باسم حسين الزيدي
يتذكر العراقيون جيداً تاريخ (9/4/2003)، وهو التاريخ الذي أعلن فيه بصورة رمزية عن سقوط نظام الحزب الحاكم (الاشتراكي) في العراق على يد تحالف قادته الولايات المتحدة الامريكية، لتنتهي معه حقبة سوداء امتدت لفترة زمنية تجاوزت الثلاث عقود من الزمن، عانت فيه أجيال، من ويلات الحروب العشوائية والقتل على الهوية والتعذيب وسلب الحريات العامة والخاصة والتهجير القسري والحصار الاقتصادي، حتى وصفها الكثير بجمهورية الرعب لبشاعة وقسوة النظام واركانه التي مارست جرائم ضد الإنسانية تم توثيقها في الأمم المتحدة من قبل دول ومنظمات إنسانية ووسائل اعلام عالمية وشهود عيان، وكانت شبيهة الى حد كبير بجرائم النازية وحلفائهم خلال الحرب العالمية الثانية.
العراقيون استبشروا خيراً بسقوط تمثال “صدام حسين” وسط العاصمة بغداد، الذي يمثل رأس هذا النظام “الشوفيني” الفاسد، لأنهم اعتقدوا ان القادم سيكون أفضل مقارنة بنظام “حزب البعث”، خصوصاً مع تولي الحكم من قبل المعارضة العراقية، التي هاجرت او هجرت الى الخارج وعادت بعد سقوط النظام السابق لتشارك في العملية السياسية، تحت اشراف القوات المحتلة والأمم المتحدة ومنظمات عالمية أخرى، وقد افرز هذا الواقع الجديد لبناء ما أطلق عليه لاحقاً “العراق الجديد” الكثير من التحديات لعبور عقبات لا حصر لها نتيجة لتراكم سنوات من الفشل والانقطاع عن العالم الخارجي، الا ان هناك عددا من التحديات الملحة والضرورية كانت سابقة لغيرها امام صناع تاريخ العراق الجديد تمثلت في:
1. بناء عملية سياسية جديدة، نوع النظام وطبيعته قائمة على “الديمقراطية” والتعددية الحزبية والدستور واحترام القوانين وبناء سلطات (تشريعية، تنفيذية، قضائية) رصينة وحيادية وعادلة لمنع أي عودة لنظام الحكم الديكتاتوري بكل اشكاله.
2. إيجاد عقد اجتماعي جديد قائم على خلق بيئة اجتماعية تراعي احترام الحريات (العامة والخاصة) وتقدس التعايش السلمي، والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حرية التعبير عن الرأي والمعارضة ومكافحة كل انواع الاستبداد، إضافة الى خلق بيئة امنة لضمان حرية التفكير والمعتقد.
3. التحول الاقتصادي من النظام الريعي (الاشتراكي) الى نظام اقتصادي أكثر ديناميكية وواقعية يعزز من حظوظ البلد في المشاركة ضمن عجلة النظام الاقتصادي العالمي ولا يربط مصيره بسلعة واحدة (النفط) قد تعرضه للانهيار الاقتصادي في أي لحظة نتيجة لانخفاض سعرها او استغناء التجارة العالمية عنها ببدائل أخرى.
4. خلق نظام مؤسسي قادر على إدارة الدولة والتعامل مع مختلف القضايا داخل هذا النظام (system) بشفافية ونزاهة من خلال سن مجموعة من القوانين التنظيمية التي تؤطر جميع العمليات الإدارية والاستثمارية والمالية والسياسية والتشريعية …الخ، الخاصة بهذا النظام والتي تضمن سهولة الإجراءات، وتصفير الفساد، سرعة العمل، واعتماد التكنولوجيا في إدارة مختلف الموارد.
في تقييم سريع للنقاط الإيجابية والسلبية التي حققها النظام الجديد او “الجمهورية السادسة” نجد ان كفتي الميزان ما زالت تتأرجح بين النجاح والاخفاق او الخطأ والصواب بعد (17) عاما من تجربة “الديمقراطية” في العراق نتيجة لعوامل داخلية وأخرى خارجية لم تسهل حركة الانتقال السلس والحقيقي نحو بناء عراق جديد قائم على التعددية والفدرالية والحرية والشفافية، وبالتالي ما زال النظام يراوح في مكانة وهو يحاول الخروج من مواجهة المزيد من الازمات السياسية والاقتصادية والخدمية والصحية والتعليمية والاجتماعية.
ان الانتقال الى النظام الديمقراطي “الاستشاري” لا يعني تطبيقه، فاختيار نوع النظام شيء وتطبيقه شيء اخر، والدليل ان اغلب الأنظمة الديكتاتورية “المستبدة” المعاصرة تدعي انها نظم ديمقراطية جماهيرية قائمة على اختيار وحب الشعب لها، بل وتمارس العملية الانتخابية بانتظام ولها دستور وبرلمان وقوانين كيفتها لبقاء النظام القائم أطول فترة ممكنة.
لقد وقعت المعارضة العراقية التي وصلت الى السلطة بعد عام (2003) الطامحة نحو التغيير في إشكالية عقلنة حركة الانتقال نحو النظام الديمقراطي بحسب الفعل وردة الفعل وليس بحسب متطلبات الظروف الموجودة على ارض الواقع وطريقة التعامل الصحيحة معها، وهو ما شخصه وحذر منه الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) قبل عقود من الان بقوله: “على الذين يريدون التغيير أن يعقلنوا حركتهم وبحسب متطلبات الظروف لا بحسب رد الفعل، حيث إن الإنسان إذا كانت حركته في دائرة رد الفعل سيكون في أزمة يخلقها عدوه له، حيث إن رد الفعل يسحب الإنسان حيث أراد صاحب الفعل، لا حيث هو يريد”، وبالتالي اصبح الجميع في دوامة لا تنتهي من الازمات والمشكلات في اطار رفض مجتمعي يحاول تحريك الواقع نحو واقع جديد غير واضح المعالم حتى اللحظة.
ان عقلنة التحول او التحول العقلاني نحو نظام الاستشارية “الديمقراطية” في العراق ينبغي ان يتم في ضوء وجود بيئة او ثقافة اجتماعية عامة قادرة على احتضان هذا التغيير والتفاعل بعقلانية وحيوية مع طبيعة هذا النظام الجديد، وهذا الامر لا يتم من دون وجود فهم سياسي حقيقي لصناع التغيير قبل الشروع باي عمل نحو التغير، خصوصاً وان “فهم السياسة له جانبان، سلبي، بأن يفهم الإنسان ماذا يجري في بلاد الإسلام؟ ولماذا؟ وإيجابي، وهو أن يفهم الإنسان، كيف يشخص المرض؟ وما هو علاجه؟ وفهم هذا العلاج”، فمن لا يفهم لا يمكنه باي حال من الأحوال افهام الاخرين فضلاً عن اقناعهم كما يوضح الامام الشيرازي (رحمه الله) بقوله: “من أهم الأمور التي تجب على الذين يريدون التغيير هو فهم السياسة، إذ بدونه لا يتمكن الإنسان من الشروع في العمل وإن بدأ، فإنه لا يتمكن من الاستقامة في أمره وإن تجلد وقاوم، فإنه لا يتمكن من مواصلة السير بالحركة إلى شاطئ السلام والهدف المنشود”.
والامر من ذلك، ان من لا خبرة له في هذا المجال قد يدمر كل شيء ويحول عملية التغيير الإيجابي الى كارثة لا يمكن الخلاص منها بسهولة على حد قول الامام الشيرازي: “إذا لم يعرف الإنسان مجريات السياسة وخصوصيتها، فإنه لا يتمكن من التدخل في شؤونها وتوجيهها والسير بها إلى الصراط المستقيم، بل يزيد في الطين بلة، وفي البلاد محنة”، اما من يعرف كيف تدار الأمور فسوف يتجنب الكثير من الازمات والمطبات امام عملية التغيير، “من فهم السياسة أن يعرف الإنسان ارتباط الأمور بعضها ببعض وإن أي أمر يؤثر في أي أمر آخر، ومعرفة المسافات والخصوصيات والمزايا والأقوام والاتجاهات والتيارات”.
والخلاصة مما سبق يمكن اجمالها في نقطتين ينبغي ان يتوقف عندها كثيراً أصحاب الاختصاص واهل العلم والطبقة المثقفة في المجتمع العراقي:
1. للانتقال الحقيقي نحو النظام الديمقراطي “الاستشاري” وتطبيقه ينبغي عقلنه هذا الانتقال ومراعاة الظروف وليس الاعتماد على الفعل وردة الفعل.
2. كيفية خلق ثقافة مجتمعية تكون بمثابة البيئة الحاضنة او الدرع الحامي والمدافع عن هذا النظام في ظل تفاعل إيجابي وليس سلبي مع هذا التغيير نحو الديمقراطية.
ان الديمقراطية في جوهرها قائمة على الحرية والعدالة والتسامح والتعايش والسلام واللاعنف والنزاهة والعمل والصلاح… الخ، وليس مجرد آليات سياسية وتشريعات قانونية مفرغة من محتواها قد تعطي واجهة ديمقراطية لبلد ابعد ما يكون عنها على ارض الواقع.
رابط المصدر: