الإنسان كائن مسكون بطلب الاعتراف، شغف الإنسانِ بالاعتراف يدعوه للتطلع للثناء على كل شيء يقوله ويفعله، الحبّ أسمى معاني الاعتراف. لغة الحبّ والجمال توقظ الحماسَ للحياة في أعماق الإنسان. تفسِد المعتقدات الإقصائية الحبَّ وتسممه، يعجز من يعتنق هذه المعتقدات عن حبّ المختلِف في المعتقَد. عندما يصدرُ الحبّ بقرار من سلطة سياسية أو دينية أو أيديولوجية، وتصدرُ الكراهية بقرار، ويصدرُ التضامن مع جراح الضحايا بقرار، فلا دليلَ أوضحُ من ذلك على أن الإنسانَ ماتَ في داخل الإنسان.
الحُبُّ الأصيل أثمنُ رأسمال للمعنى تمنحه الحياةُ للإنسان، حيثما يكونُ الحُبُّ يكونُ معنى الحياة. الحُبُّ يُعلِّمُ الناسَ كيف يستمعون لنداء قلوبهم، الحُبُّ أعذبُ معاني الفرح. الحُبُّ مُلهِمٌ لمعادلة تغيير الذات بلا إكراه أو قهر، معادلة التغيير في الحُبّ ديناميكية لا ميكانيكية. الحُبُّ مُلهِمٌ لكلِّ ما أنجزته الإنسانية من إبداعات واختراعات واكتشافات في مختلف العلوم والفنون والآداب، كان ومازال الحُبُّ والشغفُ يمدُّ الإنسانَ بالصبرِ الطويل والطاقةِ الضرورية لإنجاز الأحلام الكبيرة.
مهما كان الانسانُ صغيرًا أو كبيرًا يحتاج الحُبَّ والدعمَ العاطفي. الخلطةُ السحرية لمعادلة التربية والتعليم تغذّيها العواطفُ قبل العقل. متى ازدادت العواطفُ ازدادَ تحفيزُ المواهب وايقاظُ الوعي وإثراءُ المهارات، الاعترافُ بمنجز التلميذ والاعجابُ بجهوده وتشجيعُه إكسيرُ التربية والتعليم. التاريخُ البشري صنعته العواطفُ مثلما صنعه العقل. العلومُ والفلسفة والفكر صنعها العقلُ أكثر مما صنعتها العواطفُ والانفعالات والمعتقدات والهويات. تتجاذب التفكيرَ العواطفُ والمشاعر والمعتقدات والهويات من جهة، والعقلُ والتفكيرُ النقدي من جهة أخرى. الفلسفةُ والعلوم والتفكير النقدي يتغلبُ فيها العقلُ على العواطف والمشاعر والمعتقدات والهويات.
القلبُ مرآةٌ يضيؤها الحُبّ، القلبُ الذي يعيشُ الحُبَّ لا تدركه الشيخوخة، الحُبُّ يغيّر مادام متوهجًا، في الحُبّ يتجلى أجملُ ما في الإنسان، وتنبعثُ منابعُ الخير المودَعةُ في أعماقه. في التربية والتعليم الحُبُّ يغيّر؛ يوقظُ العقلَ، ويروي المواهبَ، ويطوّر المهاراتِ، ويفجّر الطاقاتِ الكامنة. في العلاقاتِ الإنسانية الحُبُّ يغيّر؛ الحُبُّ يتكفل حمايةَ الإنسان من الشرّ الأخلاقي. عندما تتحدثُ لغةُ الحُبّ تصمتُ لغةُ الشر.
أجملُ ما يتجلى في الإنسان الحُبّ، وأسمى ما يتجلى فيه الإنسانُ الحُبّ، وأنفسُ طور وجودي للإنسان الحُبّ، وأثمن وجود للإنسان الحُبّ، وأزكى وجود للإنسان الحُبّ، وأعذب صلة وجودية بين إنسان وإنسان لا ينتجها إلا الحُبّ. في بعض الحالات يتسامى الحُبُّ ليكون نمطًا لوجود الإنسان في العالَم، وذلك ما يجعلُ وجودَ هذا الإنسان ضروريًا لتغذية الحياة بأبهج معانيها. ليس هناك ما يُشعِر الإنسانَ بمتعة وجوده في العالَم كالحُبّ.
كلُّ مجتمع يتوطّنه الحُبُّ، والفنُّ، والتدينُ العقلاني الأخلاقي، تتوطّنه قيمُ احترام المختلِف في المعتقَد، والعيش المشترَك في إطار الاختلاف والتنوع، وإن كان مثلُ هذا المجتمع يظلُّ حلمًا أكثر من تحقّقه في الواقع. الدينُ والحُبُّ والفنُ يغذّي كلٌّ منها الآخرَ ويتغذّى منه. الرؤيةُ الجمالية لله والعالم تتوالدُ من التفاعل الإيجابي الخلّاق لهذه العناصر الثلاثة.
تظلّ المحبّةُ الرصيدَ الأسمى للعلاقات الإنسانية، مَنْ يوقفُ حياتَه للاستثمار في المحبّة يراها دواءً للقلوب، ولكلِّ داء في حياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية. المحبّةُ رافدٌ غزير يغذّي الصلةَ بالله ويكرّسها. العرفانُ في الأديان يوقظُ في الأرواح لغةَ الحُبّ والجمال.
الحُبُّ كيمياءٌ تصهرُ عناصرَ متنوعة في حياة الإنسان فتنتج توليفةً كأنها إكسيرٌ يحوّل كلَّ شيء إلى نفيس، وكذلك تفعل الرحمةُ عندما تنطقها لغةُ القلب المشفِقة، الرحمةُ تعيدُ ترميمَ كلِّ شيء تتفاعل معه في حياة الإنسان؛ تشفي جروح الروح، وتبعث طاقة حيوية تعيد بعث الأمل في الأرواح اليائسة، لكن لا الحُبّ ولا الرحمة بديلان للعدالة والعقوبات والقوانين والأنظمة والخطط والبرامج الضرورية لبناء الدولة وإدارة شؤون الناس، وحماية الحياة الشخصية والمجتمعية من الشرّ الكامن داخل الإنسان.
العقلُ والعلم والمعرفة لا تكفي وحدها لتطهير الإنسان من الشرّ الكامن في باطنه. الإيمانُ والمحبّة والأخلاق هي ما يخفضُ وطأةَ الشرّ الأخلاقي في الأرض. الإنسان الأخلاقيُ الخالص والإنسانُ الكامل يتنكّرُ له الواقع لأنه لا يُشبِه طبيعةَ الإنسان، وعلى فرض وجوده فهو استثناءٌ نادر.
لا يمكن الاستغناءُ عن العدالة بالرحمة، الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالة في بناء أيّة جماعة بشرية أو بناء أيّة دولة. الظلمُ مقيمٌ في الأرض، وعيشُ الإنسان وتأمينُ متطلباته الحياتية يفرض عليه الكدحَ والتنافسَ والصراع، العدالةُ تمنع من أن ينتهي تأمينُ الإنسان لمصالحه ومتطلباته إلى نزاعات دمويّة وحروب عدوانيّة.
لا مجتمعَ في الأرض يخلو من الشرّ الأخلاقي والظلم والجريمة والعنف، لا مجتمعَ في الأرض يعيش بلا قضاء وأنظمة وقوانين لإدارة حياته وتنظيم علاقاته. لا تتأسّس المجتمعاتُ والدول على الحُبّ وحده أو الرحمة وحدها أو الشفقة وحدها أو العطاء وحده. لا تعني الدعوةُ للحُبّ إلغاءَ النظم التربوية والتعليمية والإدارية والقضائية والسياسية، ولا النظم والقوانين الأساسية لبناء الدول القائمة على تداول سلمي للسلطة وأُسس علمية حديثة. لا تعني الدعوةُ للرحمة إلغاءَ القوانين الجنائية والجزائية العادلة، ولا تعني الدعوةُ للإنفاق والعطاء إلغاءَ الملكية الشخصية، ولا تعني الدعوةُ للذكاء العاطفي في الإدارة إلغاءَ النظام الإداري الحديث. الدعوةُ لشيء لا تعني إلغاءَ ما سواه.
إن افتراضَ بناء مجتمع على الرحمة وحدها افتراضٌ غير واقعي، لأن مثلَ هذا المجتمع لا يمكن أن يتحقّقَ مادام الإنسانُ إنسانًا، لكن تظلّ الرحمةُ قيمةً إنسانية رفيعة، تسمو بحياة الفرد والجماعة، بوصف الرحمةِ تنفي بعضَ العقوبات عفوًا، أو تخفض من شدّة بعض العقوبات الأخرى القاسية، وبوصفها هدفًا نبيلًا ينشده الدينُ ليوقظ به ضميرَ الإنسان ويسمو به إلى أجمل حالة إنسانية يمكن أن تتحلّى بها شخصيتُه.
الرحمةُ تنتج ما لا تنتجه العدالةُ، من الرحمةِ يتوالدُ الغفرانُ والعفوُ والعطفُ والرفقُ واللينُ والشفقةُ، لذلك يستطيعُ مَنْ يعيش الرحمةَ بوصفها حالةً أن يتحمّلَ الأقوال والأفعال المؤذية الصادرة عن الآخر، كما يستطيعُ العفوَ عنها. الرحيمُ يتحمّلُ ما لا يتحمّله غيرُهُ، ويعفو عمَّا لا يعفو عنه سواهُ من البشر.
الكائنُ البشري ليس رحيمًا بالطبع، بل إنّه ينزعُ بطبيعته للتسلّطِ على الآخرين؛ ليسحوذَ على كلّ شيء في حياتهم، ولعلّ في ذلك سرَّ تركيزِ القرآن الكريم على الرحمةِ وكثافةِ حضورها فيه، ووضعِها إطارًا مرجعيًا وبوصلةً دلاليّةً تُرشِد لما تؤشّر إليه مدلولاتُ سورِه وآياتِه. الرحمةُ حالةٌ يمكن أن يعيشها الكائنُ البشري، وإن كان لا يتّصفُ بها بيسر، ولا يتمثّلها بسهولة، بل لا يطيقها أكثرُ الناس، لأنها شديدةٌ على النفس، وطالما عجز الكائنُ البشري عن التحققِ بها، إذ إن نزعاتِ العدوان التي تترسّب في أعماقِ هذا الكائنِ تمنعه من امتلاكِها.
الإنسانُ كائنٌ أحيانا يتغلّب في حياته الشرُّ على الخير، والتوحّشُ على الرحمة. ولولا الأخلاقُ والدينُ والقانونُ لم تكن الحياةُ ممكنة. الأخلاقُ والأديانُ والقانونُ خفّضت كثيرًا من الطاقة التدميرية للتوحّش في الأرض، فأضحت حياتُه ممكنة. لا يتأنسنُ الإنسانُ إلّا بالرحمةِ، ومن دونها يتساوى هذا الكائنُ وأيَّ وحشٍ مفترس. الكائنُ البشري ليس خيّرًا بالطبع، إنّه مستعدٌ بالقوة أن يكون خيرًا أو أن يكون شريرًا، ونادرًا ما يتخلّص إنسانٌ في نشأتِه من آثار العواملِ التي تكوّن نواةَ السلوك العدواني في شخصيته، ولولا ذلك لكان معظم الناس رحماء. يتطلّب خفضُ تأثيرِ هذه العوامل على سلوكِ الإنسان أن ينشأ في بيئةٍ تربويّةٍ صحيّةٍ، وتنمو شخصيتُهُ في فضاءِ تربيّةٍ أخلاقيّةٍ صالحة، وحياةٍ روحيّةٍ مُلهِمة، وثقافةٍ حيويةٍ متنوّعة، كي تترسّخ في شخصيته النزعاتُ الخيرية، وتولد في روحه بذرةُ المحبةِ وتنمو وتتجذّر باستمرار؛ بوصفها طاقةً ملهمةً لأجمل معاني الحياة، ولكلِّ ما يُكرّس الرحمةَ وما يتوالد عنها من قيمِ العفوِ والغفرانِ والشفقةِ على الخلق، وما يحمي الكائنَ البشري من الاغترابِ الوجودي.
وكلُّ ذلك لا ينجزه إلّا فهمٌ بديلٌ للدين، وموقفٌ مختلف لنمطِ الصلةِ بالله، ورؤيةٌ جديدة للعالَم، وإرادةٌ جديّةٌ في تبنّي العلومِ والمعارفِ والخبراتِ الإنسانيةِ الجديدة، والخلاصُ من الغرام بعلومِ ومعارفِ الموتى التي نسخت أكثرَها العلومُ والمعارفُ الحديثة، لكن المؤسفَ أن أكثرَ ذلك ما زالت تفتقر إليه مجتمعاتُ عالَم الإسلام(1).
1 – الرفاعي، عبد الجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص 23، ط 2، 2018، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، دار التنوير، بيروت.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/37879