بمشاهد حبست أنفاس العالَم لسجونٍ تحت الأرض، لغرف إعدام وآلات تعذيب، اختتم بشار الأسد عهده في سوريا، ويعيش بعدَها حياته لاجئا في روسيا بعد أن عاش ملايين السوريين لاجئين في جنبات الأرض، ولا يكاد يوجد إنسان له حساب على وسائل التواصل الاجتماعي إلا رصد الفرح الهادر الذي اجتاح السوريين وكل إنسان ذي قلب وهو يشاهد خروج النساء والأطفال من سجون وسراديب غيبتهم عن العالَم في ظروف غير صالحة للحياة.
رحل بشار بعد أن تصدرت الإعلام وحديثَ الناس أخبارُ سقوط المحافظات تباعا، لكن ذلك الرحيل مثل كل ما ارتبط ببشار خلف صعوبات كبرى بعده، صعوبات تتعلق بإنشاء دولة بعد أن ارتبطت الأولى به وبنظامه وسياسته الداخلية والخارجية التي هوت حين اختفى عن المشهد السياسي، ففي الشمال الشرقي من سوريا تنشط مجموعات الأكراد المسلحة، وحلم الانفصال أو على الأقل إنشاء منطقة كردية بميليشياتها الخاصة، إلى جانب فصائل أخرى ارتبطت بتركيا، إذ مولتها وسلحتها، مؤَملة من ذلك دفع الأكراد عن حدودها، وضمان أن لا تطالَب بالانسحاب من الشمال السوري وهو مطلب بشار الذي منع المحادثات مع أنقرة، إلى بقايا وفلول “داعش” التي استهدفها الجيش الأميركي مع تقدم المعارضة.
وفي جنوب سوريا تتحرك إسرائيل خارقة اتفاق وقف إطلاق النار مع سوريا 1974 وتوسع من تدخلها في الحدود السورية بعد الاستيلاء على جبل الشيخ وعدة مناطق أخرى، بل قصفت مناطق حساسة تابعة لما كان من الدولة سابقا مثل: مركز أبحاث علمية، وموقع لتطوير الأسلحة الباليستية، خشية أن تقع في أيدي المعارضة المسلحة وتُستثمر في أي نظام جديد فيها، وسط بيانات عربية تؤكد على وحدة الأراضي السورية، رافضة لأي مشروع تقسيم لها.
تتربع تحديات كبرى على رأس أولويات المرحلة السورية المقبلة التي تواجه الفصائل، وأولها إنشاء جيش وطني سوري موحد، يضمن حل مختلف الميليشيات مهما كان اسمها وخلفيتها العرقية والأيديولوجية
وفي ظل هذا تتربع تحديات كبرى على رأس أولويات المرحلة السورية المقبلة التي تواجه الفصائل، وأولها إنشاء جيش وطني سوري موحد، يضمن حل مختلف الميليشيات مهما كان اسمها وخلفيتها العرقية والأيديولوجية، فدون تجاوز هذه العقبة لا يمكن لأي نظام سياسي أن يستقر، ولضرورة إنشاء جيش وطني ينبغي أن يوجد لدى العناصر عقيدة وطنية تتعالى على النزاعات الطائفية والعرقية، لتفويت الفرصة على أي مشروع انفصالي فيها، وضمان قيام الدولة الوطنية، وهو ما تصعبه مخلفات الحرب السابقة بين العناصر الاجتماعية التي ارتبطت بمشاريع سياسية متنافرة.
كذلك الجانب الاقتصادي ويواجهه سقوط العملة السورية، والتي حلت مكانها العملة التركية في إدلب سابقا، والاعتماد على العملة التركية سيجعل من سوريا سوقا كبرى لتركيا وسط نفوذها السياسي القوي على عدد من الفصائل التي رعتها وسلحتها وزودتها بالمعدات كالمدرعات، بل بلغ الأمر ببعضها إلى وضع العلم التركي على بزته العسكرية أو خوذته قبل سقوط الأسد ودخول دمشق، مما يجعل من بناء اقتصاد وطني ضرورة للانعتاق من التبعية الخارجية والتي تمثل تركيا الوزن الأكبر فيها ضمن المعادلة الجديدة.
ومن ذلك الاعتراف الدولي، وتمثيل السوريين وفق نظام سياسي يقوم على أساس دستور جديد يحفظ حقوق المواطنين، ويكون البوتقة التي تصهر مختلف العناصر الاجتماعية والسياسية لتشكل هوية وطنية، وفي وجه هذه التحديات عقبات كبيرة، من أهمها وجود فصائل مثل “هيئة تحرير الشام” على لوائح الإرهاب بل إن الجولاني قائدها المعروف حاليا بأحمد الشرع نفسه على قائمة الإرهاب الأميركية، وقد وضعت ثمنا لمن يدلي عنه بمعلومات، فبقاء هؤلاء على تلك القوائم يعيق من بناء الدولة، إذ قد يكون ذريعة لتدخل إسرائيل أكثر في سوريا بحجة أن تلك جماعات (إرهابية) وصلت إلى حدودها، ويمكن أن يستثمر في النزاعات الداخلية سيما من جانب الميليشيات الكردية التي تتواصل مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
ولا تُظهر تلك الجماعات زهدها في السلطة، وإلا كان في حلها لنفسها وتواري رموزها عن الأنظار ما يجنب سوريا هذه العقبة، لكن أحمد الشرع سارع إلى تحديثات في خطابه وتخلى عن اسمه السابق، وأرسل رسائل تطمين إلى دول الجوار، وحرص على الظهور في لقاء مصور مع قناة “سي إن إن”، وتسجيله لحضوره في حلب ودمشق، بما يؤكد على رغبته في البقاء متنفذا في عالم السلطة وطموحه إلى اكتساب شرعيتها، وهو ما يبزرُ سؤالا عن برنامجه السياسي؟ أو على الأقل عن أفكاره السياسية؟
لقد أكد- وهو صاحب الكتلة الأكبر من المقاتلين على الأرض- على مجموعة من التطمينات مثل امتناعه عن قتل أحد من السوريين لخلفيته الدينية أو العرقية، ورغبته بعدم وجود انفراد في الحكم لأحد، وتأكيده على أنه لن يتدخل في الدول المجاورة، لكنها كلها تأكيدات سلبية، بمعنى أنه يقول: لن يفعل هذا، والسؤال ما الذي يود فعله؟ وهو ما لا إجابة واضحة عليه في كلامه، ولو فُرض أنه قد حل تنظيمه المسلح هل يستطيع أن يكون له جناح سياسي، له رؤية تميزه عن غيره؟ فـ”الهيئة” هي عناصر مقاتلة شحنت في مرحلة الحرب سابقا بمختلف عناصر “العقيدة القتالية” لكنها تفتقد إلى الرؤية السياسية، مما يجعلها مثل غيرها عُرضة للاستفزاز، والارتجال، والوقوع في أخطاء سياسية فادحة.
في مقابل ذلك يزيد هذا من التأثير التركي عليها، على اعتبار أن تركيا هي الدولة التي تضمن سلوك تلك المجموعات وتضبط إيقاعها السياسي، وفي هذا خطورة على وحدة السوريين فقد تدفع تركيا إلى قتال الميليشيات الكردية لحساباتها القومية فقط مما يهدد بتفجير حرب أهلية في سوريا، وحينها تصبح المراهنة على سوريا ممزقة حتى لا تستقل عن القرار التركي، مع دخول لاعبين آخرين قد يدعمون الأكراد مثل إسرائيل في المقابل، هذه التحديات مفصلية وفي طريقة التعامل معها ما يحدد مستقبل سوريا السياسي.