التحوط والمرونة والردع: استراتيجية الصين النووية في سياق التنافس مع الولايات المتحدة

  • الفجوة المفاهيمية حول المنظور التهديدي النووي بين الولايات المتحدة والصين تبدو واسعةً، خصوصاً فيما يتعلق بتفسير واشنطن لمحددات سلوك بيجين النووي وأهدافها النهائية.
  • شهدت القدرات الاستراتيجية الصينية قفزة من حيث الحجم والسرعة والتطور منذ عام 2020، وهو ما طرح تساؤلات حول نوايا الصين الحقيقية وراء هذا التطور.
  • تنظر الصين إلى القوة النووية والامتناع عن المشاركة في محادثات الحد من الأسلحة النووية وفقاً لشروط واشنطن، باعتبارهما الأداة الأهم التي تُمكِّن بيجين من فرض شروطها على الولايات المتحدة، وضمان استقرار علاقاتهما الثنائية.
  • يعتقد القادة الصينيين أن التسريع في زيادة حجم القوة النووية، وليس تقليصها أو فرض ضوابط أحادية أو ثنائية أو تعددية عليها كما تريد واشنطن، هو عامل استقرار في النظام الدولي، وليس العكس. 
  • يشير غياب اليقين حول فاعلية المحادثات النووية بين الصين والولايات المتحدة لتحقيق الأمن لهما إلى حتمية مسار واحد قائم على المزيد من التموضع النووي والتموضع النووي المُقابِل مستقبلاً. 

 

كشفت تسريبات أمريكية، في أغسطس الماضي، موافقة الرئيس بايدن في مارس الماضي على خطة استراتيجية تركز على التوسع السريع للصين في ترسانتها النووية، هي “المبادئ التوجيهية للأسلحة النووية”. ولم تعلن الإدارة عن تفاصيل “المبادئ التوجيهية”، التي تُحدَّث كل أربعة أعوام، في انتظار تقديم إحاطة للكونغرس حول تفاصيلها قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل.

 

تتناول الورقة دلالات هذه الخطوة وأبعادها، ورؤية الصين لها وردها عليها، وتداعياتها المحتملة على التعاون النووي بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وعلى التنافس النووي والصراع بين الصين والولايات المتحدة.

 

الاستراتيجية النووية الأمريكية

قبل كل شيء، ينبغي إيضاح أن “المبادئ التوجيهية للأسلحة النووية” الأمريكية هي مكمل لـ”مراجعة التموضع النووي” الصادرة عام 2022، وهذه المراجعة بمثابة الاستراتيجية النووية لكل إدارة أمريكية. وقالت وثيقة المراجعة “كجزء من تنفيذ المراجعة النووية، ستُحدِّث الولايات المتحدة توجيهات استخدام الأسلحة النووية وفقاً للسياسة والاستراتيجية التي وضعها الرئيس بعد نشر هذا التقرير”. وقد حددت المراجعة، قبل صدور “المبادئ التوجيهية”، النمو السريع في الترسانة النووية الصينية، وخطر التقارب النووي مع روسيا وكوريا الشمالية، بوصفهما محددين أساسيين للتهديد في الاستراتيجية الأمريكية.

 

وحمل تسريب الإدارة الأمريكية لإصدار الرئيس جو بايدن “المبادئ التوجيهية للأسلحة النووية” دلالات عن التطور في التفكير الاستراتيجي الأمريكي في سياق تصاعد حدة التنافس بين القوى العظمى. وتوضح المحددات المبدئية للمبادئ (التي لم تعلن تفاصيلها بعد) تغييرين أساسيين في المنظور الأمريكي للتهديدات مقارنة بالإدارات السابقة (التي ما منحت الصين الأولوية بوصفها تهديداً نووياً): أولهما، صعود الترسانة النووية الصينية إلى مستوى الخطر الأكبر على أمن الولايات المتحدة. والثاني، مركزية التهديد الذي تشكله إمكانية شن هجوم نووي متزامن من الصين وروسيا وكوريا الشمالية. وقال المدير الأول لمجلس الأمن القومي لشؤون ضبط الأسلحة ومنع الانتشار، براناي فادي، أن المبادئ التوجيهية تؤكد “ضرورة ردع روسيا والصين وكوريا الشمالية في وقت واحد”.

 

وتؤكد المراجعة الأصلية بقاء مفهوم “الردع الاستراتيجي” أولوية قصوى بالنسبة لواشنطن، عبر القول، في الجزء الأول من الفصل الأول، إن “مراجعة التموضع النووي هذه تؤكد على الالتزام المستمر بالردع النووي الآمن والفعال والردع القوي والموثوق به. يظل الردع الاستراتيجي مهمة ذات أولوية قصوى لوزارة الدفاع والأمة”. وتحدد المراجعة أيضاً المقاصد الأساسية من القوة النووية الأمريكية في ثلاثة مفاهيم: 1) أن الأسلحة النووية الأميركية مصممة لردع العدوان على الأراضي الأمريكية، و2) الدفاع عن الحلفاء والأصدقاء، و3) تمكن الرئيس من تحقيق أهدافه في حالة فشل الردع من طريق استخدام الأسلحة النووية بهدف إنهاء النزاعات “بأقل مستوى من الضرر الممكن وبأفضل الشروط الممكنة”. وتمثل “المبادئ التوجيهية” الجديدة الإرشادات العملية لكيفية تحقيق ذلك، وهو ما يفسر الدرجة العالية من السرية التي تحيط بها، إلى الآن. كان واضحاً أيضاً تركيز الوثيقة، بشكل واضح ونشط، على إدماج مفهوم “الردع الاستراتيجي/النووي” ضمن المفهوم الأوسع لـ”الردع المتكامل” الذي يجمع بين قدرات الردع النووية والعسكرية التقليدية.

 

لكن، يبدو أن الرؤية الأمريكية للاستراتيجية النووية الصينية قائمة على خلل في الاستنتاجات، وأن الفجوة المفاهيمية حول المنظور التهديدي النووي بين الولايات المتحدة والصين واسعة، خصوصاً فيما يتعلق بتفسير واشنطن لمحددات سلوك بيجين النووي وأهدافها النهائية، هو ما سيتم تناوله بالتفصيل في القسم التالي.

 

تبدو الفجوة المفاهيمية حول المنظور التهديدي النووي بين الولايات المتحدة والصين واسعة (Shutterstock)

 

اتساع الفجوة بين المفاهيم

منذ بيان الكشف عن امتلاكها السلاح النووي الأول عام 1964، أعلنت الصين تبني سياسة عدم الاستخدام الأول للأسلحة النووية. وعلاوة على ذلك، حافظت الصين على “الالتزام غير المشروط بعدم استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها ضد الدول غير الحائزة للأسلحة النووية أو المناطق الخالية من الأسلحة النووية”. وهذه هي السياسة النووية الأكثر انضباطاً التي تنتهجها أي دولة نووية. ولطالما ربطت بيجين عقيدة عدم الاستخدام الأول بسياسة نشر الأسلحة النووية وهيكلة ترسانتها وقواتها النووية، وفرضت عليها الكثير من القيود والضوابط. ومن ثم، فإن التوافق المفاهيمي حول سياسة بيجين النووية كان قائماً على ترجيح التموضع الدفاعي والحفاظ على قوة صغيرة نسبياً وقدرات صاروخية مماثلة. لكن الولايات المتحدة، منذ 2020، باتت تعتقد بشكل متزايد أن الصين تتخلى عن هذه العقيدة من طريق تبني هدف التسريع من زيادة حجم ترسانتها النووية إلى ألف رأس نووي بحلول عام 2023 (شكل 1).

 

شكل 1: رسم بياني يوضح تقديرات الوكالات الأمريكية المختلفة لمسار النمو السريع في القوة النووية الصينية، ويظهر تقدير هذه الوكالات للقوة النووية الصينية حتى عام 2035*

*ملحوظة: لا يمكن التأكد من دقة هذه التقديرات لصعوبة توافر معلومات علنية عن الأسلحة النووية الصينية. المصدر: اتحاد العلماء الأمريكيين.

 

على سبيل المثال، في عام 2021، كشف باحثون غربيون عن حقلين صينيين جديدين للصواريخ يضم كلٌّ منهما أكثر من مئة منصة إطلاق. وتوصلت التقديرات العسكرية حينها إلى أنه في حال شُغِّلَ هذان الحقلان بالكامل وسُلِّحا بالأسلحة النووية، فإن هذه الصواريخ من شأنها أن تزيد من حجم الترسانة الاستراتيجية الصينية إلى حد كبير.

 

إن حسابات واشنطن قد تحمل بعض المصداقية، إذ شهدت القدرات الاستراتيجية الصينية قفزة من حيث الحجم والسرعة والتطور منذ عام 2020، وهو ما طرح تساؤلات حول نوايا الصين الحقيقية وراء هذا التطور. ويدور النقاش التحليلي في الولايات المتحدة وبريطانيا وقوى غربية أخرى حول النقاط الآتية:

 

أولاً، أنه لا يوجد مسوغ تهديدي نووي غربي عاجل يقف وراء تسريع الصين من توسيع وزيادة حجم ترسانتها النووية. فالاستراتيجية الأمريكية القائمة على تعزيز القدرات الاستراتيجية بشكل تدريجي وبطيء لا تزال قائمة. وقياساً على تجارب تاريخية سابقة، حتى عندما أرسلت واشنطن إشارات حول تسريع تنمية ترسانتها النووية، من قبيل إقرار إدارة ريغان مبادرة الدفاع الاستراتيجي في عام 1983، وانسحاب إدارة جورج دبليو بوش من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في عام 2002، ما قاد ذلك إلى تسريع في بناء القدرات الاستراتيجية الصينية. من جهة التقنية العسكرية أيضاً، فإن الصين باتت مؤخراً تعتمد بشكل أكبر وسريع على بناء الصواريخ الباليستية المخزنة في الصوامع، على نحو يفوق اعتمادها على قدرات استراتيجية أخرى (تركز عليها روسيا) مثل الغواصات النووية، والصواريخ المحمولة والمنقولة براً، والقاذفات الاستراتيجية (شكل 2). لكن هذه السياسة تتعارض مع العقيدة النووية التهديدية التاريخية في الصين القائمة على اعتبار الصواريخ الدفاعية على الأراضي الأمريكية أكبر معوق.

 

شكل 2: جدول يوضح توزيع القوة النووية الصينية بين الأسلحة المختلفة، ويظهر تفوق الصواريخ المخزنة في صوامع على غيرها من الأسلحة

المصدر: اتحاد العلماء الأمريكيين.

 

ثانياً، الأساس النظري للنقاش الأمريكي الحالي حول القدرات النووية الصينية يقوم على أن استراتيجية بيجين مصممة لتحقيق التكافؤ النووي مع الولايات المتحدة من الناحيتين النوعية والكمية، ومن ثمَّ تُصنَّف على أنها سياسة هجومية وليست دفاعية.

 

ثالثاً، تظهر التسريبات حول “المبادئ التوجيهية” أن القلق من قيام تحالف نووي بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية، واحتمال تنفيذ هذه الدول ضربة نووية مشتركة على الأراضي الأمريكية بات محدداً أساسياً في التخطيط العسكرية الأمريكي على المستوى الاستراتيجي.

 

لكن يمكن القول إن هذه المحددات، على رغم توافقها مع التحديثات الأخيرة في الترسانة النووية الصينية، لا تزال بعيدة جزئياً عن التقدير الدقيق للتفكير في بيجين وراء التسريع من بناء القدرات النووية الصينية.

 

التفكير الاستراتيجي الصيني

تركز أغلب الأدبيات الغربية حول السياسة النووية التقليدية للصين على سعي بيجين لامتلاك قدرات نووية تُمكِّنها من توجيه ضربة ثانية بعد امتصاص الضربة الأولى. لكن، لفهم التفكير الاستراتيجي الصيني ينبغي تحليل منظور القيادة الصينية لوظائف القوة النووية. فالصين لا تنظر إلى القوة النووية من مفهوم الردع الوظيفي الضيق، بل تملك نظرة أوسع للغرض من امتلاك قدراتها النووية وتوسيعها. ويحدد هذه النظرة مفهوم “التوازن الاستراتيجي المضاد“. ويمكن عَدّ هذا المفهوم محور التفكير العسكري الصيني للرئيس شي جينبينغ. يُلخَّص مفهوم “التوازن الاستراتيجي المضاد” في اعتبار الأسلحة النووية رمزاً للقوة العسكرية، ومن ثمّ توظيفها لخلق تأثير مباشر على تصور الخصم (الولايات المتحدة) لتوازن القوى بينهما. بكلام آخر، لا تقتصر وظيفة القوة النووية على حدود الردع العسكري، بل تحمل وظائفها بعداً سياسياً أكبر.

 

شكَّل هذا البعد السياسي القائم على توظيف القوة النووية لتغيير المنظور الخارجي تجاه الصين التفكير الصيني على مستوى القيادة منذ ماو تسيدونغ، الذي أوضح ذلك علنياً، عام 1964، بالقول إن “القوى الإمبريالية تنظر إلينا بازدراء لأننا لا نملك قنابل نووية، بل نملك فقط قنابل يدوية… ولذلك يتعين على الصين أن تمتلك قنابل نووية، وأن تطور قنابل هيدروجينية في أقرب وقت ممكن”. وأشار دنغ تشياوبنغ أيضاً، في عام 1988، إلى دور القوة النووية في دعم مكانة الصين بوصفها “قوة عظمى ذات نفوذ كبير”، وأن هذه المكانة يجب أن تدعم في المستقبل بقوة نووية كبيرة. وأشار جيانغ تسيمين وهو جينتاو لاحقاً، وفي أكثر من مناسبة، إلى نفس العقيدة القائلة إن الصين لن تحوز على المرتبة التي تستحقها في النظام الدولي دون قوة نووية. وشكلت هذه العقيدة تفكير الرئيس شي أيضاً، الذي قال في 2016 إنه يعتبر القوة النووية “ركيزة استراتيجية” لـ”وضع القوة العظمى” الذي تتمتع به الصين.

 

في المنظور الصيني، لا تقتصر وظيفة القوة النووية على حدود الردع العسكري، بل تحمل وظائفها بعداً سياسياً أكبر (AFP)

 

إضافة إلى ذلك، يشمل وضع القوة النووية ضمن مفهوم “التوازن الاستراتيجي المضاد” أدوات للتعامل مع التحديات الاستراتيجية الداخلية والخارجية، ويقصد بذلك محاولة فرض استقرار نظام الحكم داخلياً، وتغيير البيئة الاستراتيجية الخارجية لخدمة مصالح الصين، باعتبار أن المجالين، في التفكير الصيني، مرتبطان ببعضهما البعض. على سبيل المثال، بالتزامن مع الحملة الدولية ضد الصين في أعقاب انتشار كوفيد-19 في 2021، أمر شي القيادة الاستراتيجية بتسريع توسيع القدرات النووية الصينية بعد تقدير وزارة أمن الدولة (الاستخبارات) أن تأثير هذه الحملة قد يفوق تأثير أحداث ميدان تيانانمين على استقرار نظام الحكم. أيضاً، دأبت بيجين على توظيف القوة العسكرية (والنووية) تاريخياً لردع تايوان والقوى الغربية عن دعمها لإعلان الاستقلال.

 

لكن، من منظور تنافس القوى العظمى، أحد أهم المستهدفات الصينية من زيادة القدرات النووية هي فرض “الاستقرار السياسي” على العلاقات مع الولايات المتحدة. ويحدد هذه الديناميات مفهوما “الردع الديناميكي” وقت الحرب (المفهوم التقليدي للردع العسكري)، و”الردع الثابت” وقت السلم، وهو ما يعزز الدور السياسي للأسلحة النووية. ويقصد بـ”الردع الثابت” استخدام القوة الوطنية الشاملة، “وخاصة القوة الاستراتيجية (العسكرية) من أجل الحفاظ على التوازن الاستراتيجي مع العدو في خلال فترة زمنية طويلة نسبياً”.

 

يعني ذلك أن النظرية “الواقعية الهيكلية” في العلاقات الدولية هي المحدد الرئيس للتفكير الصيني في التنافس مع الولايات المتحدة القائم على توازن القوى وسياسة القوة، ويظهر ذلك في إعجاب الرئيس الصيني المعلن، منذ توليه الحكم في 2012، بقرار روسيا إعطاء الأولوية لتطوير قدراتها النووية على رغم تراجع الاقتصاد الروسي. بكلام آخر، فإن القيادة الصينية وصلت إلى قناعة بأن التنافس مع الولايات المتحدة يجب أن يُدعَم بالقوة الصلبة الصينية، وليس بالتزام بيجين بمبادئ النظام الدولي الذي تقوده واشنطن، وقواعده. ويفسر القادة الصينيون سيطرة هذه المعادلة الصفرية على التنافس بإلقاء اللوم على الولايات المتحدة التي “لن تدخر أي جهد، بل وسوف تتصرف دون أدنى اعتبار لقمع الصين واحتوائها وتقسيمها وتطويقها وحصارها”، كما يقول تسوي تيانكاي السفير السابق الذي خدم فترة طويلة سفيراً في واشنطن. ويقول وانغ جيسي، أهم مفكر في العلاقات الدولية حالياً في الصين، إنه “ما لم تتجاوز القوة الوطنية الصينية قوة الولايات المتحدة، فلن يكون هناك سبيل لتعديل نهج واشنطن المتغطرس والعدواني”. ومن ثمّ، فإن القوة النووية والامتناع عن المشاركة في محادثات الحد من الأسلحة النووية وفقاً لشروط واشنطن، من المنظور الصيني، هما الأداة الأهم التي تمكن بيجين من فرض شروطها على الولايات المتحدة، والاستقرار في العلاقات الثنائية التي تظل الصين بحاجة له لكسب الوقت بينما تعزز من عناصر قوتها الشاملة.

 

وعلى رغم الإيمان بتوازن القوى النووية بصفته محدداً للعلاقات مع واشنطن، فإن الاستراتيجية الصينية لا تشمل تشكيل تحالفات عسكرية/نووية مع قوة أخرى للوصول لهذا الهدف أخذاً في الاعتبار الكلفة المرتفعة لمثل هذه التحالفات، و”الفخ” الذي يمكن أن تجد بيجين نفسها فيه مع حليف غير مسؤول، خصوصاً روسيا وكوريا الشمالية. ولا يعني ذلك أن التقارب الثلاثي لا يوفر فوائد بالنسبة للصين.

 

فمن جهة، يرفع التعاون العسكري والاستراتيجي الروسي-الكوري الشمالي الأعباء عن كاهل الصين المسؤولة عن دعم الجانبين في مواجهة الضغط العسكري والسياسي القادم من الغرب. ويخلق التقارب أيضاً أعباء إضافية على الولايات المتحدة وحلفائها وتشتيتاً للانتباه والموارد والتخطيط الاستراتيجي بعيداً عن بيجين. لكن، من جهة أخرى، يقلل هذا التقارب من نفوذ الصين على كلا الدولتين، خصوصاً مع تأكيد تقارير تعمُّدهما عدم الإفصاح عن تفاصيل تعاونهما في الجوانب العسكرية والاستراتيجية للقيادة الصينية. ويشكل ميل الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون للموازنة والتحوط بين القوتين الكبريين فرصة بالنسبة لموسكو لتعزيز وجودها في المجال الحيوي الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وتشمل التحديات أيضاً، تسريع خصوم الصين الإقليميين، كاليابان وكوريا الجنوبية، من بناء قدراتهما العسكرية وتعميق تحالفهما فيما بينهما ومع الولايات المتحدة وحلفائها الخارجيين، وهو ما يعزز من سياسة “التطويق الاستراتيجي” الغربية تجاه الصين ويزعزع من استقرار شرق آسيا، من وجهة نظر بيجين.

 

التوقعات المستقبلية

الاستنتاج المركزي مما سبق يكمن في أن بيجين تفسر التدهور في العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة فقط من منظور “الهيمنة” الأمريكية، وليس أي تصرفات عدائية قد تطغى أحياناً على سياسة الصين الخارجية. أي أن القيادة الصينية تعتقد أن السبب الرئيس لضغوط واشنطن هو صعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية، ومن ثم تغير موازين القوى في النظام الدولي. والقوة النووية، وفقاً لهذا المنظور، هي الوحيدة القادرة على إجبار واشنطن على التراجع والحذر في سياساتها العدائية تجاه الصين، بالضبط كما تفعل روسيا.

 

بعبارة أخرى، فإن القادة الصينيين يعتقدون أن التسريع في زيادة حجم القوة النووية، وليس تقليصها أو فرض ضوابط (أحادية أو ثنائية أو تعددية) عليها كما تريد واشنطن، هو عامل استقرار في النظام الدولي، وليس العكس. لكن، هذا الاستقرار قصير ومتوسط المدى، من وجهة النظر الصينية، التي ترى أن المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة آتية لا محالة على المدى الطويل. وبالتالي، إلى جانب كونها عامل استقرار، فإن القوة النووية عنصر استراتيجي لكسب الوقت.

 

بناء على ذلك، فإن الترجيح الأول هو استمرار الصين في تعزيز حجم ترسانتها النووية وزيادتها على المديين المتوسط والبعيد. لكن هذه العملية لن تتم وفقاً لمعايير محددة سابقاً في سياق الوصول للتكافؤ النووي مع الولايات المتحدة، بل ستتم بشكل تدريجي (وإن كان سريعاً) وفقاً لمفهوم “اللاتكافؤ النووي”، أي الحصول على قدرات أصغر من الولايات المتحدة، لكن كافية لتحقيق “التوازن الاستراتيجي المضاد” بشقيه الديناميكي والثابت. وبما أن الهدف النهائي هو التحوط والمرونة والردع، يتوقع أن تتخلل هذه العملية مراجعات دورية تشمل الكم والكيف والأسلحة ومنصات الإطلاق المناسبة. في هذا السياق، يمكن أيضاً تصور استمرار اعتماد الصين على الصواريخ الباليستية بوصفها أعمدة رئيسة لاستراتيجيتها النووية على المديين القصير والمتوسط. يستند هذا التقدير إلى أن السرعة في قلب موازين القوى مع الولايات المتحدة هي المحدد المركزي للتفكير الاستراتيجي الصيني، وهو ما توفره السرعة التي يمكن من طريقها بناء هذه الصوامع والصواريخ مقارنة بالمنصات والأسلحة الأخرى ارتكازاً على القدرات الهائلة للقاعدة التصنيعية الصينية.

 

يرتبط ذلك بالترجيح الثاني وهو تركيز القيادة الصينية على تحديث قوة الصواريخ الاستراتيجية (التي حُوِّلَت من إحدى وحدات الجيش تحت مسمى “فرقة المدفعية الثانية” في 2015 إلى أحد فروع جيش التحرير الشعبي الرئيسة تحت مسمى “قوة الصواريخ”). قد يشمل ذلك أيضاً، توسيع نطاق حملة مكافحة الفساد التي بدأها الرئيس شي في يوليو العام الماضي وشملت قيادات في قوة الصواريخ ووصلت إلى مستوى وزيري دفاع.

 

لا تستند الاستراتيجية النووية الصينية إلى سياسة هجومية، بل تحمل طابعاً دفاعياً (AFP)

 

يشمل الترجيح الثالث استمرار عزوف الصين عن القبول بالمشاركة في أي محادثات مستقبلية مع الولايات المتحدة حول خفض أو الحد من قدراتها النووية أو الصاروخية. يرجع ذلك إلى عدم إيمان القيادة الصينية بأن الإلتزام بالمعايير الصادرة عن الاتفاقات النووية الثنائية تشكل حصانة للتهديدات الوجودية التي تراها في سلوك واشنطن تجاهها. ويعزز هذا التقدير التدهور المستمر في العلاقات الثنائية بين الجانبين، بعض النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة. وعلى رغم ذلك، قد تتبنى بيجين مناورات في المحادثات مع الإدارة الأمريكية المقبلة تتمحور حول مقايضة إمكانية الدخول في محادثات نووية (لن تغير من سياسة بيجين بشكل حاسم على الأرجح) في مقابل تراجع الولايات المتحدة عن بعض سياساتها العدائية تجاه الصين، مثل دعم تايوان والعقوبات الواسعة النطاق على قطاع التكنولوجيا الفائقة الصيني، والقيود على الصادرات الصينية لمنتجات الطاقة النظيفة.

 

ويشمل الترجيح الرابع استبعاد سعي الصين النشط لبناء تحالف نووي/استراتيجي/عسكري مع كلٍّ من روسيا وكوريا الشمالية على المستويين القصير والمتوسط (إذا لم تحدث تغييرات جذرية في سياق التنافس مع الولايات المتحدة قريباً). ويستند هذا الترجيح على المكاسب الكبيرة التي يوفرها تموضع بيجين الحالي تجاه هاتين القوتين. وتسعى الصين إلى تبني خطوات بعيدة عنهما من الناحية العسكرية عبر رفض ارسال أسلحة إلى روسيا، وفرض قيود على تصدير المعدات والأدوات ذات الاستخدام المزدوج العسكري والمدني إليها. إلى جانب ذلك، تبنَّت الصين الصمت إزاء اقتراح روسيا إجراء تدريبات عسكرية ثلاثية مشتركة (رغم مناوراتها العسكرية المتكررة مع روسيا) وهو ما يعكس معارضتها الضمنية لبناء تصور خارجي بأنها على توافق مع سياسات كوريا الشمالية. وتضع هذه السياسة الصين في موقف القوة العظمى المسؤولة، وتخلق أوراق ضغط ونفوذ على القوى الغربية في سياق مساعي هذه القوى الاستعانة بنفوذ بيجين على الدولتين للحد من مغامراتهما النووية. ويوفر ذلك أوراقاً لبيجين توظفها لتحقيق أهداف أخرى في سياق علاقاتها مع الغرب.

 

الخلاصة

لا تستند الاستراتيجية النووية الصينية إلى سياسة هجومية، بل تحمل طابعاً دفاعياً. وقد لا يتفق هذا المنظور مع الأدبيات الغربية في تحليل سياسة الصين القائمة على تسريع تحديث ترسانتها النووية مؤخراً، لكن الواقع يثبت (كما هو موضح أعلاه) أن الحسابات الصينية قائمة على غياب الشعور بالأمن نتيجة سياسات واشنطن العدائية، ومحاولة لكسب الوقت، وفرض الاستقرار السياسي (أكثر من أي شيء آخر) على العلاقات الثنائية معها.

 

ويحمل التفكير الاستراتيجي الغربي مشكلة بنيوية أكبر: كلما ساد الاعتقاد بأن سياسة الصين النووية هجومية في جوهرها، زاد ترجيح تغيير صناع القرار الغربيين استراتيجيتهم النووية في اتجاه التخلي عن التحديث التدريجي والإبقاء على القيود النووية قائمة. وبالضرورة، يزيد هذا التطور -إن تحقق- من عمق الشعور بغياب الأمن واللايقين في الصين ويدفعها إلى تسريع تحديث قدراتها النووية وبنائها.

 

ولا يبدو أن ثمة مخرجاً من هذه الدائرة المفرغة التي تتسق مع التراجع في غالبية الجوانب الأخرى المحددة للعلاقات الثنائية الصينية – الأمريكية مؤخراً. ويشير غياب اليقين حول فاعلية المحادثات النووية بين الجانبين لتحقيق الأمن لهما إلى حتمية مسار واحد قائم على المزيد من التموضع النووي والتموضع النووي المقابِل في المستقبل.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M