بقلم: جاك أتالي (Jaque ATTALI)-ترجمة: خاليد جوهري
أمام طوفان الأكاذيب والتشهير والقذف التي تُمطر العالم هناك العديد من الأشخاص في شتّى الأنحاء يملكون الشجاعة على قول الحقيقة والصراع وحتى الموت من أجلها، ويبقى المدرسون والإعلاميون في مقدمة هذه المعارك، لكنهم لا يملكون سوى حظوظ ضئيلة لإحرازها في الأنظمة الدكتاتورية، فهم مجبرون على تدريس وتعليم ما تريد قوله السلطات للشعوب.
أما في الأنظمة الديمقراطية النادرة هناك أيضا العديد من العوائق تعترضهم في معركتهم، ذلك أن شبكات التواصل الاجتماعي والفقر والمحيط الأسري تشكل في العديد من البلدان والأماكن مصاعب وخيمة أمام بلوغ الحقيقة، ولكي تحافظ على الاستمرارية تختار العديد من وسائل الإعلام الجانب الأسهل كالترفيه والفضائح عوض الاستقصاء والتبيُّن والبحث عن الكلمة الدقيقة والصحيحة وعن الحقيقة، وكذلك العديد من الأساتذة في هذه البلدان يتحملون مسؤولية جسيمة حيث تجد يناهز ستين تلميذا في القسم، ولا يملكون الوقت لتدريس الضروري المتمثل في منهجية البحث عن الحقيقة، إذ لا أحد يعتبر حرّا إلا إذا تعلم التمييز بين الصحيح والخطأ، وهذا ليس بالأمر الهيّن.
سيقول بعضهم بداية أنه لا يجب الخلط بين الصحيح في العلوم الفيزيائية بنظيره في العلوم الاجتماعية، لست متأكدا من ذلك، فبالنسبة لي لا شيء صحيح إلا في العلم، والواقع الاجتماعي متاح تماما للعلم.
أولا، الصحيح هوما يمكن برهنته بالمنطق أو ما يمكن تبيانه بأحداث أو إحصائيات أو بتجارب تثبت صلاحية استدلال ما في بعض الظروف المحددة بوضوح، أي التأمل المنطقي؛ ولا يجب علينا الاقتصار على معدل الترابط (la corrélation) في العلم كما في كل المجالات الأخرى الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية أو السياسية (إذا كان هناك ظاهرتان تتطوران في نفس الاتجاه فإن من الضروري أن تكون إحداهما هي نتيجة للأخرى) وكذلك القليل من الصُّدَف (ظاهرتان لهما نقطة مشتركة أو تحدثان في نفس الوقت لهما لزوما أسباب مشتركة).
ومع ذلك هذا فعلا هو ما نقوم به في الغالب، خاصة في العلوم الاجتماعية وبشكل أكثر في النقاشات العمومية، إذ لا ينبغي الاقتصار فقط على إعلان أن الحقيقة ليست سوى نتيجة لميزان القوى وأنه قد توجد حقيقة مختلفة لكل طبقة اجتماعية، حيث في كل المجالات تتطور الحقيقة بتطور البحث الذي يُقِيم دائما أدلة مؤقتة لنظرية يجب اعتبارها صحيحة ما دامت نتائجها قابلة للتحقّق ولا توجد أية ظاهرة تنفيها، وكذلك في مجال العلوم الصعبة كما هو الحال في كل المجالات الأخرى، الصحيح ليس إلا نتيجة مؤقتة لإجماع الأغلبية بين أكبر عدد ممكن من الخبراء الصادقين والمستقلين عن السلطات والكفاءات المعترف بها على نطاق واسع، ليس أكثر.
ثانيا، ينبغي توضيح أن العلم والدِّين لا يخضعان لنفس معايير المشروعية: العقل والعقيدة يشكلان مجالين مختلفين كليّا ومتوافقين تماما، شريطة تطبيق المبادئ المعروفة منذ أريسطو والتي صاغها بشكل رائع في القرن الثاني عشر الفيلسوف الكبير الأندلسي المسلم ابن رشد: “إن التمحيص لا يؤدي إلى أي تناقض مع ما جاء به الدِّين: لأن الحقيقة لا يمكن أن تتعارض مع الحقيقة بل تتفق معها وتشهد لصالحها.”
وبتعبير آخر، يجب أن تقبل العقيدة كل تقدم علمي لكونها من طبيعة أخرى غير العلم، فبالنسبة للمؤمن الحق، الوجود الإلهي يتوافق تماما بطبيعة الحال مع كل تطورات العلم التي تحرك مجال قصور الفهم دون القضاء عليه، وهو مبدأ تم استئنافه فيما بعد لكن سيء فهمه من قبل بعض المفكرين المسيحيين ولا زال إلى حدود الآن مرفوضا من لدن كل الأصوليين الدينيين، ذلك أنه قد يمكِّن رجال العقل ورجال العقيدة من العيش بذكاء تام.
وفي الأخير، ينبغي تعليم ممارسة الفكر النقدي والشكّ المنهجي والبحث المهووس عن الأدلة، وكذلك البحث عمّا يتخفى وراء أي ادّعاء مزعوم؛ إنها مهمة جد صعبة وشاقة تدفعك إلى التفكير ضد ذاتك، وإلى التساؤل باستمرار عما قد يفكر فيه أحد ما له مصلحة في الاختلاف عنك: حاول وسترى أنك تتقدم سريعا تُجاه الحقيقة التي تتماشى مع روح العاطفة والتسامح.
وإذا لم يتم ذلك في الأسرة كما في المدرسة، فإن الدّوامة ستكون رهيبة: الشباب المكوَّن بشكل سيّء سيصبح بالغا مطّلع بشكل سيّء يعطي الأسبقية للإلهاء على المعرفة وللمظهر على الحقيقة ولعدم التسامح على نكران الذات، إذ لن يقاوم أي نظام ديمقراطي.
أما على العكس إذا تم تدريس كل هذا بشكل صحيح وتكرّر باستمرار في كل مدارس العالم خاصة في مدارس الإعلام وإذا أمكن في كل الأسر، فإن وسائل الإعلام المزيِّفة والمرتكزة على الفضيحة ستندثر وسيكون فعلا للديمقراطية مستقبل.
فهل لتحقيق ذلك يجب كذلك على المدرسين والإعلاميين والمدارس ووسائل الإعلام أن تمتلك الوسائل والقوانين اللازمة؟
رابط المصدر: