرار الأزمة الروسية الأوكرانية وما تبعها من أزمة عالمية والدخول في مراحل الركود التضخمي، إلا أن الصراعات الغربية حملت في طياتها فرصًا للاقتصاديات الصاعدة والنامية وما علينا سوى اقتناصها وتعزيز فرص الاستفادة منها. ومن بين تلك الفرص إعلان البنك المركزي الروسي إدراج الجنيه المصري ضمن عملاته الرسمية. وقد يشير ذلك إلى وجود فرص لاستخدام العملات المحلية لكلا الدولتين في المعاملات التجارية البينية بديلًا عن الدولار، بما يحد جزئيًا من زيادة الطلب على الدولار في حدود حجم الواردات المصرية من روسيا، وقد يدفع ذلك دولًا أخرى لانتهاج السياسة ذاتها بما يعزز من عمليات التبادل التجاري. وعلى الرغم من أن ذلك يساعد -نظريًا- على تقوية مركز العملتين في أسواق الصرف في كلا البلدين، إلا أنه سوف يصب في مصلحة الدولة ذات صافي الصادرات الإيجابي. ولما كانت الدولة المصرية في وضع صافي مستورد مع معظم الدول فإنه يجب الانتباه إلى أن إدراج الجنيه المصري ضمن العملات الرسمية بالبنوك المركزية الأخرى يجب أن يصاحبه تعزيز الصادرات المصرية لتلك الدول حتى تتحقق الاستفادة الكاملة من تلك الفرصة. وبصورة أشمل فإن الأثر النهائي يتوقف على صافي تدفقات النقد الأجنبي بين الدولتين، بما يعني أن الإيرادات السياحية الواردة من السياحة الروسية في مصر قد تعوض جزئيًا تراجع الصادرات المصرية لروسيا مقابل ارتفاع الواردات المصرية من روسيا.
.
رابط المصدر: