شهدت المفاوضات المعقدة في السودان تبلور ملامح أولية لاتفاق بين المكونين العسكري والمدني على اتفاق بتشكيل حكومة تكنوقراط مدنية مستقلة، وذلك ضمن خارطة طريق تمتد لفترة انتقالية مدتها عامين، تبدأ بتكوين الحكومة الانتقالية ووضع مشروع الدستور، ومراجعة اتفاق سلام جوبا فى عام 2020، لكي يشمل جميع الحركات الموقعة والغير موقعة. فضلا عن إصلاح الأجهزة القضائية، تفكيك نظام الأخوان المسلمين فى السودان، بالإضافة إلى استرداد الأموال العامة خلال فترة حكمه التى استمرت زهاء الثلاثة عقود الماضية.
فبعد أن تسلمت الآلية الثلاثية المكونة من الاتحاد الإفريقي، مجموعة الإيجاد والأمم المتحدة، وثيقة من المكون العسكري تتضمن التعديلات على مسودة الوثيقة الدستورية، التي تم التوافق عليها من قبل المكون المدني، شهدت الساحة السياسية السودانية، حالة من التفاؤل الحذر بعد أكثر من عام من الاحتجاجات بشكل شبه يومي، فى ظل حالة الانسداد السياسي الذي أصبح يتحكم فى المشهد السياسي في البلاد.
النجاح الجزئي للآلية الثلاثية
بعد مسار شاق، تم الاتفاق على مرحلة الاتفاق الإطاري الذي يبنى على التفاهمات التي تمت بين المكونان العسكري والمدني والتي شملت تعديلات المؤسسة العسكرية حول الدستور الانتقالي الذي أعدته نقابة المحاميين. شملت التفاهمات أربعة قضايا مصيرية، أولهما: العدالة الانتقالية، ثانيهما: الإصلاح الأمني والعسكري. ثالثهما: عدم إلغاء اتفاق جوبا لسلام. رابعهما: تفكيك نظام الأخوان المسلمين فى المؤسسات الدولة السودانية. ولكن مازالت هناك العديد من البنود عالقة بين الطرفين.
ويمثل مشروع الدستور الذي قدم برعاية الآلية الثلاثية فرصة لتسوية سياسية بين أطراف العملية السياسية فى السودان، هو الأمل الوحيد للخروج البلاد من التشظي والفوضى، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وما أجل انخراط السودان فى محيطة الإقليمي تفاديا للانزلاق فى أتون الحرب الأهلية. من إيجابيات ملامح الاتفاق المقترح، أن القوى السياسية تعمل على التوافق على حاضنة سياسية جديدة فى طريقها إلى التأسيس، فضلا عن تقديم تنازلات من قبل كل من قوى الحرية والتغيير، والجبهة الثورية، كتلة واحدة تعمل على إشراك القوى السياسية الأخرى فى المرحلة الانتقالية المقبلة.
وتبدو ملامح التسوية السياسية التى ترعاها الآلية الثلاثية، ستشمل جميع الحركات المسلحة، قوى الحرية والتغيير، لجان المقاومة، القوى السياسية الأخرى، كما ان القوى السياسية التى أيدت الدستور الانتقالي، انخرطت فى عملية إعلان سياسي يمهد للتفاوض مع المؤسسة العسكرية، ومن ثم معالجة القضايا الأخرى وصولا إلى اتفاق جديدة، مع فترة انتقالية أكثر استدامة بقيادة حكومة مدنية.
وبذلك تكون الوساطة الدولية للأزمة السودانية قد اقتربت من وضع ترتيبات تساعد القوى السياسية فى السودان، لنقل السلطة للمدنيين على أساس الإعلان الدستوري الذي أعدته نقابة المحاميين فى سبتمبر 2022، وهو الترتيب الذي وجد بدوره إقبالا لدى بعض القوى السياسية السودانية، كإطار لإدارة وتكملة الفترة الانتقالية، وقد أكدت الآلية الثلاثية المكونة من الاتحاد الإفريقي، مجموعة الإيقاد والأمم المتحدة إلى مقربة إلى التوصل لتسوية سياسية شاملة لحل الأزمة فى السودان.
تبلور مظاهر الحلول الوسط
من جهة تراجعت قوى الحرية والتغيير عن شعار (اللاءات الثلاث) الذى كانت ترفعه (لا تفاوض، لا شراكة، ولا شرعية) ضد المكون العسكري، وتراجعت عن التمترس حول المعادلة الصفرية التي كان لا يمكن التفاوض عليها.
كذلك تراجعت القوى الثورية بعد أن اقتنعت بأن الساحة السياسية السودانية، تحتاج إلى تضافر الإجماع الوطنى، لتجاوز هذه المرحلة الشديدة التعقيد، خاصة فى ظل المخاطر التى تحيط بالدولة السودانية بعد الأزمات المستفحلة اقتصادية وسياسية واجتماعية بعد استمرار تعليق المساعدات الدولية، خاصة بعد أن اشترطت الدول المانحة مثل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، بأن استئناف المساعدات مرهون بعودة المسار الديمقراطي فى السودان. لاسيما أن البلاد تعيش فى أوضاع معقدة فى ظل استمرار الاحتجاجات والمظاهرات فى ولايات السودان المختلفة، مما أثر سلبا على جميع الجوانب السياسية.
كما كشفت الولايات المتحدة، عن حزمة من المساعدات الاقتصادية إلى السودان، فى حال التوصل الأطراف العملية السياسية إلى تسوية وتشكيل حكومة مدنية انتقالية. فضلا عن ضغوط دولية تمارس على فرقاء الأزمة السودانية، من أجل الخروج بتسوية سياسية تنهى الأزمة المستمرة، فيما لازالت تتحفظ الحركات المسلحة لوثيقة الدستورية التى أعدته نقابة المحاميين كأرضية لحل الأزمة، فالحركات المسلحة كلاعب ثالث في لأزمة، ترفض بدورها أى اتفاق ثنائي بين المكونان العسكري والمدني، وم تمسكه بكامل حصتها من السلطة والثروة فى اتفاق جوبا للسلام.
كذلك، وبعد ظهور ملامح التوافق المبدئي من قبل المكون العسكرى، نجد أن الوثيقة يمكن أن تنال وتجد مزيد من التوافق والقبول من المكونات الأخرى. وقفا لتك التعديلات التى ادخلها المكون العسكري، تكون بداية لإنهاء حالة الاستقطاب السياسي، وتدشن لمرحلة انتقالية جديدة فى البلاد تبدأ فى نهاية العام الجارى. بالإضافة إلى تشكل حاضنة سياسية جديدة فى طريقها أن تتكون لكي تشمل الحرية والتغيير المجلس المركزى، والمبادرة السودانية والتوافق الوطنى، والقوى السياسية الأخرى. وقد نصت التعديلات التي أضافها المكون العسكري على الوثيقة الدستورية بندا، بعدم ملاحقة قيادات الأجهزة النظامية (حصانة)، وأيضا لا يجوز اتخاذ إجراءات قانونية فى مواجهة تلك القيادات ما لم يكن الأفعال أو الامتناع في حالة المخالفة ينطوي على اعتداء بدني ونفسي.
وينص الاتفاق المقترح، على تعين رئيس وزراء يختاره المكون المدنى، بعد موافقة المكون العسكري، ويمنح موجبه المؤسسة العسكرية شكلا من أشكال الحصانة وعدم الملاحقة القانونية لقيادات المؤسسة العسكرية لاحقا، ويكون الإعلان الدستور الأخير مرجعا، للسلطات التنفيذية، بعد تعديل وإضافة بعض البنود فى الإعلان الدستوري الذي أعدته نقابة المحاميين. وأن يكون بديلا للوثيقة الدستورية التى كانت قد اتفقت عليها القوى السياسية بعد سقوط نظام البشير. ومن ثم تشكيل حكومة مدنية انتقالية مستقلة جميع وزرائها من المكون المدني، وتشمل على نطاق واسع جميع المكونات السياسية وأصحاب المصلحة.
وقد شدد الاتفاق على عدم إقصاء اى طرف من العملية السياسية، خاصة بعد قرار المكون العسكري الانسحاب من المشهد السياسي. وينص الاتفاق على إقامة دولة مدنية بنظام الحكم الفدرالي، ودمج القوات العسكرية في جيش مهني موحد. وتنقسم الخريطة السياسية فى السودان، إلى قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة وقوى مدنية أخرى، ترفض انخراط المؤسسة العسكرية فى السياسية. ووقوي سياسية أخرى ومكونات نقابية ومهنية داعمة بقوة للمؤسسة العسكرية، وأن يكون لها دوار مهما فى الفترة الانتقالية، خاصة فيما يتعلق الجوانب الأمنية والعسكرية، مما يستدعى تواجدهم فى مجلسي الأمن والدفاع، بالإضافة إلى تخصيص وزارات مقاعد لهم فى مجلس السيادة القادم. وتجرى ترتيبات موسعة من خلال اجتماعات تجمع بين المكونين العسكري والمدني، لمناقشة الأطر العملية السياسية الجديدة، التى تتيح للمكون المدني فى تشكيل سلطة مدنية كاملة، يكون فيها الفريق عبد الفتاح البرهان قائدا للجيش، ونائبه محمد حمدان دقلو قائدا لقوات الدعم السريع.
ومن جهة أخرى تدخل قوى الحرية والتغيير، مع القوى الثورية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني، فى اجتماعات من أجل الإعلان النهائي لمكون سياسي موحد ويمثل جميع السودانيين بهدف تشكيل جبهة عريضة تستكمل مرحلة الانتقال المتعثرة منذ سقوط تيار الإسلام السياسي فى إبريل عام 2019.
فرص نجاح التسوية
مع هذه التطورات تبدو هناك فرصة سانحة أمام القوى السياسية لدفع السودان قدما نحو الاستقرار وتكملة مرحلة الانتقال، حيث تحتاج القوى السياسية إلى تنحيه خلافاتهم جانبا واغتنام الفرصة لتشكيل حكومة تكنوقراط مدنية تنفذ إصلاحات اقتصادية واجتماعية.
كما أن تلك التفاهمات جاءت بعد قرار المؤسسة العسكرية بالانسحاب من المشهد السياسي، وكانت بمثابة فرصة سانحة للقوى السياسية للتوصل إلى أتفاق حول كيفية المضي قدما، فى تسوية سياسية تساعد فى الاستقرار فى السودان. لا سيما أن البروتوكولات الخاصة باتفاق جوبا للسلام لمعالجة العوامل الكاملة وراء الصراعات فى كل من دارفور، والنيل الأزرق وشرق السودان، لا تزال غير محققة فى ظل غياب اتفاق سياسي سيكون من الصعب المضي قدما فى مثل هذه القضايا المصيرية فى البلاد.
تلك التفاهمات حتما سوف تقود إلى إزالة التباينات بين القوى السياسية حول مجمل القضايا الأساسية التي تم الإعلان عنها في التسوية السياسية بين المكونان. كما جددت المؤسسة العسكرية التزامها بإفساح المجال للقوى السياسية المدنية لتشكيل حكومة مستقلة فى الفترة القادمة. فضلا عن انخراط إطراف العملية السياسية بروح بناءة، يساعد فى أراج السودان من حالة عدم الاستقرار ومعالجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
أبرز التحديات
مع وجود حالة من الاحتراب السياسي بين المكونات السياسية، يبدو من الصعب أن تجتاز هذه القوى خلافاتها بسهولة، حيث تشظت القوى الى ثلاث او أربع كتل سياسية تبلورت لاحقا في قوى نداء السودان والتوافق الوطني والحرية والتغيير القوى الوطنية والمبادرة السودانية ومجموعة المجلس المركزي ومجموعة التغيير الجذري ست كتل سياسية كل كتلة تضغط في اتجاه رؤاها السياسية بمعزل عن القوى السياسية الأخرى كما أن نافذة الفرصة قد لا تكون مفتوحة لفترة طويلة لرسم مسار للعودة إلى العامين القادمين. لذلك يجب ان تتفق كل القوى السياسية على رؤية موحدة تبنى على الحد الأدنى وان تكون هنالك حاضنة سياسية يمكن أن تنسق فيما بينها.
ومن التحديات التى تواجه الاتفاق النهائي تتلخص فى غياب التوافق والإرادة السياسية بين القوى السياسية السودانية، فضلا عن مدى قبول للجان المقاومة التى تقود الحراك فى الشارع بتلك المخرجات التى سوف تفضي بها المفاوضات التى سوف تجرى لاحقا بين المكونان العسكري والمدني، وهى أمور لا يمكن حسمها، فى ظل عدم الثقة الكبيرة بين الشارع وقوى الحرية والتغيير فى حالة تشبثه بأساليبه القديمة (الأبواب المغلقة)، بعيدا عن القوى الثورية الشبابية التى تقود الشارع السياسي. فضلا عن إقصاء أي طرف من أطراف القوى السياسية سوف يعرقل من التفاهمات التى جرت بين المكونان العسكري والمدني، ولا يقود إلى استقرار مرحلة الانتقال، لان الفترة الانتقالية قائمة على التوافق، وليست على التكتلات التى تحدث فى العمليات الانتخابية. كما أن التفاهمات التى وقعت بين المكونان ستشمل جميع الحركات المسلحة وائتلاف قوى الحرية والتغيير، ماعدا بعض القوى السياسية الرافضة التسوية مع المكون العسكرى مثل الحرية والتغيير الجذرى، ولجان المقاومة.
خلاصة القول يجب على المجتمع الدولي والإقليمي، مضاعفة دعمه لمساعدة السودان وتعزيز الاستقرار فيه تجنبا الدخول فى صراعات داخلية معقدة تنتهي بحرب أهلية. مازالت الآلية الثلاثية تعمل على تقريب وجهات النظر بين المكونان العسكري والمدني. خاصة بعد مطالبة بعض القوى السياسية بإتاحة مساحة للمؤسسة العسكرية داخل الفترة الانتقالية بسلطات سيادية وتنفيذية وتشريعية واسعة.
وختاماً، يجب على الأطراف المعادلة السياسية فى السودان، عليهم الالتفاف حول المصلحة الوطنية، والحاجة الحتمية للحوار السياسي، وتحقيق قدرا من التوافق السياسي، يساعدهم على تجاوز التحديات التى تواجه البلاد، وتمكنهم من أكمال مرحلة الانتقال، من خلال حكومة كفاءات مستقلة، تقود إلى عملية تحول ديمقراطي متعثر، أم تستمر الأطراف السياسية فى حالة استقطاب سياسي فى تزايد يجعل الفواعل الخارجية للأزمة السودانية هى المحرك الأول للأزمة؟.
.
رابط المصدر: