د. أسعد كاظم شبيب
يدور الشد والجذب بين الكتل السياسية داخل مجلس النواب العراقي حول جوانب من الموازنة الاتحادية لعام 2021 شأنها بذلك شأن كل المسائل والتشريعات والمشاريع المهمة، حيث تحاول كل كتلة سياسية فرض أجندتها الحزبية والمكوناتية إنطلاقا من حسابات ضيقة، ورغبات حزبية، وجهوية، ومكوناتية، تجعل من الكتل السياسية داخل مجلس النواب إلا ما ندر تنطلق في إقرار قوانين وقرارات مهمة على صلة بحياة المواطنين واستقرار وبناء الدولة من اعتبارات مكوناتية وحزبية مثلما أشرنا.
وعلى الرغم من أن البلد مضت عليه سنة مالية كاملة ولم تقر موازنته لعام 2020، ومضت حوالي أربعة اشهر على السنة المالية الحالية ولا تزال الكتل السياسية بين شد وجذب حول الموازنة كل طرف يريد أن يحقق إنجازاً للهوية الضيقة، وقد تضخم الجدل هذا العام لأسباب انتخابية لاسيما بعد أقل من ستة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية، ولم يكن هذا الشد والجذب الأول من نوعه، حيث كثيرا ما كانت تخضع هذه القوانين لمثل هكذا حسابات، ولو كانت تنطلق من اعتبارات وطنية عليا لوصلت إلى مرحلة النقاشات والحوارات حول هذه القوانين، ومن ابرز الأمثلة على تفوق قيم المكونات والأحزاب على قيم الدولة والمواطنة، محورين الأول الذين سنسلط عليهم الضوء في هذه الورقة هما: سعر الصرف الدينار العراقي، والثاني حصة إقليم كردستان من الأموال في الموازنة، طبعا هناك جوانب مشابهة سنبحثها في مناسبات أخرى.
ففيما يخص المحور الأول، ذهبت الحكومة قبل أربعة أشهر إلى تخفيض سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي بصورة مفاجئة مما تسبب بخسائر جسيمة، وصعود كبير في أسعار المواد الغذائية التي هي محل الاهتمام الأول للمواطن العراقي، وكذلك ارتفاع الأسعار المنزلية والصناعية والزراعية بجميع أصنافها، وأدى إلى ركود نسبي في الحركة الشرائية، وقد تبين فيما بعد بأن التخفيض هذا الذي طالبت به وزارة المالية وأقره البنك المركزي جاء بالاتفاق مع كل الكتل السياسية النافذة في اجتماع رسمي مع الرئاسات الثلاثة، وحاليا العديد من هذه الكتل تريد إرجاع سعر صرف الدولار إلى سابق عهده من خلال إقراره من خلال الموازنة الاتحادية، أي أن يكون لكل مائة دولار أمريكي 122 الاف بالدينار العراقي، وليس كما هو الآن بعد ارتفاعه إلى 140 الاف بالدينار العراقي، وهذا التخفيض لقيمة الدينار بمعدل كبير، وهو الأعلى منذ عام 2003، أدى على الفور إلى رفع أسعار السلع؛ مما أضر بمستويات المعيشة.
إلى جانب ورقة الإصلاحات المسماة بالورقة البيضاء ذات التكلفة العالية التي وضعتها وزارة المالية في حكومة مصطفى الكاظمي، فقد يؤدي ارتفاع أسعار الصرف إلى مزيد من الاحتجاجات الشعبية خاصة وأن البلد لا يزال يعيش حركة احتجاجية منذ تشرين الأول من العام الماضي، ومستمرة لغاية الآن في بعض المحافظات كالناصرية في جنوب العراق، طالب خلالها مئات الآلاف من العراقيين بوظائف وخدمات، وبعزل النخبة الحاكمة والسياسية المتورطة بملفات فساد عديدة، لأن التخفيض الآن يلامس جل متطلبات المواطن العراقي بل حتى الشرائح التجارية التي ترتبط حركة تجارتها على الدولار، خاصة وأن البلد يعتمد على الاستيراد بنسبة تصل إلى 90% من حجم حاجياته الداخلية بعد التعطيل المتعمد وفوضى الإدارة والتخطيط والعبث في مجالات الزراعة وتعطيل الصناعة والسياحة بصورة شبه تامة، مطلب التخفيض هذا يواجه معارضة من قبل وزارة المالية والبنك المركزي وبعض الكتل السياسية ولأسباب مختلفة، البنك المركزي أرجع السبب الرئيسي وراء تخفيض قيمة الدينار هو سد فجوة التضخم في ميزانية 2021 بعد انهيار أسعار النفط العالمية، وهو مصدر رئيسي للموارد المالية العراقية.
وقال في بيانه “الأزمة المالية التي تعرض لها العراق بسبب جائحة كورونا أدت إلى حدوث عجز كبير في الموازنة العامة”، فقد أوضح البنك أن قرار خفض قيمة العملة جاء كخطوة إستباقية “حرصا من البنك على تفادي استنزاف احتياطاته الأجنبية”، ولمساعدة الحكومة على تأمين رواتب الموظفين العموميين.
أما الكتلة المؤيدة لارتفاع سعر الدولار إلى مسائل تتعلق بالمضاربات والتجارة بالدولار لحسابات إقليمية، إن ارتفاع سعر الدولار سيعود بالفائدة على المنتج المحلي أيضا، حيث أن المنتج المحلي مكلف باعتبار أنه لا توجد بنى تحتية حقيقية للمصنع العراقي وحيث أن البضاعة الأجنبية منافسة رغم رداءة نوعيتها فارتفاع الدولار سيؤدي إلى رفع البضاعة المستوردة وسيكون المنتج المحلي قادرا على المنافسة لسعر البضاعة الأجنبية، في حين كشف الخبير الاقتصادي العراقي، ماجد الصوري عن وجود ضغوطات مارستها الولايات المتحدة الأمريكية بالآونة الأخيرة، على تداول الدولار في العراق، قد تكون أسهمت برفع سعر الدولار محلياً لان الدولار من سياسة الخزانة الأمريكية، لذلك هي ضغطت على العراق، فحُددت إمكانية الدولار التي تصل إلى العراق، والتي فيها تحديات كبيرة جداً، ووصف باحث آخر بأن تخفيض الدينار مقابل الدولار جاء لتدمير الدينار العراقي وفقا للتخطيط الأمريكي وبدعم من قبل بعض دول الخليج.
وبالنسبة للحكومة الاتحادية فأن الآثار الإيجابية لتغيير سعر الصرف تتمثل في توفير إيرادات إضافية إلى وزارة المالية بنحو (12) تريليون دينار ناتج عن بيع الدولار للبنك المركزي بسعر أعلى من السابق، مما ساهم في تقليل عجز الموازنة خاصة في ضوء ارتفاع أسعار النفط منذ نهاية عام 2020 وحتى الآن، وقابل للصعود أكثر في الأشهر القادمة، وأيضا يساهم في توقع زيادة الإنتاج المحلي للسعر الممكن إنتاجها في الداخل، ويساهم في انخفاض الإستيرادات للسلع الكمية وترشيد استهلاك السلع، طبعا هذا المبدأ لم يتحقق إلى الآن ولم يلحظ المراقبون أي تطور في حجم المنتوجات المحلية وانتعاش القطاع الخاص، في حين تتمثل السلبيات في ارتفاع المستوى العام للأسعار، إذ ارتفع التضخم السنوي بأكثر من (4) بالمائة خلال الأشهر الماضية، وكذلك يؤدي إلى انخفاض الدخل الحقيقي خاصة للشرائح الاجتماعية الفقيرة والتي ليست لديها مصدر للدخل.
المحور الثاني الذي يشكل معضلة في إقرار كل الموازنات السابقة والحالية وتتداخل في حسابات سياسية واقتصادية (حصة إقليم كردستان من الموازنة، وإشكاليات إيرادات نفط الإقليم) ومن المؤكد حتى في الأعوام المقبلة هي حصة الإقليم من الموازنة والآلية التي تعود بها أموال النفط المصدر من إقليم كردستان، يريد الطرف الكردي أن يحقق مثلما يرد بحصة تصل (17%) وحرية اكبر في التصرف بإيرادات نفط الإقليم والمنافذ الحدودية، والذي يقود مفاوضاته قوباد طالباني نجل الرئيس الراحل جلال طالباني، والنائبة الاء طالباني.
لغاية الآن اعتمدت مسودة الموازنة لهذا العام ما نسبته (13%) للإقليم مشروطة بأن تسلم إيرادات النفط المصدر إلى الحكومة الاتحادية عبر شركة سومو إذ أعلن مدير الشركة الوطنية لتسويق النفط (سومو): إن إقليم كردستان يصدر 430 ألف برميل يومياً عن طريق ميناء جيهان التركي، قائلاً: “إن مسودة موازنة 2021 تلزم حكومة الإقليم بتسليم 250 ألف برميل، إضافة إلى 50 في المائة من واردات المنافذ الحدودية، وهنا نقاط خلاف بين الأطراف الحكومية من جهة، والكتل السياسية من جهة ثانية، وكتل وحكومة إقليم كردستان من جهة ثالثة، حيث يرى نواب أن على الإقليم تسليم إنتاجه من النفط كافة إلى الحكومة الاتحادية، مقابل تخصيص حصة للإقليم في موازنة 2021.
الأطراف السياسية والحكومية في إقليم كردستان تضغط من أجل الحصول على الأموال في الموازنة الاتحادية لدواعي سياسية ضيقة تخص الإقليم وجمهورهم الانتخابي، في مقابل ذلك لم تفي بالتعهدات القانونية والسياسية بتسليم إيرادات النفط المصدر من الحقول النفطية في الإقليم، أي أن الإقليم يعلب بعقلية المضاربات التجارية الربحية، وينظر للدولة العراقية على أنها شركة رابحة تستلم حصته في الموازنة المعتمدة كليا على الإيرادات النفطية من حقول البصرة ولا يسلم إيرادات النفط في الإقليم، وبذلك تكون لديه ما لدى الأخير وحتى محافظة البصرة المصدر الأول للنفط والإيراد الرئيس في كل الموازنات ومنه موازنة عام 2021 من هنا تثار الشكوك بعدم شفافية عائدية أموال النفط المصدر من الإقليم، حيث أنه لا تعود إلى الحكومة الاتحادية ولم ينعكس إيجابا على محافظات الإقليم كما يقول ناشطون هناك من خلال الإشارة إلى تحكم الأحزاب النافذة هناك بأموال النفط المصدر من الإقليم، فيما يرى نواب كرد أن حصة الإقليم من موازنة 2021 أصبحت دعاية انتخابية تستخدمها الكتل السياسية مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية العراقية حسب بعض نواب الحزب الديمقراطي الكردستاني، في حين طالب نواب بعدم صرف حصة إقليم كردستان من الموازنة، إلا بعد قيام سلطة الإقليم بتسليم عائدات نفط الإقليم للسنتين الماضيتين، وأشار مصدر أخرى إلى أن نواب من كتل سياسية ترفض بأي شكل من الأشكال تمرير الموازنة بهذه الحصة للإقليم، بحجة أن الإقليم يسلم نصف إنتاجه النفطي، وسيتسلم حصة كاملة من الموازنة تعادل حصة جميع المحافظات الأخرى مجتمعة.
مما تقدم من نماذج فوضى التخطيط وتغليب الرؤى الحزبية والمكوناتية في إقرار القوانين والقرارات، حيث أنها تفتقر إلى أبسط مقومات التفكير بالدولة القائمة على أساس المواطنة والتوزيع العادل على كافة الشرائح إذ تفكر بعض الكتل السياسية بمصالحها بالدرجة الأولى رغم ادعائها بالتمثيل القومي أو الطائفي لهذا المكون وزيف هذا الادعاء يتمثل بالفساد وهدر الأموال العامة وسوء الإدارة والافتقار إلى تقديم المشاريع الخدمية، وتطوير جانب الإعمار في كل محافظات العراق، وهذا ما يدلل على أن كل القوانين ومنها جوانب في قانون الموازنة توضع وتقر لحسابات كتلوية وسياسية.
أثرت كل تلك القرارات والقوانين على مستوى الخدمات وركود الجانب الاقتصادي، وعدم قدرة كثير من شرائح المجتمع على مجاراة ارتفاع الأسعار خاصة بعد ارتفاع سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي، ومثلما ذكرنا أقر بموافقة أغلب الكتل السياسية والآن يخضع للمزايدات السياسية والتجارية والانتخابية في موازنة عام 2021 وسبب في تعطيل إقرار قانون الموازنة التي تتوقف عليها الكثير من المسائل التي تهم حياة المواطنين إلى جانب مسألة عويصة أساسية تتمثل بحصة إقليم كردستان في قبالة تسليم الإيرادات النفطية في الإقليم والكشف بشفافية عن ذهاب هذه الأموال إلى جانب التأكيد على الالتزامات التي يتفق عليها الطرفان في الآليات، أي أن يكون للإقليم مثل الذي لمحافظة البصرة وعليها مثل الذي عليها هذا إذا فكرت الجهات السياسية هنا بعقلية الدولة التشاركية سياسيا واقتصاديا.
رابط المصدر: