محمد صلاح الدين
في استعراض للقوة، أطلق جيش التحرير الشعبي الصيني PLA مناورات بالذخيرة الحية في محيط مضيق تايوان حسبما أعلنت قيادة عمليات المسرح الشرقي بعد يوم واحد من زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى الجزيرة التي تعدها بكين تابعة لها، رافضة أي محاولات لاستقلالها، مؤكدة دائمًا الإبقاء على مبدأ الصين الواحدة.
وبحسب وكالة الأنباء الرسمية للصين “شينخوا”، فإن التدريبات تشمل 6 مناطق بحرية وجوية تحيط تايوان من الجهات الأربع، وتستمر من الرابع حتى السابع من أغسطس الجاري، وتستخدم فيها قطعًا من قواتها البحرية والجوية، إضافة إلى إطلاق صواريخ باليستية عبرت الجزيرة لتثير ردود أفعال دولية مختلفة.
أهداف المناورات
رغم أن هذه ليست المرة الأولى التي تجري فيها الصين مناورات في مضيق تايوان -وهو ما سنتحدث عنه لاحقًا- إلا أن هناك عدة أهداف ترغب بكين في تحقيقها عبر هذا الشكل من الاعتراض على زيارة بيلوسي يلخصها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS الأمريكي في 4 أهداف رئيسة هي:
أولًا: فرض تكلفة سياسية على تايوان، وخفض التأييد لرئيسة تايوان تساي إنغ وين، وتقويض الروح المعنوية لسكان الجزيرة، وأن تايوان ستتحمل تبعات العقوبات الصينية الناتجة عن التقارب الأمريكي التايواني.
ثانيًا: هذه التدريبات تشكل جزءًا من الردع الصيني لجهود تايوان والولايات المتحدة وحلفاء واشنطن في المنطقة، وإظهار قدرة بكين على فرض مبدأ الصين الواحدة أمام المجتمع الدولي، وإظهار مدى قدرة الصين على التصعيد لتلك الدول التي تظهر تأييدًا أو دعمًا للجزيرة. إضافة إلى ذلك فإنها ترسل رسالة إلى اليابان وإلى حد ما الفلبين بإطلاق صواريخ تجاه مناطق بحرية تطالب بها الدولتان.
ثالثًا: أن هذه التدريبات تشكل عملية مراجعة للجيش الصيني على كيفية إجراء عمليات عسكرية تمكنه من فرض حصار أو احتلال الجزيرة، بل عمليات منع “طرف ثالث” من التدخل في النزاع بين الصين وتايوان. يتضح هذا جليًا في البيان الذي أصدرته وزارة الدفاع التايوانية بعبور عدد من الطائرات والقطع البحرية الصينية للخط الفاصل “غير الرسمي” الذي يقسم مضيق تايوان فيما يبدو أنها محاكاة لتدريبات تنفيذ هجوم على الجزيرة.
رابعًا: من خلال التدريبات، تهدف الصين إلى خلق وضع راهن جديد في مضيق تايوان -هذه أيضًا وجهة النظر الأمريكية- فتسعى إلى محو الخط الفاصل الذي يقسم المضيق ويحجم تحرك قواتها في الجانب الغربي من المضيق فقط، علاوة على ذلك فإنها قد تطمح إلى إرساء وضع جديد في المضيق لا تراعي فيه الصين مطالب تايوان بمجال بحري وجوي خاص بها. ويتضح ذلك بتعدد اختراقات القوات الجوية الصينية عشرات المرات للمجال الجوي لتايوان خلال الأيام التي شهدت المناورات وحتى خلال الفترة التي سبقت زيارة بيلوسي.
بين أزمتي 1996 و2022
اشتعلت أزمة بين الولايات المتحدة والصين عام 1995 حينما سمحت واشنطن للرئيس التايواني لي تنغ هوي “أبو الديمقراطية التايوانية” بالحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة لحضور مؤتمر للخريجين في “جامعة كورنيل” التي حصل فيها على الدكتوراه، ليس هذا فحسب بل تحدث في محاضرة بجامعة كورنيل عن تجربة التحول الديمقراطي لتايوان.
لتبدأ الصين على إثر ذلك إطلاق صواريخ باتجاه تايوان في يوليو من عام 1995، ثم أجرت مناورات عسكرية في أغسطس من العام نفسه. وعادت لتطلق صواريخها مرة أخرى في مارس من عام 1996 قبيل أول انتخابات ديمقراطية في تايوان؛ لترسل رسالة للناخبين لعدم انتخاب لي تنغ هوي حيث وصلت هذه الصواريخ بالكاد إلى المياه الإقليمية لتايوان.
ورغم أن إطلاق الصواريخ كان هو أسلوب الاعتراض واستعراض القوة لبكين، إلا أن أعداد الصواريخ اختلفت في كل مرة؛ ففي عام 1995 أطلق جيش التحرير الشعبي الصيني 6 صواريخ فقط تجاه تايوان، في حين أن اليوم الأول من التدريبات التي أعقبت مغادرة بيلوسي للجزيرة شهد إطلاق 16 صاروخًا يلحظ أنها طارت لمسافات طويلة، فقد أعلنت اليابان سقوط 5 من هذه الصواريخ في المياه الاقتصادية الخاصة بها، من بينها 4 صواريخ عبرت فوق جزيرة تايوان من بينهم صاروخ عبر فوق العاصمة تايبيه بحسب صحيفة إيكونومست، وقد أوضحت وزارة دفاع تايوان أن جيش التحرير الشعبي الصيني قد أطلق 11 صاروخًا باليستيًا من طراز دونغ فينغ.
الأمر الثاني هو أن المناطق التي تجري فيها الصين تدريباتها هذه المرة أقرب من حيث المسافة إلى تايوان من تلك التي أجرتها عام 1996إضافة إلى أنها تحيط بالجزيرة من الجهات الأربع. والأمر الثالث هو عدم إعطاء أي تنبيه مسبق قبيل إجراء هذه التدريبات، فقد كشف البروفيسور المتخصص في الشؤون الصينية أندرو سكوبل في بحثه المتخصص بأزمة مضيق تايوان 1996 أن الصين أعطت إشعارًا مسبقًا للولايات المتحدة قبل إطلاق الصواريخ في مارس 1996عبر إرسال نائب وزير الخارجية ليو هواتشيو الذي يعد أحد المؤثرين في صناعة السياسة الخارجية الصينية في هذه الفترة، للتأكيد أن بكين تخطط فقط لتدريبات عسكرية واختبارات صواريخ، وليس هجومًا مباشرًا على تايوان.
ولأن ما بين الأزمتين ربع قرن من الزمان تقريبًا تتغير معها تكنولوجيا استخدام الأسلحة وقدراتها، فربما استخدمت الصين سلاحًا جديدًا يتمثل في الهجمات السيبرانية، فبحسب وكالة الأنباء التايوانية قد تعرضت المواقع الرسمية لوزارتي الدفاع والخارجية إضافة إلى الرئاسة لهجمات هجوم رفض الخدمة الموزع (DDoS) حيث يثقل المهاجم الموقع الإلكتروني بطلبات مهولة للحصول على المعلومات، وبالتالي يمنع المستخدمين الآخرين من الوصول للمعلومات، وفي هذا الصدد أشارت الخارجية التايوانية إلى أن هذه المحاولات أتت من حسابات في روسيا والصين.
تعليق التعاون والعقوبات اختلاف آخر
عطفًا على ما سبق ذكره، فإن بكين اتخذت مؤخرًا عددًا من الإجراءات التي من شأنها زيادة صعوبة التواصل بين الولايات المتحدة والصين فيما يخص الجانب العسكري ما يزيد احتمالات الحوادث العسكرية العرضية، فأعلنت إلغاء المحادثات الصينية الأمريكية على مستوى قادة مسارح العمليات، وتنسيق سياسات الدفاع، إضافة إلى اجتماعات اتفاقية التشاور البحري العسكري.
وبحسب وزارة الخارجية الصينية، فقد علقت بكين التعاون مع واشنطن في قضايا تحظى باهتمام مشترك أو ما يتعدى لقضايا تحظى باهتمام دولي وهي إعادة المهاجرين غير الشرعيين وتقديم المساعدة القانونية في المسائل الجنائية، ومكافحة الجريمة متعدية القوميات، ومكافحة المخدرات، والتغير المناخي. وفي سياق متصل، فرضت الصين عقوبات مباشرة على رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وأفراد أسرتها المباشرين وفقًا للقوانين ذات الصلة لجمهورية الصين الشعبية.
رد الفعل الأمريكي
تتجه الولايات المتحدة إلى العمل على عدم التصعيد أمام الصين، لكن في الوقت ذاته ترسل مجموعة من الرسائل أبرزها اعتبار التدريبات التي تجريها بكين نوعًا من الاستفزاز واتهامها بمحاولة تغيير الوضع الراهن في مضيق تايوان، داعية إياها إلى التوقف الفوري عن هذه المناورات.
من الناحية العسكرية، فقد أمر الرئيس الأمريكي جو بايدن بالإبقاء على حاملة الطائرات الأمريكية يو إس إس رونالد ريجان في بحر الصين الجنوبي لفترة أطول مما كان مقررًا لها من أجل لمراقبة الوضع، وهنا ينبغي الإشارة إلى تصريح وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن بأن الولايات المتحدة “ستظل تبحر وتطير حيثما يسمح القانون الدولي، بما يتفق مع نهجنا طويل الأمد للعمل مع الحلفاء لدعم حرية الملاحة والتحليق”.
في الوقت نفسه، قررت واشنطن للمرة الثانية تأجيل اختبار صاروخ باليستي عابر للقارات يدعى Minute Man III؛ تجنبًا لمزيد من التوترات مع الصين، أما التأجيل الأول فكان في مارس الماضي؛ تجنبًا لمزيد من التوتر مع اندلاع الحرب في أوكرانيا.
الخلاصة
رغم أنها ليست المرة الأولى التي تقوم بهذا الأمر، اتخذت الصين قرار إجراء المناورات العسكرية حول جزيرة تايوان في أعقاب زيارة بيلوسي كاستعراض للقوة وتحقيق الردع وبيان قدرة بكين على فرض سيطرتها على مضيق تايوان وتغيير الوضع القائم، مع تطوير الأدوات التي تستطيع من خلالها تحقيق أهدافها. ولكن يبقى قرار الصين التوقف عن التعاون مع الولايات المتحدة في عدد من المجالات لا سيما تلك المرتبطة بالتنسيق العسكري هو التبعة الأخطر على الإطلاق؛ نظرًا إلى احتمالية الحوادث العسكرية العرضية. في الوقت نفسه، تعمل الولايات المتحدة على إدانة التدريبات العسكرية ومراقبة الموقف مع محاولة تجنب القيام بأي أفعال تؤدي إلى مزيد من التصعيد بين التنين الصيني والعم سام.
.
رابط المصدر: