طرأ على طرق الاستطلاع العسكري الجوي خلال العقود الماضية سلسلة طويلة من عمليات التحديث والتطوير التي من خلالها تم توسيع مبدأ الاستطلاع والمراقبة، ليخرج من زاوية “التصوير والرصد” إلى زوايا أرحب يتم من خلالها تنفيذ عمليات الاستطلاع باستخدام التقنيات الإلكترونية والمستشعرات البصرية والسمعية، وصولًا إلى تحول عمليات الاستطلاع بشكل شبه كامل نحو التقنيات المسيرة عن بعد. المفارقة فيما يتعلق بتقنيات الاستطلاع الجوي أنها ما زالت حتى الآن تتضمن بعض التكتيكات التي تعود أصولها إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، ومنها التكتيك المتعلق باستخدام المناطيد الهوائية كوسيلة لتنفيذ عمليات الاستطلاع والرصد.
هذه المفارقة أعادها إلى الأذهان الظهور المباغت للمنطاد الهوائي الصيني في أجواء الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تسبب في حالة لافتة من الاستنفار و”الحيرة” عاشتها السلطات العسكرية والأمنية في الولايات المتحدة منذ الخميس الماضي وحتى عملية إسقاط المنطاد في الرابع من الشهر الجاري. النقطة اللافتة الأولى فيما يتعلق بهذا المنطاد أنه أعاد إلى الذاكرة الأمريكية هجمات تعرضت لها عبر سلسلة من المناطيد الهوائية القادمة من اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما يستوجب العودة إلى تاريخ استخدام المناطيد الهوائية عسكريًا؛ من أجل تحديد دلالات هذه الحادثة، وانعكاساتها المستقبلية على التسلح الدولي وتقنيات الاستطلاع.
المناطيد العسكرية… البداية صينية عتيقة
من حيث المبدأ، تعد المناطيد الهوائية العاملة بالهواء الساخن من أقدم وسائل الطيران في التاريخ الإنساني، والمفارقة هنا أن الاستخدام “العسكري” الأول لهذه التقنية كان بأيدٍ صينية، وتحديدًا خلال حقبة الممالك الثلاث في الصين بين عامي 220 و280 ميلادية، وذلك على يد القائد العسكري الصيني “تشوغي ليانغ” أحد أهم القادة العسكريين الصينيين خلال حقبة حكم أسرة “هان” الذي أسس بشكل كبير لفكرة استخدام المناطيد الهوائية، خلال فترة محاصرته في مقاطعة “سيشوان” من جانب القوات التابعة لأسرة “هان” بقيادة “سيما يي”.
ابتكر ليانغ -الملقب بـ “كونغمينغ”- مصابيح بدائية تمت تسميتها لاحقًا باسمه، تتكون من قماش خفيف يحيط بشموع مشتعلة، قام ليانغ بإطلاقها في الجو مكتوبًا عليها رسائل موجهة للقوات الحليفة له، بحيث تصل إليها هذه الرسائل بعد أن يجرف التيار الهوائي هذه المناطيد في اتجاه مواقعها، وهو ما حدث بالفعل. نجاح هذه التجربة جعل استخدام هذه المصابيح الطائرة شائعًا في الوحدات العسكرية الصينية، و اقتبستها جيوش أخرى مثل الجيش المنغولي الذي استخدم هذه التقنية للمرة الأولى خلال معركة “لغنيتسا” عام 1241 التي دارت بين القوات المنغولية والقوات الأوروبية المشتركة، خلال غزو المغول لبولندا.
بدأ تطوير هذه الفكرة بشكل مبدئي خلال القرن الثامن عشر، عبر جهود قام بها الكاهن البرتغالي ذو الأصول البرازيلية “بارتولومي دي جوسماو” الذي عرض عام 1709 نموذجًا مصغرًا لمنطاد مصنوع من الورق المقوى، يمكن أن يحلق في الجو عبر الهواء الساخن. هذه الفكرة عمل عليها بشكل عملي أوسع الأخوان الفرنسيان “جوزيف وإتيان مونغولفييه” اللذان ابتكرا في نوفمبر 1782 المنطاد الأول العامل بالهواء الساخن، معتمدين في ذلك على الفحم لتسخين الهواء المتواجد داخل المنطاد، ما يؤدي إلى تحليقه وطيرانه اعتمادًا على سرعة واتجاه الرياح.
تمكن الأخوان مونغولفييه في سبتمبر 1783 من تنفيذ أول تجربة عملية ناجحة في هذا الإطار في منطقة “آنوناي” جنوب شرق فرنسا، حلق خلالها المنطاد -الذي لم يكن مأهولًا في هذه التجربة- لمسافة تقارب 2 كيلو متر، على ارتفاع نحو 1500 متر. نجاح هذه التجربة، شجع الأخوين مونغولفييه على تنفيذ تجارب أخرى، تمت إحداها في شهر أكتوبر من نفس العام، وهي التجربة المأهولة الأولى لتحليق المناطيد الهوائية.
حمل نفس هذا العام -1783- اختراقًا آخر في مجال المناطيد الهوائية، حين طبق عدد من العلماء الفرنسيين -على رأسهم جاك ألكسندر سيزر شارلز وروبرت آن جان، وروبرت لويس نيكولا- اكتشافًا توصل إليه العالم الفيزيائي البريطاني “هنري كافنديش” عام 1766، عندما اكتشف غاز “الهيدروجين”، فقام العلماء الفرنسيون باستخدام هذا الغاز في المناطيد الهوائية، ونفذوا في شهر ديسمبر 1783 تجربة التحليق الأولى لمنطاد مملوء بغاز الهيدروجين، واستغرقت رحلة التحليق هذه ما يقرب من ساعتين، قطع خلالها المنطاد مسافة تبلغ 36 كيلو مترًا، وهي تجربة رسمت ملامح استخدام المناطيد على المستوى العسكري خلال المراحل اللاحقة، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى.
في وقت لاحق من القرن الثامن عشر وتحديدًا عام 1794، بدأ جيش الجمهورية الفرنسية الأولى في استخدام المناطيد الهوائية ميدانيًا، ليصبح بذلك أول جيش يدمج هذه التقنية في وحداته العسكرية، حيث استخدم مناطيد هوائية أطلق عليها اسم “لو إنتريبرينانت” لاستطلاع حركة القوات الحليفة، والتي تألفت من وحدات بريطانية وهولندية ونمساوية. أسهم استخدام المناطيد من جانب القوات الفرنسية في حسم نتيجة المعركة لصالحها، لدرجة جعلت الاعتماد على هذه التقنية شبه دائم خلال الفترة بين عامي 1794 و1799، خاصة خلال حصار القوات الفرنسية لمدينة “ماينز” عام 1796.
النقلة التاريخية الأولى في الاستخدام العسكري للمناطيد
خلال القرن التاسع عشر، توسعت الاستخدامات العسكرية للمناطيد الهوائية، حيث تم استخدامها على نطاق واسع من جانب عدة جيوش أوروبية لمهام الاستطلاع الجوي ونقل البريد والمعدات، وجرت عدة محاولات لتطوير هذه الاستخدامات، منها محاولة نابليون بونابرت عام 1804 استخدامها كوسيلة لنقل القوات جوًا لغزو إنجلترا، لكن لم يتم تنفيذ هذه الفكرة بشكل عملي.
وشهد عام 1849، أول محاولة لاستخدام المناطيد الهوائية بشكل هجومي، وذلك خلال حصار القوات النمساوية لمدينة البندقية التي تحصنت بداخلها القوات الانفصالية الإيطالية التي كانت تنشط في الأقاليم الشمالية في إيطاليا ضد الوجود العسكري النمساوي. جاءت هذه الفكرة إلى أذهان ضباط وحدات المدفعية النمساوية بعد أن رفض أهالي البندقية الاستسلام رغم الظروف المعيشية الصعبة التي عاشوها خلال الحصار، لذا تم التفكير في تسيير مناطيد من الورق المقوى محملة بالمتفجرات نحو منازل ومرافق المدينة، حيث تم تزويدها بالفحم والقطن والشحوم سريعة الاشتعال من أجل تسخين الهواء بداخلها وتحريكها، بحيث تتجه صوب منازل المدينة، ومن ثم تنفجر الشحنات المتفجرة الموجودة على متنها، والتي قدرت زنة الواحدة منها بنحو 15 كيلو جرامًا.
تم تنفيذ هذه التجربة للمرة الأولى في يوليو 1849، لكن لم يكتب لها النجاح، وأُعيدت مرة أخرى في الشهر التالي عبر إطلاق مئتي منطاد نحو المدينة، وفي هذه التجربة تمكن عدد قليل من هذه المناطيد من الانفجار في الجو فوق المنازل، ما خلق حالة من الذعر داخل المدينة.
هذه المحاولة لم تتبع أهميتها فقط من أنها تعد المرة الأولى التي يتم فيها استخدام المناطيد بشكل هجومي، بل أيضًا لأنها كانت عمليًا أول عملية قصف جوي في التاريخ العسكري، وتضمنت كذلك الاستخدام الأول للقوة البحرية في التطبيقات الجوية العسكرية؛ فقد تم إطلاق المناطيد نحو مدينة البندقية من منصات أرضية، بجانب استخدام الباخرة “فولكانو” التابعة للبحرية النمساوية كمنصة لإطلاق عدد من هذه المناطيد. تلت هذه التجربة محاولات أخرى لاستخدام المناطيد بنفس الطريقة من جانب كل من فرنسا والنمسا خلال حرب الاستقلال الإيطالية الثانية عام 1859، لكن لم يكتب لها النجاح.
يمكن اعتبار الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865) بمثابة محطة مفصلية في تاريخ الاستخدام العسكري للمناطيد الهوائية؛ إذ حرص الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن على تشكيل “فيلق جوي” من المناطيد الهوائية لدعم العمليات العسكرية للجيش الاتحادي، وحينها أسند عملية تنظيم هذا الفيلق إلى الدكتور “ثاديوس لوي” الذي عمل على تصميم نموذج أولي لمنطاد يعمل بالغازات المتولدة من احتراق الفحم، وطبّق هذا النموذج بشكل فعلي في أكتوبر 1861، حلق فيها لمسافة 19 كيلو متر.
أدرك الدكتور “لوي” خلال هذه التجربة أن الاعتماد على الفحم له مساوئ عديدة، فعمل على تصنيع مولدات تسمح بإنتاج غاز الهيدروجين، عن طريق المعالجة الكيميائية لخليط من حمض الكبريتيك وبرادة الحديد. تم بالفعل تصنيع هذه المولدات، وأنتج “لوي” سبعة مناطيد استخدمتها القوات الاتحادية بين عامي 1861 و1863 في عمليات الاستطلاع ورسم الخرائط الميدانية. وجُربت هذه المناطيد أيضًا في تنفيذ مهام عسكرية أخرى لم يسبق أن نفذتها المناطيد الهوائية، منها إطلاق النار بشكل مباشر على القوات المعادية، وهي مهمة تمت للمرة الأولى في يوليو 1861، بالإضافة إلى تصحيح رمايات المدفعية، وكذا نقل المعلومات العسكرية من الطاقم الموجود في المنطاد إلى القيادة على الأرض عبر التلغراف، بواسطة أسلاك يتم مدها على حبال تثبيت المنطاد بالأرض.
تجربة المناطيد في الحرب الأهلية الأمريكية اشتملت أيضًا على استخدام مهم للقطع البحرية في عمليات نقل وإطلاق المناطيد؛ فقد حولت القوات الاتحادية في نوفمبر 1861 قاطرة نقل الفحم “George Washington Parke Custis” إلى منصة لإطلاق المناطيد، احتوت أيضًا على مولدات غاز الهيدروجين اللازمة لملء هذه المناطيد. وعلى الرغم من أن فيلق المناطيد التابع للقوات الاتحادية قد تم حله عام 1863، فإن القوات الكونفيدرالية المقابلة قد استخدمت بدورها المناطيد في عمليات الاستطلاع، واستخدمت أيضًا القطع البحرية في إطلاق هذه المناطيد، وإن كانت جهود القوات الكونفيدرالية في هذا الصدد كانت أقل كمًا ونوعًا.
كان لهذه التجربة أثر مهم في زيادة الاعتماد العسكري على المناطيد الهوائية، خاصة بعد اختراع المنظومة المحمولة لتوليد الهيدروجين. وجدير بالذكر هنا أن المناطيد الهوائية كان لها استخدامات لافتة أخرى خلال نزاعات عسكرية جرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثل الحرب الفرنسية البروسية التي دارت بين عامي 1870 و1871، فقد تمكنت القوات الفرنسية المحاصرة داخل باريس من إدامة التواصل وتبادل البريد مع المدن الفرنسية الأخرى عبر المناطيد التي نقلت العتاد والأشخاص من وإلى باريس خلال فترة الحصار.
وقد أدمجت عدة جيوش أوروبية المناطيد الهوائية ضمن منظوماتها القتالية خلال المراحل التالية التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، مثل بريطانيا التي استخدمت منذ عام 1885 المناطيد الهوائية في حملاتها العسكرية المختلفة في أفريقيا أواخر القرن التاسع عشر، وأيضًا في حرب البوير الثانية التي دارت رحاها بين عامي 1899 و1902.
قامت بعض هذه الدول بتأسيس فيالق جوية متكاملة تخدم فيها المناطيد الهوائية، منها فرنسا التي أسست فيلقًا للمناطيد الجوية عام 1877، وألمانيا التي أسست فيلقًا مماثلًا عام 1884، وكذلك النمسا والإمبراطورية الروسية. لكن طرأ أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1899، تطور مهم فيما يتعلق بالاستخدامات العسكرية القتالية للمناطيد الهوائية، حين تم توقيع اتفاقية “لاهاي” التي كان من ضمن بنودها منع إطلاق المقذوفات والمتفجرات من المناطيد الهوائية.
الحرب العالمية الأولى… ذروة استخدام المناطيد عسكريًا
استمر استخدام المناطيد الهوائية على المستوى العسكري خلال النصف الأول من القرن العشرين، حيث استخدمت القوات اليابانية هذه التقنية خلال الحرب ضد الجيش الروسي بين عامي 1904 و1905، وكذلك فعل الجيش الإيطالي خلال غزوه للأراضي الليبية عام 1911. نقطة التحول التالية في الاستخدام العسكري للمناطيد كان خلال الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 و1918، حيث استخدمت كافة الأطراف المتحاربة المناطيد الهوائية في تنفيذ عمليات الاستطلاع والمراقبة، بجانب التوسع أكثر في الاعتماد على هذه التقنية لمراقبة نتائج ضربات المدفعية، وتصحيح نيرانها اعتمادًا على تواجد مراقبي المدفعية في مناطيد الاستطلاع.
لكن اتسمت تجربة المناطيد خلال هذه الحرب بعدة سمات، منها أن العناصر المنوط بها التمركز على مناطيد الاستطلاع تم تزويدها بمظلات بحيث تقوم بالقفز من على متنها بعد إيصالها للارتفاع المطلوب، كما أنه -ونظرًا لتزايد أهمية المناطيد في عمليات الاستطلاع في هذه الحرب- تم تخصيص فرق للدفاع الجوي مزودة بمدافع رشاشة لحماية المناطيد من محاولات الإسقاط.
خلال هذه الحرب، استخدمت كافة الأطراف -خاصة فرنسا وألمانيا- ثلاثة أنواع رئيسة من المناطيد: الأول نوع استطلاعي يتم ربطه بالأرض بشكل دائم على ارتفاعات تصل إلى 3 كيلو متر ويتمركز بداخله أفراد المراقبة، والثاني هو بالونات يتم تحريرها في الجو نحو مواقع العدو لإلقاء المنشورات الدعائية المختلفة ضمن الحرب النفسية، أما النوع الثالث فكان عبارة عن مناطيد ضخمة تعمل على ارتفاعات أكبر تصل إلى خمسة كيلو مترات، وتعمل بمساعدة محركات، وتستطيع حمل حمولات أكبر بما في ذلك أطقم المراقبة والاستطلاع وبعض المدافع الرشاشة، بجانب إمكانية حمل وإلقاء قنابل جوية من على متنها، ولعل أبرز الأمثلة على هذا النوع كان المنطاد الألماني “زيبلن”.
شمل استخدام الجيوش المشاركة في هذه الحرب للمناطيد أيضًا مهام الدوريات الساحلية المضادة للغواصات، والتي من خلالها يتم رصد أماكن وجود القطع البحرية والغواصات المعادية. يضاف إلى هذا قيام بعض الجيوش -خاصة الجيش البريطاني- المناطيد الصغيرة في نشر بعض الكابلات والعوائق الفولاذية؛ لمنع تحليق الطائرات المعادية في أجواء الأهداف الحيوية المهمة، وقد تم تزويد هذه المناطيد في بعض الأحيان بعبوات ناسفة صغيرة، بحيث تنفجر في حالة اصطدام الطائرات المعادية بها، علمًا بأنه تم تطويق العاصمة البريطانية بمثل هذه العوائق خلال فترة الحرب بمناطيد حاملة للعوائق الحديدية، بإجمالي طول بلغ نحو 80 كيلو مترًا.
وكان من أبرز ملامح استخدام المناطيد في هذه الحرب أيضًا تدشين تحول هذه المناطيد إلى أهداف جوية تتبادل الجيوش المتقاتلة استهدافها، وفي هذا الصدد يبرز اسم يرتبط بشكل وثيق بمهمة إسقاط المنطاد الصيني مؤخرًا، وهو الطيار الأمريكي فرانك لوك الذي خدم خلال فترة الحرب ضمن السرب الجوي السابع والعشرين، وتمكن خلال الفترة بين الثاني عشر والتاسع والعشرين من سبتمبر 1918 من تدمير أربعة عشر منطادًا ألمانيا، ليصبح ضمن أصحاب أكبر عدد من حالات إسقاط المناطيد العسكرية على الإطلاق -خلف البلجيكي “ويلي كوبينز” الذي أسقط بمفرده 35 منطادًا- لذا كان من المنطقي ان يتم ترميز المقاتلة التي قامت بإسقاط المنطاد الصيني منذ أيام، بالرمز “فرانك” تيمنًا به.
رغم تطور الطيران الحربي … دور مهم للمناطيد في الحرب العالمية الثانية
كان لليابان خلال الحرب العالمية الثانية تجربة مهمة فيما يتعلق بالمناطيد العسكرية، لها ارتباطات وثيقة بما حدث مؤخرًا في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث خططت طوكيو لشن هجمات متتالية على الأراضي الأمريكية خلال الحرب باستخدام أسراب من مناطيد “فون-جو” المزودة بشحنات متفجرة. فبالإضافة إلى استخدام القوات اليابانية للمناطيد الصغيرة والعوائق التي تحملها لتهديد العمليات الجوية للحلفاء في الأجواء اليابانية، بدأت قيادة البحرية الإمبراطورية اليابانية في التجهيز لهذه الخطة أواخر عام 1942 بالتزامن مع مشروع مماثل شرعت فيه قيادة الجيش الياباني.
كان التحدي الأساسي أمام العلماء اليابانيين يتمثل في كيفية تحمل المناطيد للضغط الجوي الكبير خلال رحلة التحليق، لأن الخطة اليابانية كانت تقتضي تحليق المناطيد على ارتفاعات كبيرة في طبقة “الستراتوسفير”، تتراوح بين 9 و12 كيلو مترًا؛ كي تستفيد من التيار الهوائي السائد على هذا الارتفاع، والذي يصل مساره إلى الأراضي الأمريكية.
بعد سلسلة طويلة من التجارب، توحد البرنامجان اليابانيان في برنامج واحد، وتمكن البرنامج الجديد من التوصل إلى تصميم منطاد يعمل بالهيدروجين، مزود بحمولة قتالية تتكون من قنبلتين حارقتين تبلغ زنتهما 5 كيلو جرامات، بجانب قنبلة إضافية مضادة للأفراد يبلغ وزنها 15 كيلو جرامًا، أو يتم استبدال قنبلة واحدة تبلغ زنتها 12 كيلو جرام بكل ذلك.
كان الغرض الأساسي من إنتاج هذه المناطيد إطلاقها من على متن الغواصات اليابانية قرب الساحل الأمريكي؛ بهدف إشعال حرائق ضخمة في الغابات الأمريكية، لكن لتعقيدات لوجيستية تم تعديل هذه الخطة ليتم إطلاق هذه المناطيد من ثلاث نقاط إطلاق على الساحل الشرقي الياباني نحو الأراضي الأمريكية قاطعة مسافة تبلغ 8 آلاف كيلو متر، لتصبح هذه الخطة بذلك عملية القصف الاستراتيجي عابر القارات الأولى في التاريخ العسكري.
بالفعل تم بين نوفمبر 1944 وأبريل 1945، إطلاق تسعة آلاف منطاد ياباني نحو الأراضي الأمريكية، وصل إليها منهم نحو 1000، وانفجر من هذا العدد نحو ثلاثمائة منطاد، لكن لم تسفر هذه الخطة عن خسائر أمريكية تذكر، إلا وفاة ستة أمريكيين بعد أن حاولوا فتح العبوات المتفجرة الموجودة ضمن أحد المناطيد اليابانية التي هبطت في إحدى غابات ولاية “أوريجون” الأمريكية.
كانت التجارب البريطانية والأمريكية فيما يتعلق بالمناطيد خلال الحرب العالمية الثانية أقل من حيث الزخم من التجربة اليابانية، لكنها في نفس الوقت كانت مستوحاة مما توصلت إليه الأبحاث اليابانية في هذا الصدد. لندن من جانبها كانت قد أسست عام 1938، قيادة خاصة بالمناطيد في رئاسة أركان الجيش؛ بهدف نشر المناطيد والعوائق المضادة للطائرات، وتهديد عمل القاذفات المعادية وإجبارها على التحليق على ارتفاعات كبيرة، ما يسهل عملية إسقاطها، وهي خطة اقتضت نشر نحو 1400 منطاد بشكل دائم في محيط العاصمة البريطانية.
كذلك أطلقت بريطانيا خلال هذه الحرب عملية “أوتوارد” التي كانت تستهدف مهاجمة الأراضي الألمانية أو التي تحتلها ألمانيا في أوروبا بمناطيد تعمل بالهيدروجين؛ بهدف التسبب بأضرار في خطوط الضغط العالي الخاصة بشبكات الكهرباء، أو إحداث حرائق كبيرة في الحقول الزراعية والغابات.
أطلقت لندن خلال كامل فترة الحرب نحو مئة ألف منطاد، نتج عنها أضرار كبيرة على المستوى الاقتصادي، لكنها في نفس الوقت كانت لها أضرار جانبية تتمثل في اتجاه بعضها بفعل تحول التيارات نحو دول حليفة لبريطانيا مثل السويد والدنمارك، ما تسبب في أضرار خسائر لها.
كذلك استخدمت القوات البريطانية خلال المراحل الأخيرة من القتال المناطيد الصغيرة في تحديد مواضع الحد الأمامي للقوات الصديقة والمعادية، وكذلك الإشارة إلى المواقع المراد قصفها اثناء الهجمات الجوية. كذلك استخدم كل من الجيش السوفيتي والجيش الأمريكي مناطيد الاستطلاع الجوي، خاصة خلال عملية الإنزال في النورماندي، كذلك استخدم الجيش السوفيتي هذه المناطيد لرصد المدفعية المعادية، واستخدم كلا الجيشين كذلك المناطيد الخاصة بإعاقة القاذفات المعادية، لحماية مواضع تجمع قواتهما.
المناطيد العسكرية خلال مرحلة الحرب الباردة والعصر الحالي
رغم تراجع الاهتمام الدولي بالمناطيد العسكرية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة للتطور الهائل الذي طرأ على التقنيات الجوية والصاروخية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية عادت للاهتمام بهذه التقنية بفعل حاجتها إلى تنفيذ عمليات مستمرة الاستطلاع العميق لأراضي الاتحاد السوفيتي والصين خلال الحرب الباردة. أهمية المناطيد الاستطلاعية تزايدت بشكل أكبر بعد حادثة إسقاط الدفاعات الجوية السوفيتية لطائرة الاستطلاع والتجسس الأمريكية “U-2” عام 1960.
بداية إحياء واشنطن لبرامج إنتاج المناطيد العسكرية، كان خلال النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، عبر برنامج “Mogul” الذي استهدف التجسس الصوتي على أجواء الاتحاد السوفيتي من خلال منطاد يحلق على ارتفاعات كبيرة، ويقوم برصد أية موجات صوتية ناتجة عن التجارب النووية السوفيتية، من خلال مستشعرات صوتية مزود بها، بالإضافة إلى كشفه عن التجارب الصاروخية الباليستية السوفيتية، من خلال الموجات الصوتية التي تنتج عن تحليق الصواريخ في الغلاف الجوي.
عقب هذا البرنامج، أطلقت واشنطن عدة برامج لإنتاج المناطيد العسكرية المخصصة للتجسس، اعتمادًا على برنامج البحرية الأمريكية الخاصة بإنتاج مناطيد رصد الأحوال الجوية “Skyhook”، حيث كان هذا البرنامج بمثابة نقطة انطلاق عدة برامج لإنتاج المناطيد العسكرية مثل برنامج “Gopher” و”Genetrix” و”Melting Pot” و”Grandson”، بجانب برنامج “E-77” الذي اعتمد على تصاميم مناطيد “فو-جو” اليابانية السالف ذكرها، وتم تخصيصه لنشر العوامل البيولوجية، لكن لم يتم استخدام هذا المنطاد بشكل عملي نتيجة عدم دقة النتائج التي أسفرت عنها اختبارات تحليقه واستخدامه.
بحلول منتصف خمسينيات القرن الماضي، كانت المناطيد الأمريكية المحلقة على ارتفاعات تصل إلى 30 كيلو مترًا قد قامت بتصوير معظم الأراضي السوفيتية، خاصة بعد أن تم تحسين قدرات البقاء والتصوير الخاصة بها، حيث كانت تستطيع التحليق بشكل متواصل لمدة عشرة أيام، وزودت بكاميرات ذات زاوية تصوير واسعة يمكنها تصوير منطقة بعرض 80 كم تقريبًا، وكذلك تم تحسين عملية استرجاع هذه المناطيد سواء عبر إسقاط الكاميرات عبر المظلات في أماكن محددة أو إسقاط المناطيد بشكل محسوب زمنيًا فوق أراضٍ حليفة.
استمرت عمليات إطلاق المناطيد الأمريكية نحو الأراضي السوفيتية من قواعد في تركيا واليابان حتى فبراير 1956، حين أمر الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور بإيقاف هذه العمليات، بعد احتجاج موسكو رسميًا على اختراق هذه المناطيد مجالها الجوي، لكن ظلت عمليات الاستطلاع بالمناطيد مستمرة بشكل متقطع خلال السنوات التالية وصولًا إلى عام 1977، علمًا بأن الكاميرات الخاصة بهذه المناطيد سقطت سليمة في أيدى السوفييت عام 1956 وكانت -للمفارقة- مساهمًا أساسيًا في تطوير أول قمر صناعي سوفيتي. وكانت الصين بدورها قد أسقطت إحدى المناطيد الامريكية عام 1957.
في العصر الحالي، اقتصر بشكل كامل استخدام المناطيد العسكرية على الجانب الاستطلاعي، سواء عبر الكاميرات الحرارية والمستشعرات، أو عبر الرادارات التي يتم تحميلها على هذه المناطيد. وتستخدم هذه المناطيد حاليًا دول عدة من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، التي استخدمتها في العراق وأفغانستان، وتنتجها شركة “ايروستات” الأمريكية، وكذلك الجيش الإسرائيلي الذي يستخدم مناطيد الاستطلاع “TAOS” و”بومباردير”.
منطاد بكين وفتح أبواب جديدة أمام التقنيات المسيرة
بالعودة إلى ملف المنطاد الصيني الذي جاب الأجواء الأمريكية على مدار عدة أيام، لابد من وضع عدة نقاط فيما يتعلق به، منها حقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها رصد مناطيد صينية في أجواء دول أخرى؛ ففي يونيو 2020، تم رصد منطاد مشابه في الأجواء اليابانية، وكذلك منطاد آخر تم رصده في يناير 2022 قرب قاعدة بحرية هندية في جزر “أندمان ونيكوبار” شرق خليج البنغال.
لذا يجب النظر إلى هذه الظاهرة على أنها جزء من خطة ما تستلهم من دروس استخدام المناطيد العسكرية ما يمكن من خلاله البناء على تجهيز تقنيات جديدة تنقل التقنيات المسيرة إلى مستوى جديد تمامًا، خاصة في ظل الارتفاعات الكبيرة التي تحلق فيها المناطيد في وقتنا الحالي، والتي تتراوح بين 40 و50 كيلو مترًا، بجانب انخفاض تكاليف إنتاجها وتشغيلها مقارنة بأية وسائط جوية أخرى.
النقطة الثانية في هذا الإطار تتعلق بأن وزارة الدفاع الأمريكية تعمل منذ عام 2019 على برنامج لاستخدام المناطيد المحلقة على ارتفاعات تصل إلى 50 كيلو مترًا، تحت اسم “COLD STAR”، لتكون ضمن شبكات المراقبة المخصصة لتتبع مسارات تهريب المخدرات. وقد تم حتى الآن إطلاق نحو 25 منطادًا في تجارب خاصة بهذا البرنامج. وتشير مؤشرات عديدة إلى أن واشنطن قد شرعت منذ عامين في تحويل جزء من هذا البرنامج ليصبح مخصصًا لمراقبة اختبارات الصواريخ الفرط صوتية التي تنفذها دول مثل روسيا والصين، وهذا ربما يفسر إنفاق البنتاجون نحو 3.8 ملايين دولار على المشاريع الخاصة بالمناطيد خلال العامين الماضيين، وتخطيطه لإنفاق حوالي 27.1 مليون دولار في العام المالي الحالي على هذه البحوث. جدير بالذكر هنا، أنه في نفس توقيت تحليق المنطاد الصيني، كان يحلق منطاد أمريكي من نوع “Raven Aerostar”، تابع لوزارة الدفاع الأمريكية، ومخصص لرصد حرائق الغابات.
إذًا، خلاصة القول إن احتمالات -عدم مدنية- المنطاد الصيني هي الأقوى فيما يتعلق بالمعطيات السابقة. وقد حققت بكين من هذه الحادثة عدة أهداف، من بينها الاختبار العملي لقدرة وتوقيتات استجابة الدفاعات الجوية والرادارات الأمريكية لعمليات الاختراق الخارجية، ناهيك عن جمع معلومات استخباراتية مهمة وتجربة استخلاص هذه المعلومات بشكل عملي وآني خلال التحليق، وكذا التسبب في إحراج كبير للقيادتين السياسية والعسكرية الأمريكية جراء ما بدا أنه عجز أمريكي أمام هذا المنطاد، وهو عجز حاولت واشنطن تداركه عبر استخدام مقاتلات إف-22 لتدمير المنطاد؛ كي يسجل التاريخ أن الإسقاط الجوي الأول لهذا النوع من المقاتلات كان لجسم جوي صيني.
وبغض النظر عن الأهداف الصينية من هذه الخطوة، يمكن القول إن هذه الحادثة قد فتحت أبوابًا واسعة جديدة -نسبيًا- لاستخدام القدرات المسيرة، وتشمل هذه الأبواب استخدام المناطيد العسكرية لنشر العوامل البيولوجية أو النووية أو حتى الذخائر التقليدية، وكذا نقل مهام الاستطلاع العميق إلى مستويات أكثر تحديًا للدفاعات الجوية، وأقل تكلفة بالنسبة للجهة المنفذة لمهام الاستطلاع. وهنا يجب أن نضع في الحسبان التكاليف الكبيرة على المستوى المادي التي تكبدتها واشنطن لإسقاط هذا المنطاد.
الأكيد أن ظلال المناطيد اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية بدت لوهلة أمام ناظري المخطط العسكري الأمريكي، بشكل ربما يمكن اعتباره نجاحًا للاستراتيجية الصينية التي تعتمد على استخدام العوامل النفسية كركن اساسي من أركان تكتيكاتها العسكرية.
.
رابط المصدر: