ألقت المعارك المستمرة في أوكرانيا مزيدًا من الضوء على الأدوار التكتيكية المركبة للطائرات بدون طيار في الحروب الحديثة، ومن ضمنها الأدوار الهجومية البحتة التي لم تنفذها فقط الطائرات الهجومية بدون طيار الحاملة للصواريخ والقنابل، بل نفذتها كذلك “الذخائر الجوالة” التي يطلق عليها أيضًا “الذخائر المتسكعة”، وهي نوع من أنواع الطائرات بدون طيار يستخدم نمطًا “انتحاريًا” في تنفيذ هجماته.
أهمية هذا النوع من أنواع الطائرات بدون طيار لم تظهر للمرة الأولى في الميدان الأوكراني، بل ظهرت سابقًا -بشكل ربما أكثر وضوحًا- في معارك إقليم “ناجورنو قره باغ” التي دارت رحاها أواخر عام 2020 بين الجيشين الأذربيجاني والأرميني، وهي معارك كانت بمثابة إعلان مدوٍ عن شكل جديد كليًا من التكتيكات العسكرية، يعتمد بشكل أساسي على التنسيق والتكامل بين عدة أنواع من الطائرات بدون طيار، لتنفيذ هجمات مركبة تستهدف في الوقت الحقيقي مرابض المدفعية ومنصات الدفاع الجوي المعادية، وهو ما كان له أثر أساسي في تحقيق القوات الأذربيجانية نتائج ميدانية مهمة لم يسبق أن حققتها خلال الجولات السابقة للقتال.
تاريخ عتيق لفكرة “الذخائر الجوالة”
على عكس الاعتقاد السائد بحداثة فكرة “الذخائر الجوالة”، تشير الوقائع التاريخية إلى أن هذه الفكرة تعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى، حيث شكل “الطوربيدان” الأمريكيان الطائران “كيرتس سبيري” و”ليبرتي أيجل” البداية الحقيقية لتطبيق فكرة الذخائر الجوالة على أرض الواقع؛ فقد اختبرت البحرية الأمريكية الطوربيد “كيرتس سبيري” للمرة الأولى عام 1917، بعد أن قامت بتعديلات على بعض أنواع “الطوربيدات” المضادة للغواصات، وحولتها إلى ما يشبه “الدرونز” المزودة بأجنحة مزدوجة وشحنات متفجرة. سلاح الجو الأمريكي من جانبه طوّر بناء على هذا النموذج “الطوربيد” الطائر (ليبرتي إيجل)، الذي أُنتجت بضعة عشرات منه، إلا أن كلا النوعين لم يستخدما ميدانيًا خلال الحرب العالمية الأولى، وتوقف برنامج تطويرهما وإنتاجهما بحلول عام 1920 نتيجة لمشاكل في التمويل.
عاد الاهتمام العسكري الأمريكي بتطوير الذخائر الجوالة مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية، حين شرع سلاح الجو الأمريكي مطلع عام 1941 في برنامج أطلق عليه اسم “أفروديت”، بهدف تحويل القاذفات الثقيلة المتقادمة في ترسانته من نوع “بي-17 فورتريس” إلى ذخائر جوالة تحمل داخل بدنها نحو عشرة أطنان من المتفجرات، وقد طوّر الجيش الأمريكي حينها تقنية تعتمد على التحكم اللا سلكي، من أجل التحكم بالقاذفة عن بعد وتوجيهها لأهدافها، عبر طائرة مرافقة، بعد أن يقوم الطيار والمهندس المساعد له بالإقلاع بالقاذفة وتوجيهها في الاتجاه الذي يوجد فيه الهدف، ومن ثم يقفزان من الطائرة بعد أن يضبطا أجهزة الطائرة ويقوما بتفعيل المتفجرات الموجودة على متنها.
لكن رغم محاولات عديدة تمت من أجل تنفيذ هجمات ناجحة بهذه القاذفات المعدلة، فإنها لم تنجح سوى في تنفيذ مهمة واحدة من ضمن خمس عشرة مهمة تم تكليفها بها خلال فترة الحرب، وفي بعض الأحيان أدى استخدام هذه القاذفات إلى خسائر في أرواح الطواقم التي كانت تعمل على إيصالها إلى قرب أهدافها، وهذا هو نفس الحال فيما يتعلق بالتعديلات التي قامت بها البحرية الأمريكية ضمن مشروعها المسمى “أنفيل” لتعديل بعض القاذفات الثقيلة من نوع “بي-24 ليبراتور”، فكانت النتائج مقاربة لنتائج استخدام قاذفات “بي-17” المعدلة.
وخسرت الولايات المتحدة خلال عامي 1944 و1945 عددًا من الطيارين أثناء تنفيذهم لمهام توجيه القاذفات نحو أهدافها، ومنهم “جوزيف كينيدي” شقيق الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي، الذي قتل هو ومساعده في أغسطس 1944 بعد انفجار القاذفة التي كانوا يستقلونها؛ نتيجة خلل طرأ على آلية تفجير الشحنة المتفجرة التي كانت تحملها.
جدير بالذكر أن ألمانيا النازية كانت لها تجربة مهمة في هذا الصدد عبر برنامج “ميستيل”، حين قامت بتعديل مجموعة من مقاتلات “ميسرشميت بي أف-109″، وتحميلها بما تصل زنته إلى طنين من المتفجرات في الطائرة الواحدة، بحيث يتم نقل كل طائرة على متن قاذفات من نوع “يونكرز”، ومن ثم يتم تحريرها وإطلاقها عبر التحكم اللاسلكي نحو هدفها بعد اقتراب القاذفات منه.
كان الاستخدام الأول لهذه الطائرات في يوليو 1943، خلال معركة “نورماندي” في فرنسا، وبشكل عام تم صنع 250 طائرة من هذا النوع، لكن لم يحمل سجلها العملياتي نجاحات تذكر، سوى في مواجهة تقدم قوات الاتحاد السوفيتي في الجبهة الشرقية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، توقفت لفترة المساعي الأمريكية لإنتاج ذخائر جوالة بشكل كمي، لكن تم اعتماد فكرة تحويل القاذفات والمقاتلات المتقادمة إلى ذخائر جوالة بعد اندلاع الحرب الكورية، فبدأ سلاحا البحرية والجو الأمريكيين في استخدام المقاتلات المعدلة “إف 6 إف – هيلكات”، كذخائر جوالة يتم التحكم بها لاسلكيًا، وتحمل قنابل زنة طن واحد منذ مطلع عام 1952.
لكن كان التطور الجذري فيما يتعلق بهذه الطائرات أنها كانت مزودة بأجهزة بث تلفزيوني تتيح للطيارين المتحكمين بها من منصة مرافقة “سفينة أو طائرة”، رؤية الأهداف بشكل مباشر، لكن لم تحقق هذه الطائرات نجاحًا يذكر، سوى في مهمة واحدة، فتراجعت الخطط الأمريكية لتطوير هذا النوع من الطائرات بدون طيار، وانتعشت بدلًا منها برامج إنتاج الصواريخ والقنابل الموجهة.
نقطة بداية انتشار الذخائر الجوالة حول العالم
ظلت التوجهات العالمية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي فيما يتعلق بالأنظمة الجوية المتحكم بها عن بعد منصبة على استخدامها كأهداف لتدريب الدفاع الجوي، أو تنفيذ عمليات الاستطلاع والمراقبة، أو استخدامها كشراك خداعية لإظهار مواضع وجود وحدات الدفاع الجوي المعادية، كما حدث عام 1973 في سيناء، وعام 1982 في لبنان.
لكن استفادت إسرائيل من هذه التجارب، وكانت فعليًا الدولة الأولى التي بدأت، منتصف تسعينيات القرن الماضي، في إنتاج مجموعة من الذخائر الجوالة، على رأسها الذخيرة الجوالة “دليلة”، التي دخلت الخدمة في القوات الجوية الإسرائيلية منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهي تطوير إسرائيلي للطائرة الهدفية أمريكية الصنع “شوكار”، وقد كان هذا التطوير في البداية مرتكزًا على أن يكون في نفس اتجاه الطائرات الهدفية، لكن تم تعديل هذا التطوير ليتحول إلى صاروخ جوال يبلغ مداه الأقصى 250 كيلو مترًا، ويوجه إما بالتوجيه الداخلي أو عن طريق “الجي بي إس”، ويتميز بهامش خطأ ضئيل يبلغ مترًا واحدًا فقط، ورأس حربي يبلغ وزنه 30 كيلو جرامًا.
النوع الثاني من أنواع الذخائر الإسرائيلية الجوالة هي الذخيرة الجوالة “Harpy” التي تم تصميمها بصفة أساسية لمشاغلة ومهاجمة رادارات الدفاع الجوي، ويبلغ مداها الأقصى 500 كيلو متر، وسرعتها القصوى 185 كيلو مترًا في الساعة، وزنة رأسها الحربي تبلغ 32 كيلو جرامًا. يتم إطلاق هذه الذخائر من شاحنة تحمل ثمانية عشر منصة إطلاق، ويتم إدخال بيانات مسار التحليق والأهداف إليها قبل الانطلاق، ومن ثم تبحث عن أهداف لتدميرها أو يتم تدميرها ذاتيًا إن لم تعثر على أهدافها، وقد صدّرتها إسرائيل إلى عدة دول من بينها الهند والصين وكوريا الجنوبية وتشيلي وتركيا.
في الفترة التي تلت العام 2000، قامت الصناعات الحربية الإسرائيلية بإنتاج الذخيرة الجوالة “Harop”، والتي تعد تطويرًا للذخيرة الجوالة “Harpy”، لكنها تتميز بمقاومتها للرصد الراداري ولعمليات التشويش، وإمكانية إعادتها مرة أخرى إلى موقع الإطلاق في حالة عدم استهدافها لأية أهداف. يتم توجيهها عن طريق التحكم عن بعد أو بتتبع الأشعة المنبعثة من محطات الرادار المعادية، ويبلغ مداها الأقصى 1000 كيلومتر، ويمكن إطلاقها من كافة الوسائط البحرية أو البرية أو الجوية، وتمتلك هذه الذخيرة كل من تركيا والهند وألمانيا وأذربيجان.
تمتلك إسرائيل حاليًا نحو أحد عشر نوعًا من أنواع الذخائر الجوالة، منها ما هو صغير الحجم، مثل الذخيرة الجوالة “Rotem-l” التي يبلغ مداها الأقصى عشرة كيلو مترات وتحمل رأسًا متفجرًا زنته كيلو جرامًا واحدًا، وتستطيع التحليق المتواصل لمدة 45 دقيقة وتتميز بخفة وزنها الذي يبلغ أربعة كيلو جرامات، وسهولة استخدامها ميدانيًا، وإمكانية إلغاء عملية الهجوم بعد انطلاقها وإعادتها مرة أخرى إلى القاعدة.
من الأمثلة الحديثة الأخرى للذخائر الإسرائيلية الجوالة الذخيرة الجوالة “Sky Striker” التي أعلنت عنها شركة “ألبيت” الإسرائيلية عام 2016، وتستطيع التحليق بشكل متواصل لمدة تتراوح بين ساعة وساعتين، وتبلغ زنة الرأس الحربي المزودة بها ما بين خمسة إلى عشرة كيلو جرامات، ويتم توجيهها كهروبصريًا إلى هدفها، وتتميز بسرعة هجوم كبيرة تبلغ خمسمائة كيلو متر في الساعة. أحدث ما تم إنتاجه من الذخائر الجوالة الإسرائيلية تم الإعلان عنه عام 2017 وهي الذخيرة الجوالة “Green Dragon”، التي يبلغ مداها الأقصى 40 كيلو مترًا ومزودة برأس حربي تبلغ زنته ثلاثة كيلو جرامات، ويصل مدى تحليقها إلى نحو ساعة ونصف، ويتم إطلاقها من منصات أرضية.
في الوقت الحالي، تقوم نحو 16 دولة -بجانب إسرائيل- بتصنيع الذخائر الجوالة محليًا، وهذه القائمة تشمل كلًا من أرمينيا وأستراليا وأذربيجان وروسيا البيضاء والصين وإندونيسيا والهند وإيران وبولندا وروسيا وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. التجارب الأهم فيما يتعلق بتصنيع الذخائر الجوالة ربما تتعلق بشكل أكبر بكل من إيران وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي تجارب ظهرت آثارها بشكل أوضح خلال بعض النزاعات العسكرية المعاصرة، والتي شهدت استخدامًا لهذه التقنية من جانب بعض الجيوش النظامية والجماعات المسلحة.
حرب “ناجورنو قره باغ”.. الظهور الأوضح للذخائر الجوالة
من الجائز اعتبار جولة القتال التي دارت رحاها بين أرمينيا وأذربيجان بين شهري يوليو وسبتمبر 2020 في إقليم “ناجورنو قره باغ” بمثابة المثال الأكثر وضوحًا حتى الآن لاستخدام الذخائر الجوالة قتاليًا، حيث لعبت هذه الذخائر بشكل خاص، والطائرات بدون طيار بشكل عام، دورًا رئيسًا في ترجيح الكفة الأذربيجانية. يمتلك الجيش الأذربيجاني أحد عشر نوعًا مختلفًا من الطائرات بدون طيار، بعضها ذخائر جوالة مثل الذخائر الإسرائيلية “Harop وSky Striker وOrbiter-1K، Orbiter-3″، استخدم منها خلال اشتباك عام 2020 نوعين فقط هما “Orbiter-1K” و”Harop”.
النقطة الجديرة بالذكر فيما يتعلق بهذا الاشتباك تتمثل في أن استخدام الذخائر الجوالة جاء في إطار خطة عامة لاستخدام الطائرات بدون طيار، بحيث تكامل استخدام الذخائر الجوالة مع نشاط الطائرات الاستطلاعية بدون طيار، وطلعات الطائرات الهجومية بدون طيار من نوع “بيرقدار”. النوع الأول من أنواع الذخائر الجوالة الذي تم استخدامه في هذه الجولة هو الذخيرة الجوالة إسرائيلية الصنع “Orbiter-1K”، والتي استخدمتها القوات الأذربيجانية بشكل مركز في استهداف قطع المدفعية والدبابات الأرمينية. خلال الفترة بين عامي 2016 و2019، تلقى الجيش الأذربيجاني نحو مائة ذخيرة جوالة من هذا النوع، وقام بعد ذلك بتصنيع هذه الذخائر محليًا تحت اسم “Zerba”، وتحمل كل ذخيرة من هذا النوع ما بين 1 و2 كيلو جرام من المتفجرات، واستخدمت بشكل خاص لاستهداف شاحنات نقل الذخيرة التي تقوم بإمداد مواقع المدفعية الأرمينية داخل الإقليم.
الذخيرة الجوالة الثانية هي الذخيرة “Harop” التي سبق ذكرها، وقد بدأت أذربيجان في تلقي أول دفعات منها بين عامي 2015 و2016. الاستخدام الأكبر لهذه الذخائر خلال الجولة القتالية التي دارت أواخر عام 2020 كان لاستهداف الحافلات وشاحنات نقل الجنود الأرمينية التي كانت تنقل الجنود والعتاد لتعزيز مواقع القوات المدافعة عن الإقليم أثناء المعارك، وكذلك تم استخدامها لمهاجمة مقرات قيادة الكتائب المدرعة الأرمينية، ويعد المقطع الراداري الضئيل والذي يبلغ 0.5 متر مربع فقط من أهم مميزات هذه الذخيرة، لذا تعذر رصدها واستهدافها من الدفاعات الجوية الأرمينية، التي كانت تتكون أساسًا من أنظمة قديمة تعود إلى الحقبة السوفيتية.
الذخائر الجوالة الإيرانية … بين غزة واليمن وبحر العرب وأوكرانيا
ربما من المفارقات المتعلقة بالذخائر الجوالة أن التجربة الإيرانية فيما يتعلق بها -وهي تجربة مهمة وزاخرة بالتجارب الميدانية- ترتبط بعدة اتجاهات جغرافية مترامية الأطراف، ما بين الأراضي الفلسطينية، والأراضي اليمنية، وسوريا وبحر العرب وبحر عمان، وصولًا إلى الأراضي الأوكرانية. تمتلك طهران نحو اثني عشرة نوعًا من أنواع الذخائر الجوالة، بداية من الذخيرة الجوالة “أبابيل-2 تي”، التي تعد أساس تصنيع الذخائر الجوالة في إيران، وتم تزويد معظم الجماعات المرتبطة بإيران في الخارج بها تحت اسماء مختلفة “قاصف – شهاب”، مرورًا بالطائرات الهدفية والاستطلاعية التي تم تعديلها لتصبح ذخائر جوالة مثل “كرار – رعد – أراش”، وصولًا إلى الأجيال الأحدث والأكثر أهمية في هذه السلسلة وهي “شاهد-131” و”شاهد-136″، اللذين تكرر ظهورهما في عدة نقاط جغرافية خلال الفترات الماضية، من بينها أوكرانيا.
فيما يتعلق بالميدان اليمني، امتلكت جماعة “أنصار الله” الحوثيين -بمساعدة طهران- عدة أنواع من الذخائر الجوالة، من بينها الذخيرة الجوالة “قاصف -1″، وهي نسخة من الذخيرة الجوالة الإيرانية “أبابيل”، ومزودة بمحرّك يعمل بالبنزين توفّر لها مدى يصل إلى 100 كيلو متر، ومدة تحليق متواصل تصل إلى ساعتين، وتم تسليحها برأس متفجر تصل زنته إلى 30 كيلو جرام. في يوليو 2019، استخدمت الجماعة نوعًا جديدًا من أنواع الذخائر الانتحارية تحت اسمي “صماد-2” و”صماد-3″، في استهداف منشأة تابعة لشركة أرامكو النفطية في الرياض، ويبلغ مدى النوعين 1500 كيلو متر، وزنة رأسهما الحربي تتراوح بين 70 إلى 100 كيلو جرام.
من الذخائر الجوالة الأخرى التي تزودت بها هذه الجماعة الذخيرة الجوالة “قاصف-تو كيه”، التي تم استخدامها للمرة الأولى في يناير 2019 لاستهداف قاعدة العند الجوية جنوبي اليمن، ويتميز بأنه لا يصطدم بشكل مباشر بالهدف كما هو الحال عليه في “الدرونز” الانتحارية المماثلة، لكنه عوضًا عن ذلك ينفجر فوق الهدف بمسافة تتراوح بين 10 إلى 20 مترًا، مما يسهم في نشر الموجة التدميرية بطريقة أكثر فاعلية.
آخر الذخائر الجوالة التي أعلنت الجماعة عن امتلاكها، كانت في مارس 2021، وهي الذخائر الجوالة “خاطف-1” و”خاطف-2″، بجانب الذخيرة الجوالة “وعيد” التي تعتبر أكثر ما يلفت الانتباه في ترسانتهم الحالية من الذخائر الجوالة؛ نظرًا إلى أنها ظهرت في أوكرانيا وبحر العرب، بجانب ظهورها في اليمن.
ففي 31 يوليو 2021، تعرضت ناقلة النفط “ميرسير ستريت”، المملوكة في الأصل لشركة يابانية، لكن تؤجرها مؤسسة “زودياك” الملاحية، التي يملكها رجل الأعمال الإسرائيلي إيال عوفر، لهجوم جوي قبالة ساحل عمان، تسببت فيه ذخيرة جوالة أصابت هدفها بشكل دقيق، لتشكل بهذا سابقة أولى في تاريخ الحوادث البحرية؛ إذ لم يسبق استخدام الطائرات دون طيار في أية هجمات بحرية على الإطلاق.
وقد أدى تطابق الأثر التدميري الذي أصاب الناقلة الإسرائيلية مع الأضرار التي أصابت منشآت شركة “أرامكو” السعودية في منطقتي “بقيق” و”هجرة خريص” في سبتمبر 2019، بعد هجوم واسع شنته جماعة أنصار الله “الحوثيين” باستخدام مجموعة من الذخائر الجوالة إيرانية المنشأ، إلى إلقاء الضوء بشكل أكبر على دور ذخائر “شاهد-136” الإيرانية الجوالة، ونسخها المختلفة.
فقد اتضح من عملية فحص القطع التي جمعتها البحرية الأمريكية في موقع هذا الحادث، خاصة جنيحات ضبط التوازن التي تكون على طرفي جناحي الذخيرة الجوالة أنها تعود في الغالب للذخيرة الجوالة الإيرانية “شاهد-136″، التي ظهرت للمرة الأولى في يناير 2021 خلال مناورات “الرسول الأعظم – 15” التي نفذها الحرس الثوري الإيراني في عدة مناطق بجنوب إيران أوائل العام الجاري (مزيد من التفاصيل حول هذه المناورات في المادة المعنونة: الرسائل البحرية … قراءة في المناورات الصاروخية الإيرانية الأخيرة).
اللافت هنا أن ذخائر “شاهد-136” تمت تجربتها خلال المناورات الإيرانية سالفة الذكر دون الإشارة إلى اسمها، على عكس بقية المنظومات التي تم استخدامها خلال هذه المناورات، بما في ذلك أنواع أخرى من الذخائر الجوالة مثل “أراش”، وهي في الأساس طائرة هدفية لتدريب الدفاع الجوي، تم تحويرها منذ سنوات لتصبح بمثابة ذخيرة جوالة تصطدم بالهدف مباشرة، ومزودة بآلية إطلاق مشابهة لآلية إطلاق الذخائر الجوالة إسرائيلية الصنع “هاروب”.
جدير بالذكر أن شهر نوفمبر 2022 شهد هجومًا مماثلًا استهدف ناقلة النفط “باسيفيك زيركون” التي ترفع علم ليبيريا في خليج عمان، والتي تشغلها شركة “ايسترن باسيفيك” للملاحة، ومقرها في سنغافورة، وهي شركة يملكها الملياردير الإسرائيلي عيدان عوفر، وأشارت البقايا الناتجة عن هذه الحادثة أيضًا إلى ذخائر “شاهد-136”.
ظهرت الذخائر الجوالة أيضًا في حوزة الفصائل الفلسطينية خلال اشتباكها مع الجيش الإسرائيلي على حدود قطاع غزة في مايو 2021، وتحديدًا كتائب القسام، التي استخدمت الذخائر الجوالة للمرة الأولى، تحت اسم “شهاب”، وهي تشبه إلى حد بعيد ذخائر “أبابيل” الإيرانية الجوالة، ونسختها اليمنية “قاصف”. استخدمت كتائب القسام هذه الذخائر عدة مرات، حيث هاجمت بها مواقع الوحدات العسكرية الإسرائيلية المتواجدة في مستوطنات “سدوت نحيف” و”شاعر هنيعف” و”أشكول”، بجانب تنفيذها هجومًا ناجحًا على مصنع للكيماويات في مستوطنة “نير عوز”.
جدير بالذكر أن أحدث الذخائر الجوالة الإيرانية -وهي الذخائر الجوالة قصيرة المدى “Meraj521”- تم الإعلان عنها في أكتوبر 2022، خلال مناورات للجيش الإيراني، لكن سبق وظهرت في العراق في يونيو 2021، حيث تمكنت القوات العراقية من إسقاط إحداها في منطقة الكرطان جنوبي العاصمة بغداد
شاهد-136 في أوكرانيا وأنواع أخرى من الذخائر الجوالة
فيما يتعلق بالذخائر الجوالة في الميدان الأوكراني، استخدمت كل من موسكو وكييف عدة أنواع من هذه الذخائر، منها أول ذخيرة جوالة تستخدمها موسكو في أوكرانيا، وهي الذخيرة الجوالة “KYB-BLA”، التي تم الكشف عنها للمرة الأولى عام 2019، وتتزود برأس حربي زنته 3 كيلو جرامات، وتستطيع التحليق لمدة نصف ساعة متواصلة، وتنفيذ هجمات بسرعة تصل إلى 130 كيلو متر في الساعة. تم توثيق استخدام هذه الذخائر ضد مواقع بالعاصمة الأوكرانية، بداية من الثاني عشر من مارس الماضي.
النوع الثاني من الذخائر الروسية الجوالة الذي تم استخدامه في أوكرانيا هو الذخيرة الجوالة “لانسيت”، التي تنتجها نفس الشركة التي تنتج الذخيرة الأولى -شركة “ZALA”- وقد سبق وتم اختبار هذه الذخيرة في سوريا عام 2021، وتم تسجيل استخدامها في أوكرانيا للمرة الأولى في يوليو الماضي، واستخدمت بشكل أساسي لاستهداف مرابض المدفعية والدفاع الجوي الأوكرانية، خاصة في إقليم الدونباس. النسخة التي تم استخدمها من هذه الذخيرة هي النسخة الأحدث “Lancet-3” التي تم تزويدها برأس متفجر تبلغ زنته 5 كيلو جرام، وتستطيع التحليق بشكل مستمر لمدة 40 دقيقة، بسرعة تصل إلى 110 كيلو مترات، ويصل مداها الأقصى إلى 40 كيلو مترًا.
النوعان الثالث والرابع من الذخائر الجوالة التي استخدمتها روسيا في أوكرانيا كانت الذخائر الجوالة “Geran-1” و”Geran-2″، والتي تعد نسخًا طبق الأصل من الذخائر الجوالة إيرانية الصنع “شاهد-131″ و”شاهد-136” على التوالي. الظهور الأول لهذه الذخائر كان في سبتمبر الماضي، خلال هجوم روسي على مدينة “كوبيانسك” الأوكرانية، ثم شاركت أعداد كبيرة من هذه الذخائر، في الهجوم الكبير الذي نفذته القوات الروسية في السابع عشر من أكتوبر الماضي، على عدة مدن أوكرانية، واستخدمت فيه نحو 50 ذخيرة جوالة من هذا النوع.
لا تتوفر معلومات كافية عن المواصفات الفنية لكلا النوعين، لكن تشير التقديرات إلى أن النوع الأكبر “شاهد-136” يصل وزنه الإجمالي إلى 200 كيلو جرام، ومداه الأقصى يصل إلى 2500 كيلو متر، في حين تصل زنة النوع الأصغر “شاهد-131” إلى 135 كيلو جرامًا، ويصل مداه الأقصى إلى 900 كيلو جرام. المكونات التي تم العثور عليها بداخل النماذج التي تم إسقاطها من هذه الذخائر تشير إلى مكوناتها الداخلية، مثل وحدات المعالجة ونظام التوجيه بالأقمار الصناعية “جلوناس”، هي في الغالب مدنية، وتشير بعض التقديرات إلى أن المحركات الخاصة بهذه الذخائر صينية المنشأ ومتاحة للاستخدام المدني.
خطورة هذه الذخائر تكمن -بجانب مداها الكبير- في رخص ثمنها وسهولة الحصول على مكوناتها، وهو ما يجعلها بديلًا أرخص للصواريخ الروسية الجوالة، ناهيك عن نجاعة استخدامها في ضرب الأهداف المدنية والعسكرية الثابتة، كما حدث في العاصمة كييف. يضاف إلى ذلك أن تكتيك استخدامها على شكل أسراب -وهو ما ظهر خلال المناورات الإيرانية المتعاقبة خلال الفترة الماضية وكذا في الهجمات الروسية على العاصمة الأوكرانية- تسبب في فشل الدفاع الجوي الأوكراني في التصدي لهذه الذخائر بشكل واضح، رغم بطء سرعتها، وهو ما جعل سلاح الجو الأوكراني يتدخل لإسقاط البعض منها عبر صواريخ الاشتباك الجوي القريب “أر-73”.
الذخائر الأوكرانية الجوالة في المعارك الحالية
فيما يتعلق بأوكرانيا، استخدمت كييف تشكيلة أكبر من الذخائر الجوالة خلال المعارك الحالية، أولها كان الذخائر الجوالة “سويتش بلايد-300” و”سويتش بلايد-600″، التي تنتجهما شركة “AeroVironment” الأمريكية. أرسلت الولايات المتحدة إلى أوكرانيا حتى الآن نحو 700 ذخيرة جوالة من كلا النوعين اللذين تتراوح سرعتهما بين 100 و112 كيلو متر في الساعة، ويصل مدى النوع الأول إلى 10 كيلو مترات، في حين يصل مدى النوع الثاني إلى 40 كيلو مترًا، ويستطيع الأخير التحليق بشكل متواصل لمدة 40 دقيقة، ويمتلك القدرة على استهداف الدبابات، على عكس النوع الأول.
يضاف إلى هذين النوعين، نوع أمريكي آخر من أنواع الذخائر الجوالة، وهي الذخيرة “Phoenix Ghost” التي تنتجها شركة “Aevex Aerospace”. تلقت كييف من هذا النوع حتى الآن أكثر من 700 ذخيرة، وهي مشابهة في مواصفاتها لذخائر “سويتش بلايد”، لكنها تتمتع بمدة تحليق متواصل تصل إلى ست ساعات. تلقت كييف من بولندا الذخائر الجوالة “Warmate”، بأعداد تقدر بـ 150 ذخيرة، يصل مدى الواحدة إلى 30 كيلو مترًا، وتستطيع التحليق بشكل متواصل لمدة 50 دقيقة، بسرعة تصل إلى 80 كيلو مترًا.
جدير بالذكر ان كييف تمتلك ذخائر جوالة محلية الصنع، منها الذخيرة الجوالة “RAM”، التي تستطيع التحليق بشكل متواصل لمدة 40 دقيقة، ويصل مداها إلى 30 كيلو مترًا، وتصل سرعتها القصوى إلى 70 كيلو مترًا. النوع الثاني هو “ST-35″، الذي يتم إطلاقه عموديًا، ويحلق بشكل متواصل لمدة تصل إلى ساعة كاملة، ويصل مداه إلى 30 كيلو متر، وتبلغ زنة رأسه المتفجر 3.5 كجم، ويستطيع التحليق بسرعة كبيرة نسبيًا تبلغ 140 كيلو مترًا في الساعة. هذان النوعين لم يتم إثبات استخدامهما ميدانيًا في أوكرانيا حتى الآن على عكس ما سبقهما من أنواع تم ذكرها للذخائر الجوالة، لكن يحتمل بشكل قوى استخدامهما ولو على سبيل التجربة الميدانية.
جدير بالذكر هنا أن أوكرانيا حاولت بطرق متنوعة إيجاد بدائل متنوعة للذخائر الجوالة، فقامت على سبيل المثال بتعديل بعض أنواع الطائرات الاستطلاعية بدون طيار، وتحميلها بمتفجرات وتحويلها إلى ذخائر جوالة، كما حدث في الهجوم الذي أصاب مصفاة تكرير النفط الروسية في منطقة “Novoshakhtinsk”، أو تعديل بعض الطائرات التجارية الصغيرة دون طيار، بحيث تنفجر بمجرد اصطدامها بالهدف، كما يشير الفيديو المرفق.
خلاصة القول، إن تجربة الذخائر الجوالة بشكل عام في الميادين العسكرية المختلفة تحمل ملامح جانب مهم من مستقبل الصراعات المسلحة على المستوى الدولي، رغم أن تجربتها في الميدان الأوكراني لا تحمل -مقارنة بتجربة الذخائر الجوالة في حرب ناجورنو قره باغ- ملامح تؤشر على قيمة مضافة عما سبق ملاحظته سابقًا، لكن هذا لا يعنى أن الميدان الأوكراني قد نضب من المفاجآت في هذا الصدد، خاصة في ظل تزايد احتمالات دخول أنواع إيرانية أخرى من الذخائر الجوالة في هذا الصراع، على رأسها الذخيرة الجوالة الأثقل في الترسانة الإيرانية “أراش”، وهو ما يجعلنا نستمر في النظر بشكل فاحص إلى مخرجات الميدان في أوكرانيا خلال المدى المنظور.
.
رابط المصدر: