تتمتع القارة السمراء بأهمية كبرى في اقتصادات العالم كله؛ لكونها تمتلك الكثير من الثروات والموارد المتنوعة التي كانت ولا تزال مطمع الاقتصادات المتقدمة؛ إذ تتسابق القوى العظمى للظفر بتلك الثروات الهائلة، لأنها حجر أساس في استمرار تقدم الاقتصادات المتقدمة. ولذا فإن اضطرابات القارة السمراء تؤثر على تلك الاقتصادات، وآخرها الانقلاب العسكري في النيجر التي تعد من الدول المهمة للاقتصادات المتقدمة، فكيف يؤثر الاضطراب الداخلي لنيجر على هذه الدول؟
في 26 يوليو 2023، احتجزت قوات الحرس الرئاسي في النيجر الرئيس محمد بازوم، وأعلنت تشكيل مجلس عسكري كمرحلة انتقالية بقيادة الجنرال عمر تشياني قائد الحرس الرئاسي، والذي حصل على دعم الجنرال “عبدا صديق عيسي” رئيس أركان الجيش أعلن دعمه لقادة الانقلاب بحجة حقن الدماء، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا ويجعل الكفة تميل لصالح قادة الانقلاب.
لكن هناك أطراف أخرى، فقد ظهر الاضطراب السياسي والانقسام داخل الشعب والحكومة فخرجت المظاهرات في الشوارع بين مؤيد ومعارض لحكومة “بازوم”. وفي الوقت الذي يرى القادة العسكريون ومجموعة من الشعب أن الرئيس “بازوم” هو “حليف قوى الاستعمار”، خاصة فرنسا التي تعتمد على إدارة 70% في تشغيل قطاع الطاقة بها على اليورانيوم الذي تنتجه النيجر، ومن جانب آخر فإنه حليف للولايات المتحدة التي تقيم 14 قاعدة عسكرية على أراضي النيجر، وقد برروا تحركهم بما وصفوه غضب الشعب ورفضه لسياسات الاستعمار، خاصة وأن هناك جزءًا من الشعب كان قد انطلق بمظاهرات في الشوارع لتحاصر السفارة الفرنسية رافعة لشعارات “تسقط فرنسا” و”تحيا روسيا”.
من جانب آخر، أعلنت مجموعة أخرى رفضها لذلك التحرك، ووصفته بالانقلاب على الرئيس، وانطلقت تلك المجموعات في الشوارع لتأييد حكم الرئيس “بازوم”، وقد بررت ذلك الفعل بدعمهم للديمقراطية ورفضهم لذلك الانقلاب الذي سيؤثر على الحياة السياسية والاقتصادية بالبلاد، ووصفت ما حدث بأنه مؤامرة من جانب روسيا لتوسيع سيطرتها على البلاد بهدف نهب ثرواتها، وأن روسيا تستعمل النيجر كسلاح في حربها ضد الدول الغربية، وأن ما حدث ما هو انتصار لروسيا ضد أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وان النيجر هي من سيدفع فاتورة ذلك الانقلاب بقطع الدعم المالي من جانب معسكر الغرب عنها.
موارد هائلة
تتوفر بالقارة الأفريقية موارد متنوعة وهائلة؛ إذ تتركز فيها 30% من موارد العالم المعدنية، وتمتلك 8% من احتياطات الوقود الأحفوري، بالإضافة إلى 12% من احتياطيات الغاز الطبيعي. أما عن اليورانيوم فهو الثروة الأفريقية الحقيقية، إذ تأتي 3 دول أفريقية في قائمة العشر دول الأولى في إنتاجه عالميًا، وهي: ناميبيا، وجنوب أفريقيا، والنجير، وتعد الأخيرة سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وأحد أكبر المورّدين لهذه المادة المستعملة في توليد الكهرباء من الطاقة النووية في أوروبا.
ويعدّ المعدن المُشعّ هو الوقود الأكثر استعمالًا للطاقة النووية، فضلًا عن أن له استخدامات أخرى في الطب والصناعات المختلفة المدنية والعسكرية. وبلغ إنتاج اليورانيوم في النيجر التي تمتلك خامات يورانيوم عالية الجودة في أفريقيا 2020 طنًا في عام 2022، أي نحو 5% من الإنتاج العالمي، متراجعًا من 2991 طنًا في عام 2020.
تفسر تلك البيانات السابق الإشارة اليها الأهمية الاقتصادية الكبيرة لدولة النيجر لأوروبا وعلى رأسها فرنسا، وتعد النيجر أحد أهم الحلفاء الرئيسين لفرنسا في منطقة غرب أفريقيا؛ إذ إنها المصدر الرئيس للإمداد باليورانيوم المستعمل في إنتاج الكهرباء لملايين الأسر في فرنسا بصفة خاصة وأوروبا بصفة عامة، فتحتل فرنسا المرتبة الأولى على قائمة الدول المستوردة من النيجر بواقع 157 مليون دولار، بما يمثل أكثر من ثلث إجمالي صادرات البلاد بقليل، والبالغ 466 مليون دولار العام الماضي، ومن أهم السلع التي تستوردها فرنسا من النيجر الذهب واليورانيوم.
من جانب آخر، فإن للولايات المتحدة مساعي مختلفة في توجيه علاقاتها مع القارة الأفريقية؛ إذ تسعى إلى منافسة الصين في أفريقيا لعدم ترك مساحة كبيرة لها للتغلغل في تلك القارة. وعلى الرغم من كل تلك المساعي، تظل الصين هي الشريك التجاري الأول لافريقيا بإجمالي 280 مليار دولار، بينما تأتي الولايات المتحدة بحجم تبادل تجاري بحوالي ربع التجارة الصينية 22% تقريبا، ذلك التفاوت الكبير دفع الرئيس بايدن إلى الإعلان عن ضخ استثمارات أمريكية بإفريقيا بحوالي 55 مليار دولار خلال القمة الافريقية الامريكية التي جمعت رؤساء وممثلي 50 دولة افريقية. فقد أدركت الولايات المتحدة على أن الحرب الروسية على أوكرانيا دفعتها إلى الاهتمام بتنويع سلاسل التوريد، بالإضافة إلى احتياجها إلى استيراد المعادن لزيادة الاستثمار في السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة واعتمادها على أفريقيا لتعويض النقص الروسي.
ولذلك كله، من شأن الانقلاب العسكري في النيجر أن يحدث آثارًا كبيرة على المعسكر الغربي وخاصة فرنسا؛ إذ إن من بين القرارات الأولى التي تم فرضها هو وقف صادرات الذهب واليورانيوم إلى باريس، وعلى الرغم من أن ذلك القرار له أثر اقتصادي خطير على فرنسا والقارة الأوروبية، إلا أن الناطق باسم المفوضية الأوروبية “أدالبرت يانز” قلل من أهمية ذلك التأثير، معللًا ذلك بوجود مخزونات كافية من اليورانيوم الطبيعي بأوروبا تحميها من من أي مخاطر إمداد قصيرة الأمد، أما بالنسبة للأمدين المتوسط والبعيد، فيوجد ما يكفي من المخزونات في السوق العالمية لتغطية احتياجات الاتحاد الأوروبي.
التحالف مع الشرق
في المقابل من ذلك، هناك تحليلات أخرى تشير إلى أن ما حدث جزء من سلسلة أكبر من التغيرات الجوهرية التي تحدث في القارة الأفريقية والتي تنبئ بانفراط عقد النفوذ الفرنسي على مستعمراتها السابقة في القارة السمراء. وقد كان التحرك الأول في مالي في الخامس والعشرين من مايو 2021، ثم بوركينا فاسو في الأسبوع الأخير من شهر يناير من عام 2022، وأخيرًا انقلاب النيجر.
وإذا ربطنا بين ما يحدث في أفريقيا وبين الاجتماع الروسي مع القادة الأفارقة في قمة سان بطرسبرج، فإن تلك القمة تفسر المساعي الروسية لبناء دبلوماسية قوية مع الدول الأفريقية للحصول على تأييد في حربها ضد أوكرانيا. وقد أعلن الرئيس فلاديمير بوتين عن نيته لتشجيع الاستثمار ومضاعفة التجارة من 20 مليار دولار (حوالي 18 مليار يورو) إلى 40 مليار دولار في غضون خمس سنوات، بينما وعد بتنظيم القمة كل ثلاث سنوات.
تقدم تلك النوايا الروسية إجابات على العديد من الاسئلة التي تدور في الساحة عما يحدث، ففي السنوات الأخيرة أضحت روسيا منافسًا رئيسًا لفرنسا على مناطق نفوذها التاريخية؛ إذ تسعى الأولى “روسيا” إلى تعزيز علاقاتها التجارية والاقتصادية مع دول غرب أفريقيا، وتعزيز وجودها العسكري عبر مجموعة فاجنر شبه العسكرية، خاصة وأن تلك المجموعة كانت قد أعلنت تأييدها لما حدث في النيجر في رسالة منسوبة لقائدها يفجيني بريجوزين، حيث أشار إلى أن “الأحداث في النيجر كانت جزءًا من حرب الأمة ضد المستعمرين”، وهو ما يشير إلى تحول جذري في سياسات القارة الافريقية نحو تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين على حساب علاقاتها مع معسكر الغرب بقيادة فرنسا والولايات المتحدة.
يبدو أن النيجر على أعتاب أن تكون ساحة أخرى لتصفية الحسابات بين معسكري الشرق (روسيا والصين) والغرب (أوروبا والولايات المتحدة)، تلك البلد الغنية بالثروات والفقيرة في الدخل بينما تجد نفسها جزءًا من لعبة القوى الكبرى ومعادلات النفوذ الدولية، تعقد الآمال على إحداث تحول جذري في وضعها السياسي والاقتصادي؛ لتخرج دولة النيجر على سبيل المثال من ترتيبها الحالي كأحد أفقر الدول عالميًا في عام 2023 بإجمالي نصيب فرد من الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 613 دولارًا. ويبقى السؤال هنا هل يكون التحالف مع الشرق هو الحل؟