منير أديب
مصر صاحبة تجربة رائدة في مواجهة الإرهاب، سواء في موجته الأولى التي بدأت في الثمانينات من القرن الماضي واستمرت نحو عقدين كاملين، أم في بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة والذي ظهر متزامناً مع ثورات الربيع العربي التي ضربت المنطقة العربية عام 2011.
التجربة المصرية ذات خصوصية، فنجاح التجربة مستمد أولاً من شكل المواجهة ومن نتائجها، سواء في الموجه الأولى المشار إليها أم حتى في الموجه الثانية التي ما زلنا نعيش بعض تبعاتها، وإن كانت أجهزة الأمن قد نجحت في كبح جماح التنظيمات النشطه في مصر، وانتقلت بالبلاد من مرحلة الخطر الشديد إلى مرحلة الأمان، فما زالت هذه الأجهزة تسعى الى اجتثاث بقايا هذه التنظيمات بعدما أصبحت بلا تأثير يذكر.
يعود الفضل في هذه التجربة للقيادة السياسية التي كانت تُعلي من فكرة الأمن القومي للبلاد وللمنطقة العربية، فكما كانت التنظيمات الإرهابية تمثل خطراً على المنطقة بأكملها، كانت تضع القيادة السياسية أهمية بذل جهود عدم انتشار الورم السرطاني إلى دول أخرى، وكانت تسعى الى اتخاذ قرار الجراحة في الوقت المناسب، كانت تُساعدها وتعاونها في ذلك، ولها الفضل الأول، أجهزة الأمن والمعلومات.
وهنا يمكن القول، إن نجاح التجربة كان مرتبطاً بالأساس بجمع المعلومات الدقيقة عن هذه التنظيمات وتحركات أعضائها، ومن خلال هذه المعلومات بدأت ترسم أجهزة الأمن والمعلومات سيناريوات المواجهة، والأهم أنها وضعت خطوطاً عريضة للمواجهة المستقبلية، وكانت دائماً تُصيب توقعاتها وهو ما قلل من حجم المفاجآت، وبالتالي نجحت أجهزة الأمن في وقت قياسي في الحد من قدرات هؤلاء المتطرفين ثم القضاء عليهم قضاءً كبيراً.
ربما يطرح البعض تساؤلاً عن استمرار وجود الإرهاب في مصر، وبخاصة في الجزء الشمالي من سيناء، وأن ذلك يتنافى مع ما ذكرناه، ما يمكن قوله في هذه النقطة إن الإرهاب أشبه بالخلايا الخبيثة التي تقتحم الجسد السليم، قد تعود إليه بعد تمام الشفاء، ويعود هذا الى طبيعة هذه التنظيمات وليس الى الجسد المتعافي، وهنا نشير إلى أهمية مشاركة كل مؤسسات الدولة في مواجهة ظاهرة الإرهاب والتطرف، فعلى المجتمع المدني دور ما زلنا نصفه بأنه منقوص، وعلى المؤسسة الثقافية دور ما زلنا نراه غائباً وعلى المؤسسة التعليمية دور ما زلنا نراه غير واضح، أما المؤسسة الدينية في مصر، فلم تقم بدورها كما ينبغي أن يكون، وهذا ليس تقليلاً من دورها، ولكنْ فهماً لأهمية الدور الغائب لها.
التجربة المصرية في مواجهة الإرهاب رائدة لأنها لم تركز على المواجهة الأمنية والعسكرية فقط، وإنما انتقلت بشكل المواجهة إلى رؤية عامه واستراتيجية ما زلنا نطمح الى تنفيذها حتى تظهر نتائجها بالسرعة نفسها، تشترك فيها كل المكوّنات السابقة. صحيح أن هذه المكوّنات بدأت تواجه وتلتحم مع الأفكار المطروحه، ولكن ليس بالطريقة المأمولة، وهو ما وضعنا في مشهد التعليق عليها، ولكن هذا لا يقلل من دورها ولا أثرها ولا أهميتها.
تظهر أهمية التجربة المصرية في مواجهة الإرهاب في أنها لم تركز على مواجهة التنظيمات المتطرفة في الداخل، ولكنها واجهت كل ما له علاقة بالإرهاب والتطرف حتى خارج حدودها، انطلاقاً من أهمية المشاركة في أي جهود، وإيماناً منها بأن هذه التنظيمات لها أبعاد تنظيمية متصلة ببعضها بعضاً، ولذلك لا يمكن الحد من قدرتها أو شل حركتها عن التأثير إلا بمواجهة متصلة وعبر تنسيق أمني واستخباري مع كل دول المواجهة، وألا تقتصر هذه المواجهة على هذه التنظيمات داخل الحدود، ولكن لا بد من أن يكون لها بُعد ومدى يوازي خطر التنظيم ووجوده الفعلي.
تمثل مصر لتنظيمات العنف والتطرف رقماً مهماً في المعادلة، ولذلك تركز نشاطها عليها وترسم من خلالها خرائط للانطلاق الى بقية المنطقة العربية، وهو ما يفرض تبعات على أجهزة الأمن، مصر ليست دولة صغيرة، ومنها خرج تنظيم “الإخوان المسلمين” الحاضن لكل جماعات العنف والتطرف، ومنها كانت المواجهة الحقيقية وما زالت، وبالتالي أصبحت القاهرة مركزاً لمواجهة الإرهاب في المنطقة، بل بدأت كل دول العالم تستعين بمصر وبخبرة أبنائها في المواجهة، سواء على المستوى الأمني أم الاستخباري أم الفكري والبحثي، فخبرة أجهزة الأمن في التحقيق والاستجواب أتاحت لهذه التجربة النجاح حتى باتت من أهم التجارب العربية على الإطلاق في المواجهة.
برغم أهمية التجربة ونجاحها، إلا أنها ما زالت تحتاج إلى تطوير، وهنا نلفت النظر إلى أن تنظيمات العنف والتطرف تتلوّن وتتغيّر، سواء في خططها الاستراتيجية أم في أفكارها، وهو ما يستلزم مراعاة دائمة للخطة العامة في المواجهة حتى تتناسب مع طبيعة الإرهاب المتغير، وحتى تكون هناك نتائج على قدر عال من القبول وتناسب الجهود المبذولة.
التجربة المصرية ما زالت تحتاج إلى قراءة متجددة للإرهاب والاستفادة من كل الخبرات البحثية والفكرية في تفكيك أفكار التنظيم، واستثمار هذه الخبرات، وهذا ما يتّسق مع طبيعة المرحلة التي نجحت أجهزة الأمن فيها، فهذه الأجهزة نجحت عملياً في تفكيك معظم التنظيمات، ولكن ما زالت أفكارها حيّة وما زال مئات الآلاف يلتفون حولها، وهنا تبدو جهود تفكيك هذه الأفكار، هذه الجهود لا يمكن أن تنجح بعيداً عن دعم أجهزة الأمن.
الإطار الوظيفي للمواجهة يحتاج إلى أطر أخرى متجددة، كما أنه يحتاج إلى تجنيد المجتمع بأكمله في خطة المواجهة، فخطر الإرهاب والتطرف يطال الجميع وعلى الجميع أن يواجه هذا الخطر، وهنا تبدو أهمية معركة الوعي التي لا بد من أن تُشارك فيها كل أجهزة الدولة بلا استثناء، وأي خلل قد يعيق المواجهة أو يؤخرها، وهذا ما نلحظه جيداً، أدوار منقوصة ومؤسسات غائبة عن المواجهة، فلدى البعض فهم مغلوط أن مواجهة الإرهاب والتطرف مهمة الجهاز الأمني فقط.
في أي معركة يتحول الشعب جنوداً ومقاتلين، ومعركة الإرهاب لا تقل عن أي معارك يخوضها المجتمع ضد أعدائه، وهنا تبدو أهمية المجتمع واقتناعه بدوره في هذه المواجهة ورسم حدودها بحيث تتلاقى مع الجهود المبذولة من أجهزة الأمن، ومهم أن يكون هنا تنسيق بين كل الكيانات الفاعلة في المواجهة، فكل منها يكمل بعضه بعضاً، وهذه أهمية المجتمع المدني في التوعية، فهو القادر على الالتحام مع النّاس وهذه صنعته التي يُجيدها.
أجهزة الأمن المصرية قطعت أشواطاً مهمة في مواجهة تنظيمات العنف والتطرف، وهذه الجهود تحتاج مواصلة وتعاوناً وتنسيقاً مع بقية المؤسسات داخل المجتمع الواحد حتى تظهر نتائجها، وهنا نقصد بضرورة مواجهة المرض وعدم الاكتفاء بتقديم استشارات بمواجهة العرض فقط، وهنا تبدو أهمية مراكز الرأي والفكر والبحث، قرار وجود هذه المؤسسات مهم وتشكيلها قد يكون الأهم، كما أن طبيعة العاملين فيها قد تؤثر في شكل الإنتاج وأهميته، وهذا ما نحتاج إليه.
مصر كانت وما زالت صاحبة تجربة رائده في مواجهة الإرهاب والتطرف، وصاحبة فضل على كثير من دول المنطقة في استنساخ هذه التجربة، فلم تبخل يوماً بمعلومة أو استشارة أو تبادل للخبرات الفكرية أو البحثية أو على أي مستوى، ولذلك الأيادي المصرية البيضاء تركت بصمة لا يمكن تجاهلها في مواجهة الإرهاب والتطرف ولا يمكن إغفالها، ولكن من المهم تناولها بالمراجعة والنقد حتى تبقى حيّه ومؤثره، فهي تجربة تستحق الإعجاب كما أنها تستحق أن تظل الأولى بين كل التجارب العربية.
رابط المصدر: