التدخل الروسيّ في لبيبا والتأسيس لتواجد عسكريّ مُستَدام

مهّدت الثورة الليبية في عام 2011 الطريقَ أمام انتشار عدد كبير من الجماعات المسلّحة حيث تأوي لبيبا أعداداً كبيرة من تلك الجماعات التي تتمتّع بدرجةٍ عالية من الاستقلالية ، ففي أعقاب الإطاحة بنظام معمر القذافي نتيجة لثورات الربيع العربي انزلقت البلاد إلى حرب أهلية طويلة الأمد وباتت ليبيا عرضة للنفوذ الأجنبي مع استمرار القتال والتناحر السياسي وغياب الديمقراطية والجمود الذي يعتري البلاد ، فبداية من عام 2014 عانت ليبيا من حالة من الاضطرابات السياسية المستمرة وما يرتبط بها من أعمال عنف مسلح  مما أسفر عن تقسيم ليبيا إلى قسمين متنافسين تحكمهما إدارات حكومية منفصلة ، وخلال الحرب الأهلية التي دامت أكثر من عقد من الزمن في ليبيا قامت العديد من القوى الأجنبية التي تدعم القوى المتنافسة وتتنافس على السيطرة على الموارد الطبيعية بإغراق البلاد بالأسلحة والمرتزقة ، وتعد روسيا لاعب رئيسي في الدراما الليبية حيث دعمت روسيا السلطات في شرق البلاد وجيشها الوطني الليبي ، وتأسيسا على ما سبق ستنقسم هذه الدراسة إلي ثلاثة أجزاء تبدأ بفحص متعدد المستويات لتحديد الأهداف والدوافع وراء اهتمام موسكو بليبيا ثم تستعرض الدراسة الدور الروسي في ليبيا وبعد ذلك تكشف الدراسة المكاسب التي حققتها روسيا في ليبيا .

اولا : الدوافع الروسية تجاه ليبيا

تتمتع ليبيا بموقع استراتيجي هام على البحر المتوسط فضلا عن امتلاكها احتياطيات نفطية من بين الأكبر في القارة السمراء واحتياطيات وفيرة من الذهب ، وتعداد سكاني لا يتجاوز 6.5 مليون نسمة وموارد طبيعية هائلة وموقع تحسد عليه وساحل ذو إمكانات هائلة ، وقد بدأت روسيا بوضع ليبيا أمام عينيها منذ أمد بعيد فقد رأتها كمنطقة نفوذ بالبحر المتوسط في قلب العالم ومركزا للصراعات الدولية قبل ظهور صراع امتلاك الطاقة الذي زاد من حده الصراعات واتساعها ، فخلال “مؤتمر بوتسدام” الذي عقد في برلين 1945 خلال الحرب العالمية الثانية حاول “جوزيف ستالين” أخذ الوصاية على إقليم طرابلس في ليبيا دون جدوى حيث رفضت الولايات المتحدة هذا الأمر خوفاً من أن تشكل ليبيا نقطة انطلاق للمد الشيوعي في أفريقيا ، وفي سبعينيات القرن الماضي انفتحت العلاقات بين موسكو ومعمّر القذّافي أكثر فأكثر حيث وفّرت روسيا كميّات هائلة من المعدّات العسكرية لتعزيز أنشطة القذافي العسكرية بما فيها بناء قواعد صاروخية أفضل .

وبعد تولي بوتين الرئاسة في عام 2000 قام بتحسين العلاقات مع ليبيا مرة أخرى فقد تحسنت تلك العلاقات مرة أخرى بعد زيارة بوتين للقذافي عام 2008 حيث أسقط بوتين أكثر من 5 مليارات دولار من الديون الليبية مقابل عقد صفقات بمليارات الدولارات في مجال الطاقة والسلاح والسكك الحديدية ، وفي أعقاب الأطاحة بنظام القذافي تزعزعت العلاقات بين روسيا وليبيا وذلك بعد استعمال الفيتو الروسي لدى التصويت على القرار 1973 في مجلس الأمن والذي فتح باب التدخل العسكري أمام حلف شمال الأطلسي في ليبيا ، وفي أعقاب عودة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرئاسة في عام 2012 أتهم الغرب بتدمير ليبيا وقتل الرئيس الليبي معمر القذافي وتجاوز قانونية القرار 1973 الذي دعا إلى حماية المدنيين وليس تغيير النظام  .

وفي عام 2015 ظهر المشير خليفة حفتر على الساحة الليبية وسعت الدبلوماسية الروسية بنشاط إلى إعادة تنشيط روابطها بليبيا حيث كانت تدعم حفتر سرا وتنفي علنا أي علاقة به ، وتهدف روسيا إلى تأسيس وجود ثابت ودائم في ليبيا قريب من ساحل المتوسط الشرقي يضاف إلى وجودها المتسع في سوريا وبالتالي دخلت روسيا في الصراع الليبي عن طريق قوات “فاغنر” الأمنية الخاصة وهي قوات غير نظامية ليست تابعة للجيش الروسي ولكنها لا تقوم بعمليات خارج روسيا من دون موافقة رسمية عليها ، ورغم ذلك فلقد عملت روسيا على التواصل مع جميع الجهات الفاعلة في الصراع الليبي سواء من خلال حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج المعترف بها دوليا ومن خلال الجنرال المتقاعد خليفة حفتر وذلك حتى يتمكن من وضع نفسه كصانع قرار بالصراع الليبي ، وتتألف استراتيجية بوتن الكبرى في الأساس من شقين وهما ؛

أولاً : تريد روسيا أن تقدم للعالم بديلاً للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، من خلال استعادة التعددية القطبية إلى النظام الدولي.

ثانياً : يريد بوتن أن يضمن الاعتراف الحقيقي بروسيا باعتبارها قوة عظمى ــ مساوية للولايات المتحدة أو الصين ــ والتي يتم الاستعانة بمشورتها مرة أخرى في ما يتصل بالقضايا العالمية .

ثانيا : الدور الروسي في ليبيا

على الرغم من أن ليبيا لا تشكل مصلحة حيوية لروسيا إلا أن روسيا تنجذب إلي ليبيا لأسباب اقتصادية وجيواستراتيجية ، فبعد سيطرة روسيا على مساحات واسعة من سوريا توجهت أعينهم إلي ليبيا لإيجاد مؤطى قدم لهم ، وقد بدأت روسيا بإرسال الأسلحة والمعدات العسكرية والمرتزقة المعروفين بمجموعة فاغنر التى غالبــا مــا توصــف بأنهـا شـركة خدمـات عسـكرية خاصـة تعمـل بشـكل غيـر رسـمي ولكن بتنسـيق مـع الحكومـة الروسـية وذلك لمساندة خليفة حفتر الذي يسيطر على شرق ليبيا وذلك في مواجهة حكومة الوفاق والمدعومة من الغرب ، وشكلت مجموعة فاغنر حضوراً واسعاً في تصريحات القادة في دول عديدة منحها بعداً يتجاوز تأثيرها كشركة خاصة لجلب المرتزقة إلى أداة من أدوات التدخل الروسي المباشر في ليبيا وقد تركز الدور العسكري الروسي في ليبيا على تدريب قوات الشبكة المحلية على التعامل مع الأسلحة الروسية وأسلحة ما بعد الاتحاد السوفيتي كما قد نفذت قوات فاغنر الروسية عمليات قتالية نشطة في طرابلس لدعم هجوم الشبكة المحلية المتوقف على العاصمة وقلب تدخل المرتزقة الروس من قوات فاغنر ميزان الحرب لصالح قوات المشير حفتر وكاد أن يؤدي إلى سقوط حكومة طرابلس .

وقد أصبح وجود مجموعة فاغنر إلى جانب الجيش الوطني الليبي واضحًا لأول مرة في بداية حصار طرابلس في أبريل 2019 ومع ذلك، تنشط المجموعة هناك منذ عام 2018 على الأقل حيث تسيطر على حقول النفط الاستراتيجية وتقدم الدعم الفني للجيش الوطني الليبي، فقد نشطت فاغنر بعد الهجوم العام الذي قاده الجيش الوطني الليبي لاستعادة السيطرة على ليبيا في أبريل 2019 حيث كانت أنشطتها في البداية ضئيلة خلال المرحلة الأولى التي شملت جنوب البلاد ثم احتدّت بعد الاستيلاء على سبها والهجوم على طرابلس ، ويواصل مقاتلو فاغنر دعم حفتر فيما يُسمح لهم باستخدام البلاد بإدارة ثلاث قواعد جوية والسماح لهم باستخدامها لنقل كميات الذهب المستخرجة من المناطق الليبية الخاضعة لسيطرة فاغنر إلى روسيا التي تخضع لعقوبات غربية شديدة بسبب غزوها العسكري لأوكرانيا في فبراير عام 2022 ، وعلى الرغم من الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا الا أن ذلك لم يجعل روسيا تخفض من مهامها في ليبيا فلا زالت روسيا في خلال العامين 2023- 2024 تسيطر على مرافق إنتاج النفط الرئيسية الليبية وبالتالي تمكين الكرملين من التحكم والتأثير على أسعار النفط العالمية ، كما إن استمرار الوجود الروسي في ليبيا يوضح اقتناع الكرملين بأن شمال أفريقيا منطقة ذات أهمية حيوية مع موارد هائلة غير مستغلة يمكن أن تساعد اقتصاد روسيا في الأمد البعيد ، ويرجع تعزيز الوجود العسكري الروسي في ليبيا لتلبية عدة احتياجات وهى ؛

  1. السيطرة على البنية التحتية الاستراتيجية
  2. تقديم المشورة لقوات الأمن المحلية وتوفير المعلومات الاستخبارية
  3. التأثير على الرأي العام من خلال وسائل التواصل الاجتماعي

ثالثا : المكاسب الروسية في ليبيا

يعد العامل الإقتصادي هو من الأسباب الرئيسية للدعم الروسي لقوات حفتر حيث ترتبط روسيا بليبيا بتاريخ طويل من المصالح الإقتصادية ، ففي عام  2008ذهب فلاديمير بوتين إلى حد إعفاء ديون ليبيا والتي كانت تبلغ حوالي 4.5 مليار دولار مقابل شراء أسلحة روسية بقيمة 3 مليار دولار كما وقعت شركة السكك الحديدية الروسية وحكومة القذافي عقدًا بقيمة 2.6 مليار دولار لبناء خط سكة حديد بطول 550 كيلومترًا بين سرت وبنغازي وكانت تستفيد موسكو أيضًا من 150 مليون دولار في مشاريع البناء بالإضافة إلى ما يقدر بـ 3.5 مليار دولار في صفقات قطاع الطاقة ، وكنتيجة مباشرة للانتفاضة الليبية في عام 2011 انسحبت روسيا من ليبيا وخسرت عقودًا تقدر قيمتها بنحو تسعة إلى عشرة مليارات دولار ، وحاليا فإن الشركات الروسية الكبرى ومعظمها من قطاع النفط والغاز مثل “تاتنفت” مهتمة بالعودة إلى السوق الليبي .

وتعطي روسيا اهتماما كبيرا نحو ليبيا كونها تمتلك 46.4 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد وهو الأكبر في إفريقيا والعاشر عالمياً ، كما أن ليبيا مع موانئها ومحطاتها النفطية كانت على مدى عقود هى المصدر الرئيسي للطاقة إلى إيطاليا وجنوب فرنسا وبلدان أخرى في جنوب أوروبا ، ويرجع ذلك لأن تكلفة استخراج البترول في ليبيا وتوصيله إلى الأسواق الأوروبية منخفضة مقارنة بمصادر أخرى مما يجعل ليبيا أحد المنافسين لروسيا في السوق الاوروبية وعلاوة على ذلك كلما توقفت ليبيا عن إنتاج النفط ترتفع الأسعار العالمية، مما يعود بالمصلحة على الروس بشكل غير مباشر وبالتالي تأمل موسكو في لعب دور متزايد في الاقتصاد الليبي .

كما أن الوجود الروسي في ليبيا يمنحها نفوذا على أوروبا حيث أن ليبيا تقع في الجزء الأوسط من شمال أفريقيا وتبعد حوالي 390 ميلاً بحريًا من مالطا و 486 ميلًا بحريًا عن جزيرة لامبيدوزا الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا ولها آلاف الكيلومترات من الحدود المشتركة مما يسهل عبورها مع الدول الإفريقية المجاورة ، لذا فإن تأثير ليبيا على التطورات خارج حدودها وداخلها مهم جدا فموقع ليبيا الرئيسي يضعها على مفترق طرق الساحل في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا وكما هو الحال في مناطق الصراع الأخرى، لا يبدو أن موسكو مهتمة بالتوصل إلى اتفاق سلام في ليبيا، طالما أنها تستطيع أن تتفوق على الغرب بشكل استراتيجي مع ضمان الوصول إلى الموانئ والطاقة ، كما أن الحضور الروسي في ليبيا سيكسبهم نفوذًا كبيرًا على أوروبا على المدى الطويل وسيتحكم الروس بملفين استراتيجيين بالنسبة للأوروبيين الاول ملف الطاقة والثاني ملف اللاجئين الذي لا يزال مصدر قلق كبير لكثير من الأوروبيين .

كما يعد التدخل الروسي في ليبيا مقدمة للتمدد إلى القارة الافريقية فدوافع روسيا الاقتصادية واضحة للدخول إلى أفريقيا إذ لديها نقص في بعض المعادن مثل المنغنيز والبوكسيت والكروم وكلها مهمة للصناعات الروسية كما أن لدى روسيا خبرة في قطاع الطاقة يمكن أن تقدمه للدول الغنية بالبترول في أفريقيا ، فروسيا لديها مشاريع في الكاميرون وغانا ونيجيريا وتتطلع إلى الاستحواذ على حصة في جمهورية الكونغو وتعرض روسيا أيضًا تكنولوجيا الطاقة النووية للعديد من البلدان الأفريقية بما في ذلك بناء أول محطة نووية في مصر بتمويل قرض بقيمة 25 مليار دولار لذلك تسعى روسيا لأن تكون جزءً من المعادلة في ليبيا وتثبيت قواعد عسكرية لها على سواحلها، لتكون نقطة انطلاق روسية إلى العمق الإفريقي وحجر أساس لحماية مصالحها  .

ختامًا

سمح تراجع الدور الأمريكي في الكثير من القضايا على الساحة الدولية لعدد من دول مثل روسيا والصين وتركيا أن تأخذ دوراً أوسع في دائرة التاثير على النظام الدولي وجعلهم أقدر على التدخل في الصراعات الاقليمية والدولية وتحقيق تواجد عسكري والتوسع في العديد من الدول ، فقد أعطى التراجع الامريكي لروسيا دفعة أكبر في التواجد في ليبيا وتحقيق مصالحها وتثبيت تواجدها في الشرق الاوسط وشمال افريقيا وتحقيق مناورة أكبر تجاه الدول الأوروبية في ملفات الطاقة واللاجئين ، وقد أستغلت روسيا عدم التوافق في الرؤى السياسية لدول الاتحاد الأوروبي تجاه الأزمة لصالحهم مما يقوي موقفهم في ليبيا ويضعف موقف دول الاتحاد الأوروبي .

كما إن وقوف موسكو إلى جانب قوات حفتر في الأزمة الليبية جعلها أقرب إلى دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وكذلك مصر، وهذا سوف تعزز روسيا موقفها وتواجدها في الشرق الأوسط من خلال كسب تأييد الدول المهمة في المنطقة ، مما سيحقق مكاسب لروسيا في كافة المجالات من خلال مشاركتها العسكرية والدبلوماسية النشطة في شؤون المنطقة ، كما تسعى روسيا من تدخلها في ليبيا لتحقيق عدة مصالح اقتصادية خاصة في قطاعات البترول والبنية التحتية وإعادة الاعمار مستقبلاً ، وعليه فإن تمكن الروس من تعزيز حضورهم في ليبيا سيمنحهم قدرة أكبر على الوصول إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وستكون موانئ ليبيا العميقة في طبرق ودرنة مفيدة للبحرية الروسية لوجيستياً وجيوستراتيجياً لا سيما بالاشتراك مع قاعدتهم في طرطوس السورية .

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M