مرت ليبيا في عقدها الأخير 2011-2021 بظروف سياسية وأمنية قاهرة شكلت عائقاً أمام تحقيق أهداف ثورة 17 فبراير ببناء دولة الحرية والعدالة والرفاهية، وقد كان أحد أهم وأكبر تلك المعوقات: التدخلات الخارجية.
وقد مرت التدخلات الخارجية بمراحل مختلفة؛ ابتداء من تدخل حلف شمال الأطلسي خلال الثورة 2011، مروراً بالتدخلات الإقليمية والدولية الداعمة للانقلاب والمناهضة له، وانتهاء بالتدخل الأممي للوساطة بين الأطراف الليبية، ثم أخيراً مرحلة التدخل المباشر بقوات رسمية وشبه رسمية، مع عدم إغفال تدخلات الفاعلين غير الحكوميين من أمثال الشركات الأمنية والمرتزقة.
ويمكن تقسيم التدخلات إلى رسمية وغير رسمية، فتدخل حلف الناتو في 2011 كان بقرار رسمي وبطلب شعبي، في حين جاءت التدخلات في مراحل لاحقة سراً وغير نظامية، حيث تنكر معظم الأطراف المتدخلة سياسياً وعسكرياً تورطها في المشهد الليبي رغم تراكم الأدلة والتقارير الرسمية الصادرة عن فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن على ذلك[1].
“فجر الأوديسا”.. بداية الحكاية
بعد مثابرة فرنسية وتردد أمريكي صوتت قوى المعسكر الغربي (بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة) في مجلس الأمن تأييداً للتدخل العسكري، وامتنعت قوى الشرق عن التصويت (الصين وروسيا)، وبهذا أصدر مجلس الأمن القرار 1973 لحماية المدنيين، وأطلق حلف الناتو عملية “فجر الأوديسا”، لتشن قواته ضرباتها الأولى بتاريخ 19 مارس/آذار 2011 على رتل عسكري ضخم أرسله القذافي لمدينة بنغازي.
رغم الإجماع العربي والدولي على ضرورة رحيل القذافي -وهو إجماع لم نره في بؤر الثورات الأخرى-[2] فإن تطبيقات القرار 1973 لم تكن محل إجماع، فقد حولت الدول الأوروبية المتحمسة للتدخل (فرنسا، وبريطانيا) القرار من حماية المدنيين وفرض حظر جوي إلى حملة عسكرية متكاملة استهدفت معسكرات قوات القذافي، والخطوط الأمامية والخلفية لجبهات القتال، وانخرطت في الصراع العسكري؛ حيث كانت هناك مشاركة محدودة من القوات الفرنسية والبريطانية الخاصة التي تولت مهمة التنسيق مع قوات الثوار على الأرض.
المنطلق الأساسي للتدخل الدولي في ليبيا في 2011 كان إسقاط القذافي، وهو الوحيد الذي كان إسقاطه أو تنحيته محل إجماع بين القوى الدولية آنذاك؛ فمواقف القذافي التاريخية مع القوى الدولية، ومواقفه من المحيط العربي لا تسعفه.
لكن إسقاطه لم يكن الخيار الوحيد المطروح على الطاولة، فرغم ارتكابه لجرائم بشعة في حق المدنيين، ورغم حماس فرنسا وبريطانيا للتدخل، فإن الإدارة الأمريكية ترددت في اتخاذ قرار إسقاطه حتى بعد الاتفاق المبدئي على تمرير قرار مجلس الأمن، حيث حاولت الإدارة منحه مخرجاً آخر، لكن القذافي “فَقَدَ اتصاله بالواقع”، حسب تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في مذكراته “أرض الميعاد”، وكان أهم ما دفع أوباما لاتخاذ القرار النهائي بالتدخل أثناء وجوده في البرازيل ثلاثة أسباب:
- التخوف من فشل الأوروبيين في حال لم تتولَّ الولايات المتحدة قيادة الحملة.
- الإجماع الدولي بين الأوروبيين والعرب، وتغاضي روسيا ميدفيديف عن التدخل.
- إلحاح كل من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، ومستشارتيه سمانثا باور وسوزان رايس، اللتين شغلتا منصب مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة على التوالي.
تولت الولايات المتحدة جزءاً من المرحلة الأولى من العملية (استهداف دفاعات القذافي)، في حين تكفل الأوروبيون ببقية العملية ومعظم أعبائها العسكرية، وجرى الاتفاق معهم على أن يتحملوا تكاليف ما بعد الصراع، لأن “إفريقيا حديقة الأوروبيين الخلفية، وليست حديقتنا”، حسب تعبير أوباما[3]، وأُشركت دول عربية مثل (قطر، والإمارات، والأردن) بإعطائهم أدواراً لوجستية لتحظى العملية بالقبول اللازم في العالم العربي، أما روسيا فجرى إقناعها بأن بقاء القذافي قد يقود إلى حرب أهلية مطولة تحول البلاد إلى بؤرة نزاع تصدر “الإرهاب”، وكذلك كان للمصالح المشتركة بين روسيا وفرنسا آنذاك دور في اتخاذ روسيا لقرارها[4].
انتهت مرحلة تدخل حلف شمال الأطلسي بإسقاط القذافي ومقتله على يد الثوار، ووضع ليبيا تحت البند السابع، لتدخل ليبيا مرحلة أصعب محفوفة بمعوقات أكبر، وليتحول التدخل الخارجي من دعم الثوار إلى تفكيكهم، ومن دعم الإرادة الشعبية إلى إقصائها.
من الشرعية الدولية إلى حروب الوكالة
تقلص دور القوى الغربية في مرحلة ما بعد سقوط النظام، حيث فشلت في دعم الانتقال السلمي للسلطة ودعم بناء مؤسسات الدولة، وتبني موقف موحد من الأحداث، وعدم الانحياز لأطراف على حساب أخرى، ومع تسارع الأحداث على الأرض، وارتفاع حدة الاستقطاب السياسي -بتحفيز خارجي- تحول الفاعلون الدوليون الأساسيون إلى فاعلين على الهامش، وبرز دور الأطراف الإقليمية والعربية، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، يليها مصر (ما بعد انقلاب يوليو).
شهدت هذه المرحلة تحولات كبرى مدفوعة بتأثير الأطراف الخارجية الجديدة على الساحة، وبلغ الاستقطاب السياسي ذروته، وسرعان ما تشكلت جبهات جديدة انقسمت فيها المكونات السياسية والعسكرية إلى قسمين: ثورة وثورة مضادة.
فرنسا: إسقاط ديكتاتور لدعم آخر!
كانت فرنسا أول الدول اعترافاً بالمجلس الانتقالي الليبي وأكثرها حماساً لدعم الثورة وإسقاط القذافي، لكنها لم تكن الأكثر حماساً لدعم عملية الانتقال السلمي وبناء مؤسسات الدولة، فقد شهدت مرحلة ما بعد سقوط القذافي وحتى 2015 غياباً شبه كامل لفرنسا، لتعود لاحقاً من الباب الخلفي من خلال دعم الجنرال المنقلب على الشرعية، خليفة حفتر، عسكرياً ولوجستياً.
على عكس معظم القوى الأوروبية والدولية التي فضلت عدم التورط المباشر في فوضى المشهد الليبي، انخرطت فرنسا في دعم معسكر الانقلاب، منطلقة في ذلك من عدة منطلقات، أبرزها:
– قوة الاتجاه المناهض للإسلام السياسي في الإليزيه، الذي تصدره وزير الدفاع الأسبق ووزير الخارجية الحالي جان إيف لودريان.
– علاقة لودريان القوية بكل من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ، حيث كان للودريان دور كبير في تحديد ملامح السياسة الخارجية تجاه ليبيا.
– الأهمية الاستراتيجية واللوجستية للجنوب الليبي بالنسبة إلى باريس.
– تقديم باريس دعم الدكتاتوريات لضمان “استقرار” المنطقة على دعم الحريات.
– المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة مع معسكر الثورة المضادة (مصر، والإمارات).[5]
انجرار باريس خلف حلفائها العرب قادها لإخفاقات كبيرة في المشهد الليبي، فقد خسرت قدرتها على التأثير بممارسة العمل الدبلوماسي، كما تحجَّم دورها بدخول روسيا إلى المشهد بقوة من خلال مجموعة فاغنر، واليوم تقف باريس على هامش المشهد الذي تحول إلى ملعب لكل من روسيا وتركيا ومصر.
مصر: البحث عن أمن النظام وراء الحدود
يَعُدُّ النظام المصري شرق ليبيا مجالاً حيوياً له وعمقاً استراتيجياً يجب تأمينه من “خطر” الإسلام السياسي، لكن دعم نظام السيسي لحفتر يتجاوز الرؤى السياسية المشتركة بينهم المتعلقة بالإسلام السياسي وشكل نظام الحكم، إلى مصالح أكثر عمقاً تتعلق بالجغرافيا، وأمن الحدود، والتاريخ، والاقتصاد، وهي نقطة يفترق فيها مع حليفه الإماراتي، فالنظام المصري يدعم حفتر لتأمين مجاله الحيوي ومصالحه الاقتصادية، وهو مستعد لتقديم تنازلات تضمن استتباب سيطرته على الشرق الليبي الذي صرح السيسي بأنه خط أحمر، في حين تدعمه الإمارات للسيطرة على طرابلس والقضاء على الإسلام السياسي بأي ثمن، فهي في منأى عن العواقب الأمنية للحملات العسكرية الفاشلة والفوضى المترتبة عليها.
تخوف النظام المصري من مغامرات حفتر المدعومة روسياً وإماراتياً ينطلق من علمه بأن أي نتائج عكسية سيتحمل تبعاتها الجيش المصري، وهو عبء اقتصادي وأمني وسياسي كبير على دولة تعاني من تفاقم المشكلة الاقتصادية على المستوى الداخلي، وتحاول حتى اليوم التعامل مع الاحتجاجات المتكررة والمخاطر الأمنية الداخلية، وفي حين أن الإمارات لا تملك مثل هذه التحفظات فإن الدعم الروسي لحفتر جاء لخدمة مصالح مختلفة عن تلك التي يسعى حفتر وحليفه الإماراتي إلى تحقيقها، وهو ما قوَّى الموقف المصري على حساب الموقف الإماراتي في مرحلة ما بعد انسحاب فاغنر من طرابلس.
الإمارات العربية المتحدة: قوة إقليمية صاعدة
شكلت الثورات العربية فرصة للقوى الإقليمية الطامحة إلى التمدد، ورغم أن الإمارات تفتقر إلى المقومات الجيوسياسية والسكانية والتاريخية اللازمة لأداء هذا الدور، فإن أبو ظبي تمكنت من تجاوز نقاط ضعفها هذه بتوظيف مواردها الاقتصادية والمالية وعلاقتها المتينة بالإدارات الأمريكية المتعاقبة وبعض العواصم الأوروبية الفاعلة، وقدمت نفسها على أنها شريك قوي قادر على تحقيق مصالحه ومصالح حلفائه على حد سواء.
ارتكزت الإمارات في سياستها الخارجية ما بعد الثورات العربية على عدد من الركائز، أهمها:
- محاربة الإسلام السياسي ودعم عودة الدكتاتوريات العسكرية.
- بسط السيطرة على الموانئ والطرق البحرية الاستراتيجية.
ومن هذا المنطلق وفرت الإمارات الدعم العسكري والسياسي اللازم لخليفة حفتر، فعلى المستوى العسكري أنشأت قاعدة “الخادم” العسكرية، ووفرت طائرات مقاتلة وطائرات بدون طيار استخدمت في حرب بنغازي 2014، وشاركت طائراتها على نحو مباشر في قصف قوات فجر ليبيا في طرابلس، أما على المستوى السياسي فقد اخترقت العملية السياسية بقيادة بعثة الأمم المتحدة بشراء ذمة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا برناردينو ليون[6].
تميز التدخل الإماراتي بمواكبة التطورات الدولية والتكيف الفعال معها، ففي المرحلة الأولى في ظل حكم إدارة أوباما قدمت أبو ظبي نفسها على أنها شريك يمكن أن يضبط الأوضاع في المنطقة دون إحداث فوضى، ووظفت ملفات أمنية واقتصادية تتقاطع فيها مصالحها مع شركائها لتمرير رؤيتها ومشروعها، كما اتجهت لبناء علاقات خارجية استراتيجية مع الصين وروسيا، وهو ما ضمن لأبو ظبي حرية الحركة في عدد من الملفات المختلف عليها مع الإدارة الديمقراطية.
مع قرب انتهاء ولاية أوباما دخلت السياسات الإماراتية مرحلة جديدة، وتحولت إلى نهج أكثر حدة، حيث ضخت المزيد من الدعم العسكري المباشر بإرسال طائرات مقاتلة حديثة وأخرى بدون طيار، انطلقت من قاعدة “الخادم” العسكرية شرق البلاد، وجلبت مرتزقة من تشاد والسودان ليشاركوا في المعارك العسكرية وتأمين المنشآت النفطية الواقعة تحت سيطرة خليفة حفتر.
شكل صعود ترامب إلى سدة الحكم فرصة للتحرك بحرية أكبر، وهو ما دفع أبو ظبي إلى اتخاذ خطوة جريئة تمثلت في تمويل مجموعة فاغنر الروسية[7]، ودعم الهجوم على الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس في أبريل/نيسان 2019، رغم دعمها لمسار الحوار واستضافتها لمحادثات ناجحة بين رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج وحليفها خليفة حفتر قبلها بشهرين، وهو ما قاد إلى تغيرات جذرية تجاوز تأثيرها المشهد المحلي إلى المشهد الإقليمي والدولي.
فاغنر كوفيد-19 من نوع آخر
بدأت روسيا بالعودة إلى المشهد الليبي تدريجياً عقب توقيع الاتفاق السياسي في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015 في الصخيرات المغربية، حيث زار حفتر موسكو مرتين خلال 2016، التقى فيهما بكل من وزير الدفاع والخارجية وأمين مجلس الأمن، ثم ظهر على حاملة الطائرات “كوزنيتسوف” التي كانت قبالة الشواطئ الليبية، لكن موسكو ظلت بعيدة عن ممارسة دور مؤثر في المشهد السياسي والعسكري حتى 2019، حين هاجم حفتر طرابلس بدعم ما يقارب 1000 مرتزق روسي ممولين إماراتياً، حسب تقديرات قيادة الأفريكوم وفريق خبراء مجلس الأمن[8].
ظهور مرتزقة فاغنر كان بمنزلة إعلان فصل جديد في قصة التدخل الخارجي في ليبيا، فعودة روسيا للمشهد عبر فاغنر غيرت الحسابات الأمريكية والأوروبية، وأثرت في الاستقرار في إفريقيا ككل، حيث استخدمت الأراضي الليبية منطلقاً لرحلات فاغنر للمحيط الإفريقي مثل: إفريقيا الوسطى ومالي، كما طغى على الدور الإماراتي وقلصه نسبياً، وقد كان لوجود فاغنر دور في مقتل إدريس دبي في تشاد، حيث حظيت قوات المعارضة التشادية بدعم غير مباشر من فاغنر.
على الجهة الأخرى فتح التدخل الروسي الباب لتركيا التي تبحث عن مدخل للملف الليبي والقارة السمراء، فقد جاء التدخل التركي لدعم حكومة الوفاق في التصدي لهجوم حفتر المدعوم روسياً، وقد أدى هذا التدخل إلى توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس، وهو مكسب استراتيجي لأنقرة في صراع النفوذ والشرعية الدائر في البحر المتوسط.
تركيا.. اللعب فوق الطاولة
يتميز الدور التركي عن بقية التدخلات الخارجية في الملف الليبي بنظاميته وشرعيته السياسية، فالتدخل جاء استجابة لطلب الحكومة المعترف بها والتي لم تتلقَّ أي دعم من المجتمع الدولي، كما أن قرار التدخل مر بالبرلمان التركي وحظي بالشرعية الداخلية اللازمة، في حين ما يزال النظام المصري والإماراتي وروسيا وفرنسا ينكرون تورطهم في دعم الانقلابات والحروب منذ 2014.
تسعى تركيا لزيادة نفوذها في إفريقيا من خلال تعزيز الروابط التجارية والاقتصادية والدبلوماسية بدول القارة، وتطمح لتأسيس ممر تجاري يربطها بأوروبا بالشراكة مع إيطاليا[9]، لكنها تواجه صعوبات في ذلك من جراء قوة العلاقات الاقتصادية والسياسية بين كل من مصر والمغرب وبين ألد أعداء تركيا الإقليميين (فرنسا، والإمارات).
جاء التدخل في ليبيا فرصة تاريخية لتركيا لتعزز من حضورها لا في إفريقيا فقط وإنما في البحر المتوسط الذي تخوض فيه صراعاً مصيرياً مع اليونان وفرنسا، ووفر لها غطاء لتوسيع بصمتها العسكرية من خلال الحضور العسكري في كل من قاعدة الوطية الجوية ومصراتة والخمس وطرابلس، ورفع مبيعات السلاح التركي متمثلاً في طائرات “بيرقدار” الشهيرة، والعربات القتالية المدرعة، بالإضافة لإتاحة الفرصة للاقتراب أكثر من ملف الهجرة “غير الشرعية” المهم لأوروبا.
خاتمة
يمكن تقسيم التدخل الخارجي إلى ثلاث مراحل أساسية:
– الأولى: مرحلة التدخل الأممي أو الدولي، وهي مرحلة حظي التدخل فيها بإجماع دولي وقبول داخلي نسبي، وانتهت بإسقاط النظام.
– الثانية: مرحلة ملء الفراغ، وهي مرحلة شكلت فرصة سانحة للدول الإقليمية الطامحة إلى زيادة نفوذها وتأثيرها للتدخل غير المباشر. وشهدت تقويضاً لمكتسبات الثورة وتحول القرار السياسي من الداخل إلى الخارج، وقد انتهت مع مغادرة ترامب الحكم ودخول روسيا وتركيا للمشهد.
– الثالثة: مرحلة التدخلات المباشرة وتراجع تأثير كل من الإمارات وفرنسا، وهي مرحلة شهدت ارتفاعاً مهولاً في حضور المرتزقة والقوات الأجنبية في البلاد، فروسيا لديها- بشكل غير رسمي- ما يقرب من 2000 مقاتل يتبعون مجموعة فاغنر، ومئات من المجندين السوريين، كما تملك طائرات مقاتلة حديثة، ومنظومات دفاع جوي رابضة في قاعدة الجفرة[10].
على الجهة الأخرى أرسلت تركيا مئات من الخبراء العسكريين والمدربين، وآلافاً من المقاتلين السوريين التابعين لها، وتملك طائرات بدون طيار “بيرقدار” رابضة في عدد من المواقع في إقليم طرابلس.
منذ انطلاق المرحلة الثانية من التدخل الخارجي تعقد الوضع في ليبيا تعقداً كبيراً، حيث تحولت البلاد إلى ملف على طاولة القوى الإقليمية والدولية، خصوصاً بعد دخول روسيا إلى المشهد، وهو ما استدعى اهتمام الإدارة الأمريكية بالملف الليبي بعد غياب طويل، حيث شهدنا بيانات رسمية صادرة عن القيادة الإفريقية تدين الوجود الروسي، وتكشف عن تمويل الحليف الإماراتي للمرتزقة الروس بعد تجاهل مطول للدور الإماراتي، ودعم التدخل التركي، ثم إصدار الكونجرس الأمريكي قانون استقرار ليبيا الذي يستهدف الوجود الروسي بشكل كبير، ثم أخيراً تحركات وزارة الخارجية الدافعة باتجاه إجراء الانتخابات.
إن تغاضي المجتمع الدولي عن تدخل الأطراف الإقليمية المناوئة للتغيير الذي جلبته الثورات العربية خلال مرحلة 2013-2019 بدعوى تقديم الاستقرار على الديمقراطية وحقوق الإنسان، قاد إلى ما نشاهده اليوم من فوضى سياسية وتهديدات أمنية وحدودية ونشاط حركات التمرد، وانعكاس ذلك على المحيط الإفريقي.
كما قاد إلى تحجيم دور الأطراف الأوروبية في المشهد الليبي والبحر المتوسط، وملفات أخرى مهمة مثل الهجرة، ومكافحة الإرهاب، وطرق التجارة، وإعادة الإعمار، والطاقة. أيضاً عزز الحضور التركي والروسي في كل الملفات السابقة. وهذه كلها نتائج عكسية لم تكن القوى الأوروبية أو الولايات المتحدة تتوقع أن يقودها حلفاؤها العرب إليها.
[1] تقارير فريق خبراء مجلس الأمن 2012-2019.
[2] الجامعة العربية تدعو مجلس الأمن لفرض حظر جوي على ليبيا، DW، 12/3/ 2011.
[3] A Promised Land, Barack Obama, Crown New York, 2020.
[4] يوسف لطفي، الدور الروسي في ليبيا: التاريخ والمقاربة والسلوك، منتدى العاصمة للدراسات، 5/4/2020، ص15.
[5] Jelal Harchaoui, How France Is Making Libya Worse: Macron Is Strengthening Haftar, Foreign Affairs, September-21-2017.
[6] Randeep Ramesh, UN Libya Accepts 1000 pounds –a-day job from backer of one side in Civil War, The Guardian, 4-Nov-2015.
[7] Amy Mackinnon and Jack Detsch, Pentagon says UAE Possibly funding Russia’s Shadowy Mercenaries in Libya, Foreign Policy, November-30-2020.
[8] Wagner Shadowy Russian Military Group fighting in Libya, BBC News, 7-may-2020.
[9] Michel Tanchum, Italy And Turkey’s Europe To Africa Commercial Corridor, Austria Institute For European and Security Policy, 25-Aug-2020.
[10] New evidence of Russian aircraft active in Libyan airspace, U.S Africa command public affairs, 18-Jun-2020.
.
رابط المصدر: